تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 394 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 394

394 : تفسير الصفحة رقم 394 من القرآن الكريم

** قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ الْلّيْلَ سَرْمَداً إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النّهَارَ سَرْمَداً إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِن رّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ
يقول تعالى ممتناً على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قوام لهم بدونهما وبيّن أنه لو جعل الليل دائماً عليهم سرمداً إلى يوم القيامة, لأضر ذلك بهم, ولسئمته النفوس وانحصرت منه, ولهذا قال تعالى: {من إله غير الله يأتيكم بضياء} أي تبصرون به وتستأنسون بسببه {أفلا تسمعون ؟} ثم أخبر تعالى أنه لو جعل النهار سرمداً, أي دائماً مستمراً إلى يوم القيامة, لأضر ذلك بهم, ولتعبت الأبدان وكلت من كثرة الحركات والأشغال, ولهذا قال تعالى: {من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه} أي تستريحون من حركاتكم وأشغالكم {أفلا تبصرون * ومن رحمته} أي بكم {جعل لكم الليل والنهار} أي خلق هذا وهذا {لتسكنوا فيه} أي في الليل {ولتبتغوا من فضله} أي في النهار بالأسفار والترحال, والحركات والأشغال, وهذا من باب اللف والنشر. وقوله: {ولعلكم تشكرون} أي تشكرون الله بأنواع العبادات في الليل والنهار, ومن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار, أو بالنهار استدركه بالليل, كما قال تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكور} والاَيات في هذا كثيرة.

** وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوَاْ أَنّ الْحَقّ لِلّهِ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
وهذا أيضاً نداء ثان على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد مع الله إلهاً آخر, يناديهم الرب تعالى على رؤوس الأشهاد فيقول: {أين شركائي الذين كنتم تزعمون} أي في دار الدنيا {ونزعنا من كل أمة شهيد} قال مجاهد: يعني رسولاً {فقلنا هاتوا برهانكم} أي على صحة ما ادعيتموه من أن لله شركاء {فعلموا أن الحق لله} أي لا إله غيره, فلم ينطقوا ولم يحيروا جواباً {وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي ذهبوا فلم ينفعوهم.

** إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىَ فَبَغَىَ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللّهُ الدّارَ الاَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ
قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال {إن قارون كان من قوم موسى} قال: كان ابن عمه, وهكذا قال إبراهيم النخعي وعبد الله بن الحارث بن نوفل وسماك بن حرب وقتادة ومالك بن دينار وابن جريج وغيرهم أنه كان ابن عم موسى عليه السلام. قال ابن جريج: هو قارون بن يصهر بن قاهث وموسى بن عمران بن قاهث. وزعم محمد بن إسحاق بن يسار أن قارون كان عم موسى بن عمران عليه السلام, قال ابن جريج: وأكثر أهل العلم على أنه كان ابن عمه, والله أعلم. وقال قتادة بن دعامة: كنا نحدث أنه كان ابن عم موسى, وكان يسمى المنور لحسن صوته بالتوراة, ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري, فأهلكه البغي لكثرة ماله. وقال شهر بن حوشب: زاد في ثيابه شبراً طولاً ترفعاً على قومه.
وقوله: {وآتيناه من الكنوز} أي الأموال {ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة} أي ليثقل حملها الفئام من الناس لكثرتها. قال الأعمش عن خيثمة: كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود, كل مفتاح مثل الإصبع, كل مفتاح على خزانة على حدته, فإذا ركب حملت على ستين بغلاً أغر محجلاً, وقيل غير ذلك, والله أعلم. وقوله: {إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين} أي وعظه فيما هو فيه صالحو قومه, فقالوا على سبيل النصح والإرشاد: لا تفرح بما أنت فيه, يعنون لا تبطر بما أنت فيه من المال, {إن الله لا يحب الفرحين} قال ابن عباس: يعني المرحين. وقال مجاهد: يعني الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم.
وقوله: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الاَخرة ولا تنس نصيبك من الدني} أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات, التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والاَخرة {ولا تنس نصيبك من الدني} أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح, فإن لربك عليك حقاً, ولنفسك عليك حقاً, ولأهلك عليك حقاً, ولزورك عليك حقاً, فآت كل ذي حق حقه {وأحسن كما أحسن الله إليك} أي أحسن إلى خلقه, كما أحسن هو إليك {ولا تبغ الفساد في الأرض} أي لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض, وتسيء إلى خلق الله {إن الله لا يحب المفسدين}.