تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 386 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 386

386 : تفسير الصفحة رقم 386 من القرآن الكريم

** وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ أُمّ مُوسَىَ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيَ إِنّا رَآدّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرّةُ عَيْنٍ لّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىَ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل, خافت القبط أن يفني بني إسرائيل, فيلون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة, فقالوا لفرعون: إنه يوشك إن استمر هذا الحال أن يموت شيوخهم وغلمانهم يقتلون. ونساؤهم لا يمكن أن تقمن بما تقوم به رجالهم من الأعمال, فيخلص إلينا ذلك, فأمر بقتل الولدان عاماً وتركهم عاماً, فولد هارون عليه السلام في السنة التي يتركون فيها الولدان, وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها الولدان, وكان لفرعون ناس موكلون بذلك, وقوابل يَدُرْنَ على النساء, فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها, فإذا كان وقت ولادتها لايقبلها إلا نساء القبط, فإن ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن, وإن ولدت غلاماً دخل أولئك الذباحون بأيديهم الشفار المرهفة فقتلوه ومضوا, قبحهم الله تعالى.
فلما حملت أم موسى به عليه السلام لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها, ولم تفطن لها الدايات ولكن لما وضعته ذكراً ضاقت به ذرعاً, وخافت عليه خوفاً شديداً, وأحبته حباً زائداً, وكان موسى عليه السلام لا يراه أحد إلا أحبه, فالسعيد من أحبه طبعاً وشرعاً, قال الله تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} فلما ضاقت به ذرعاً, ألهمت في سرها, وألقي في خلدها, ونفث في روعها, كما قال تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل, فاتخذت تابوتاً ومهدت فيه مهداً, وجعلت ترضع ولدها, فإذا دخل عليها أحد ممن تخافه ذهبت فوضعته في ذلك التابوت, وسيرته في البحر وربطته بحبل عندها, فلما كانت ذات يوم دخل عليها من تخافه, فذهبت فوضعته في ذلك التابوت وأرسلته في البحر, وذهلت عن أن تربطه, فذهب مع الماء واحتمله حتى مر به على دار فرعون, فالتقطه الجواري فاحتملنه فذهبن به إلى امرأة فرعون, ولا يدرين ما فيه, وخشين أن يفتتن عليها في فتحه دونها, فلما كشف عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه, فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه, وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها, ولهذا قال: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزن} الاَية, قال محمد بن إسحاق وغيره: اللام هنا لام العاقبة, لا لام التعليل, لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك, ولا شك أن ظاهر اللفظ يقتضي ما قالوه, ولكن إذا نظر إلى معنى السياق, فإنه تبقى اللام للتعليل, لأن معناه أن الله تعالى قيضهم لالتقاطه ليجعله عدواً لهم وحزناً فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه, ولهذا قال تعالى: {إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين} وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه كتب كتاباً إلى قوم من القدرية في تكذيبهم بكتاب الله وبأقداره النافذة في علمه السابق وموسى في علم الله السابق لفرعون عدو وحزن, قال الله تعالى: {ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} وقلتم أنتم لو شاء فرعون أن يكون لموسى ولياً وناصراً, والله تعالى يقول: {ليكون لهم عدواً وحزن} الاَية.
وقوله تعالى: {وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك} الاَية, يعني أن فرعون لما رآه هم بقتله خوفاً من أن يكون من بني إسرائيل, فشرعت امرأته آسية بنت مزاحم تخاصم عنه وتذب دونه وتحببه إلى فرعون, فقالت: {قرة عين لي ولك} فقال فرعون: أما لك فنعم, وأما لي فلا, فكان كذلك, وهداها الله بسببه وأهلكه الله على يديه, وقد تقدم في حديث الفتون في سورة طه هذه القصة بطولها من رواية ابن عباس مرفوعاً عند النسائي وغيره. وقوله: {عسى أن ينفعن} وقد حصل لها ذلك, وهداها الله به وأسكنها الجنة بسببه. وقوله: {أو نتخذه ولد} أي أرادت أن تتخذه ولداً وتتبناه, وذلك أنه لم يكن لها ولد منه. وقوله تعالى: {وهم لا يشعرون} أي لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه من الحكمة العظيمة البالغة والحجة القاطعة.

** وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَىَ فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلآ أَن رّبَطْنَا عَلَىَ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لاُخْتِهِ قُصّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَحَرّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَىَ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَىَ أُمّهِ كَيْ تَقَرّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
يقول تعالى مخبراً عن فؤاد أم موسى حين ذهب ولدها في البحر أنه أصبح فارغاً, أي من كل شيء من أمور الدنيا إلا من موسى, قاله ابن عباس ومجاهد, وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيدة, والضحاك والحسن البصري وقتادة وغيرهم. {إن كادت لتبدي به} أي إن كادت من شدة وجدها وحزنها وأسفها لتظهر أنه ذهب لها ولد, وتخبر بحالها لولا أن الله ثبتها وصبرها, قال الله تعالى: {لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين * وقالت لأخته قصيه} أي أمرت ابنتها وكانت كبيرة تعي ما يقال لها, فقالت لها: {قصيه} أي اتبعي أثره, وخذي خبره, وتطلبي شأنه من نواحي البلد, فخرجت لذلك {فبصرت به عن جنب} قال ابن عباس: عن جانب. وقال مجاهد: بصرت به عن جنب عن بعد.
وقال قتادة: جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده, وذلك أنه لما استقر موسى عليه السلام بدار فرعون وأحبته امرأة الملك واستطلقته منه, عرضوا عليه المراضع التي في دارهم فلم يقبل منها ثدياً, وأبى أن يقبل شيئاً من ذلك, فخرجوا به إلى السوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته, فلما رأته بأيديهم عرفته ولم تظهر ذلك ولم يشعروا بها. قال الله تعالى: {وحرمنا عليه المراضع من قبل} أي تحريماً قدرياً, وذلك لكرامته عند الله وصيانته له أن يرتضع غير ثدي أمه, ولأن الله سبحانه وتعالى جعل ذلك سبباً إلى رجوعه إلى أمه لترضعه, وهي آمنة بعد ما كانت خائفة, فلما رأتهم حائرين فيمن يرضعه {قالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون} قال ابن عباس: فلما قالت ذلك, أخذوها وشكوا في أمرها, وقالوا لها: وما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه ؟ فقالت لهم: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في سرور الملك ورجاء منفعته, فأرسلوها, فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم, ذهبوا معها إلى منزلهم فدخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه, ففرحوا بذلك فرحاً شديداً, وذهب البشير إلى امرأة الملك, فاستدعت أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها عطاء جزيلاً, وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة, ولكن لكونه وافق ثديها, ثم سألتها آسية أن تقيم عندها فترضعه, فأبت عليها وقالت: إن لي بعلاً وأولاداً, ولا أقدر على المقام عندك, ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت, فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك, وأجرت عليها النفقة والصلات والكساوى والإحسان الجزيل, فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية قد أبدلها الله بعد خوفها أمناً, في عز وجاه ورزق دارّ. ولهذا جاء في الحديث «مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير, كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها» ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل يوم وليلة أو نحوه, والله أعلم, فسبحان من بيده الأمر, ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن, الذي يجعل لمن اتقاه بعد كل هم فرجاً وبعد كل ضيق مخرجاً, ولهذا قال تعالى: {فرددناه إلى أمه كي تقر عينه} أي به {ولا تحزن} أي عليه {ولتعلم أن وعد الله حق} أي فيما وعدها من رده إليها وجعله من المرسلين, فحينئذ تحققت برده إليها أنه كائن منه رسول من المرسلين, فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعاً وشرعاً. وقوله تعالى: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أي حكم الله في أفعاله وعواقبها المحمودة التي هو المحمود عليها في الدنيا والاَخرة, فربما يقع الأمر كريهاً إلى النفوس وعاقبته محمودة في نفس الأمر, كما قال تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم} وقال تعالى: {فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثير}.