تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 385 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 385

385 : تفسير الصفحة رقم 385 من القرآن الكريم

** وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ إِلاّ مَن شَآءَ اللّهُ وَكُلّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السّحَابِ صُنْعَ اللّهِ الّذِيَ أَتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ إِنّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ * مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَن جَآءَ بِالسّيّئَةِ فَكُبّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يخبر تعالى عن هول يوم نفخة الفزع في الصور, وهو كما جاء في الحديث قرن ينفخ فيه. وفي حديث الصور: إن إسرافيل هو الذي ينفخ فيه بأمر الله تعالى, فينفخ فيه أولاً نفخة الفزع ويطولها وذلك في آخر عمر الدنيا حين تقوم الساعة على شرار الناس من الأحياء فيفزع من في السموات ومن في الأرض {إلا من شاء الله} وهم الشهداء, فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون. قال الإمام مسلم بن الحجاج: حدثنا عبيد الله بن معاذالعنبري, حدثنا أبي, حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم, سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي, سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنه, وجاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تحدث أن الساعة تقوم إلى كذا وكذا؟ فقال: سبحان الله, أو لا إله إلا الله أو كلمة نحوهما, لقد هممت أن لا أحدث أحداً شيئاً أبداً, إنما قلت أنكم سترون بعد قليل أمراً عظيماً يخرب البيت ويكون ويكون ـ ثم قال ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين ـ لا أدري أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين عاماً ـ فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه, ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة, ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام, فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته, حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه» قال: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفاً, ولا ينكرون منكراً, فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون ؟ فيقولون: فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان, وهم في ذلك دارّ رزقهم حسن عيشهم, ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً ـ قال ـ وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله, قال: فيصعق ويصعق الناس, ثم يرسل الله ـ أو قال ينزل الله ـ مطراً كأنه الطل ـ أو قال: الظل, نعمان الشاك, فتنبت منه أجساد الناس, ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون, ثم يقال: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم وقفوهم إنهم مسؤولون, ثم يقال: أخرجوا بعث النار, فيقال: كم ؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين, قال: فذلك يوم يجعل الولدان شيباً, وذلك يوم يكشف عن ساق». وقوله ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً. الليت هو صفحة العنق, أي أمال عنقه ليستمعه من السماء جيداً, فهذه نفخة الفزع, ثم بعد ذلك نفخة الصعق وهو الموت, ثم بعد ذلك نفخة القيام لرب العالمين وهو النشور من القبور لجميع الخلائق, ولهذا قال تعالى: {وكل أتوه داخرين} قرىء بالمد وبغيره على الفعل, وكل بمعنى واحد, وداخرين أي صاغرين مطيعين لا يتخلف أحد عن أمره, كما قال تعالى: {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده} وقال تعالى: {ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} وفي حديث الصور أنه في النفخة الثالثة يأمر الله الأرواح فتوضع في ثقب في الصور, ثم ينفخ إسرافيل فيه بعد ما تنبت الأجساد في قبورها وأماكنها, فإذا نفخ في الصور طارت الأرواح تتوهج أرواح المؤمنين نوراً, وأرواح الكافرين ظلمة, فيقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها. فتجيء الأرواح إلى أجسادها فتدب فيها كما يدب السم في اللديغ, ثم يقومون ينفضون التراب من قبورهم, قال تعالى: {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون}.
وقوله تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب} أي تراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه, وهي تمر مر السحاب أي تزول عن أماكنها, كما قال تعالى: {يوم تمور السماء موراً * وتسير الجبال سير} قال تعالى: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً * فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمت} وقال تعالى: {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة} وقوله تعالى: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} أي يفعل ذلك بقدرته العظيمة {الذي أتقن كل شيء} أي أتقن كل ما خلق, وأودع فيه من الحكمة ما أودع, {إنه خبير بما يفعلون} أي هو عليم بما يفعل عباده من خير وشر, وسيجازيهم عليه أتم الجزاء.
ثم بين تعالى حال السعداء والأشقياء يومئذ, فقال: {من جاء بالحسنة فله خير منه} قال قتادة: بالإخلاص, وقال زين العابدين: هي لا إله إلا الله, وقد بين تعالى في الموضع الاَخر أن له عشر أمثالها {وهم من فزع يومئذ آمنون} كما قال في الاَية الأخرى: {لا يحزنهم الفزع الأكبر} وقال تعالى: {أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة} وقال تعالى: {وهم في الغرفات آمنون} وقوله تعالى: {ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار} أي من لقي الله مسيئاً لا حسنة له, أو قد رجحت سيئاته على حسناته كل بحسبه, ولهذا قال تعالى: {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون}. وقال ابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم, وأنس بن مالك وعطاء وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وإبراهيم النخعي, وأبو وائل وأبو صالح ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم, والزهري والسدي والضحاك والحسن وقتادة وابن زيد في قوله: {ومن جاء بالسيئة} يعني بالشرك.

** إِنّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الّذِي حَرّمَهَا وَلَهُ كُلّ شَيءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَىَ فَإِنّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلّ فَقُلْ إِنّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ * وَقُلِ الْحَمْدُ للّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبّكَ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ
يقول تعالى مخبراً رسوله وآمراً له أن يقول: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء} كما قال تعالى: {قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم} وإضافة الربوبية إلى البلدة على سبيل التشريف لها والاعتناء بها, كما قال تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}, وقوله تعالى: {الذي حرمه} أي الذي إنما صارت حراماً شرعاً وقدراً بتحريمه لها, كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض, فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة, لا يعضد شوكه, ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها» الحديث بتمامه. وقد ثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من طرق جماعة تفيد القطع, كما هو مبين في موضعه من كتاب الأحكام, ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: {وله كل شيء} من باب عطف العام على الخاص, أي هو رب هذه البلدة ورب كل شيء ومليكه لا إله إلا هو {وأمرت أن أكون من المسلمين} أي الموحدين المخلصين المنقادين لأمره المطيعين له. وقوله: {وأن أتلو القرآن} أي على الناس أبلغهم إياه كقوله تعالى: {ذلك نتلوه عليك من الاَيات والذكر الحكيم} وكقوله تعالى: {نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق} الاَية, أي أنا مبلغ ومنذر, {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنماأنا من المنذرين} أي لي أسوة بالرسل الذين أنذروا قومهم, وقاموا بما عليهم من أداء الرسالة إليهم, وخلصوا من عهدتهم وحساب أممهم على الله تعالى, كقوله تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} وقال {إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل} {وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونه} أي لله الحمد الذي لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه, والإنذار إليه, ولهذا قال تعالى: {سيريكم آياته فتعرفونه} كما قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الاَفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}.
وقوله تعالى: {وما ربك بغافل عما تعملون} أي بل هو شهيد على كل شيء. قال ابن أبي حاتم: ذكر عن أبي عمر الحوضي حفص بن عمر, حدثنا أبو أمية بن يعلى الثقفي, حدثنا سعيد بن أبي سعيد, سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس لا يغترن أحدكم بالله, فإن الله لو كان غافلاً شيئاً لأغفل البعوضة والخردلة والذرة» وقال أيضاً: حدثنا محمد بن يحيى, حدثنا نصر بن علي قال أبي أخبرني خالد بن قيس عن مطر عن عمر بن عبد العزيز قال: فلو كان الله مغفلاً شيئاً لأغفل ما تعفي الرياح من أثر قدمي ابن آدم, وقد ذكر عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه كان ينشد هذين البيتين إما له وإما لغيره:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقلخلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعةولا أن ما يخفى عليه يغيب
آخر تفسير سورة النمل ولله الحمد والمنة.

سورة القصص

قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا وكيع عن أبيه عن أبي إسحاق عن معد يكرب قال: أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين, فقال: ما هي معي, ولكن عليكم بمن أخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم خباب بن الأرت, قال: فأتينا خباب بن الأرت فقرأها علينا رضي الله عنه.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** طسَمَ * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نّبَإِ مُوسَىَ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مّا كَانُواْ يَحْذَرونَ
فقد تقدم الكلام على الحروف المقطعة, وقوله: {تلك} أي هذه {آيات الكتاب المبين} أي الواضح الجلي الكاشف عن حقائق الأمور, وعلم ما قد كان وما هو كائن. وقوله: {نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق} الاَية, كما قال تعالى: {نحن نقص عليك أحسن القصص} أي نذكر لك الأمر على ما كان عليه كأنك تشاهد وكأنك حاضر, ثم قال تعالى: {إن فرعون علا في الأرض} أي تكبر وتجبر وطغى {وجعل أهلها شيع} أي أصنافاً قد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته.
وقوله تعالى: {يستضعف طائفة منهم} يعني بني إسرائيل, وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل زمانهم, هذا وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العتيد يستعملهم في أخس الأعمال, ويكدهم ليلاً ونهاراً في أشغاله وأشغال رعيته, ويقتل مع هذا أبناءهم ويستحيي نساءهم, إهانة لهم واحتقاراً وخوفاً من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه أن يوجد منهم غلام, يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه. وكانت القبط قد تلقوا هذا من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه السلام, حين ورد الديار المصرية, وجرى له مع جبارها ما جرى حين أخذ سارة ليتخذها جارية, فصانها الله منه ومنعه منها بقدرته وسلطانه, فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته من يكون هلاك ملك مصر على يديه, فكانت القبط تحدث بهذا عند فرعون, فاحترز فرعون من ذلك, وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل ولن ينفع حذر من قدر, لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر, ولكل أجل كتاب, ولهذا قال تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ـ إلى قوله ـ يحذرون} وقد فعل تعالى ذلك بهم, كما قال تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون ـ إلى قوله ـ يعرشون}. وقال تعالى: {كذلك وأورثناها بني إسرائيل} أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى, فما نفعه ذلك مع قدرة الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري ولا يغلب, بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القدم بأن يكون هلاك فرعون على يديه, بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده وقتلت بسببه ألوفاً من الولدان, إنما منشؤه ومرباه على فراشك وفي دارك, وغذاؤه من طعامك وأنت تربيه وتدلله وتتفداه, وحتفك وهلاكك وهلاك جنودك على يديه, لتعلم أن رب السموات العلا هو القاهر الغالب العظيم القوي العزيز الشديد المحال, الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.