تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 394 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 394

393

قوله: 71- "قل أرأيتم" أي أخبروني "إن جعل الله عليكم الليل سرمداً" السرمد الدائم المستمر، من السرد، وهو المتابعة فالميم زائدة، ومنه قول طرفة: لعمرك ما أمري عليك بغمة نهاري ولا ليلي عليك بسرمد وقيل إن ميمه أصلية ووزنه فعلل لا فعمل، وهو الظاهر، بين لهم سبحانه أنه مهد لهم أسباب المعيشة ليقوموا بشكر النعمة، فإنه لو كان الدهر الذي يعيشون فيه ليلاً دائماً إلى يوم القيامة لم يتمكنوا من الحركة فيه وطلب ما لا بد لهم منه مما يقوم به العيش من المطاعم والمشارب والملابس، ثم امتن عليهم فقال: "من إله غير الله يأتيكم بضياء" أي هل لكم إله من الآلهة التي تعبدونها يقدر على أن يرفع هذه الظلمة الدائمة عنكم بضياء: أي بنور تطلبون فيه المعيشة وتبصرون فيه ما تحتاجون إليه وتصلح به ثماركم وتنمو عنده زرائعكم وتعيش فيه دوابكم "أفلا تسمعون" هذا الكلام سماع فهم وقبول وتدبر وتفكر.
ثم لما فرغ من الامتنان عليهم بوجود النهار امتن عليهم بوجود الليل فقال: 72- "قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة" أي جعل جميع الدهر الذي تعيشون فيه نهاراً إلى يوم القيامة "من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه" أي تستقرون فيه من النصب والتعب وتستريحون مما تزاولون من طلب المعاش والكسب "أفلا تبصرون" هذه المنفعة العظيمة إبصار متعظ حتى تنزجوا عما أنتم فيه من عبادة غير الله، وإذا أقروا بأنه لا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل فقد لزمتهم الحجة وبطل ما يتمسكون به من الشبه الساقطة، وإنما قرن سبحانه بالضياء قوله: "أفلا تسمعون" لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل قوله: "أفلا تبصرون" لأن البصر يدرك ما لا يدركه السمع من ذلك.
73- "ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه" أي في الليل "ولتبتغوا من فضله" أي في النهار بالسعي في المكاسب "ولعلكم تشكرون" أي ولكي تشكروا نعمة الله عليكم، وهذه الآية من باب اللف والنشر كما في قول امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العناب والحشف البالي واعلم أنه وإن كان السكون في النهار ممكناً وطلب الرزق في الليل ممكناً وذلك عند طلوع القمر على الأرض، أو عند الاستضاءة بشيء بما له نور كالسراج، لكن ذلك قليل نادر مخالف لما يألفه العباد فلا اعتبار به.
74- "ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون" كرر سبحانه هذا لاختلاف الحالتين لأنهم ينادون مرة فيدعون الأصنام، وينادون أخرى فيسكتون، وفي هذا التكرير أيضاً تقريع بعد تقريع وتوبيخ بعد توبيخ.
وقوله: 75- "ونزعنا من كل أمة شهيداً" عطف على ينادي، وجاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقق، والمعنى: وأخرجنا من كل أمة من الأمم شهيداً يشهد عليهم. قال مجاهد: هم الأنبياء، وقيل عدول كل أمة، والأول أولى. ومثله قوله سبحانه: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً" ثم بين سبحانه ما يقوله لكل أمة من هذه الأمم بقوله: "فقلنا هاتوا برهانكم" أي حجتكم ودليلكم بأن معي شركاء، فعند ذلك اعترفوا وخرسوا عن إقامة البرهان، ولذا قال: "فعلموا أن الحق لله" في الإلهية وأنه وحده لا شريك له "وضل عنهم ما كانوا يفترون" أي غاب عنهم وبطل وذهب ما كانوا يختلقونه من الكذب في الدنيا بأن لله شركاء يستحقون العبادة.
ثم عقب سبحانه حديث أهل الضلال بقصة قارون لما اشتملت عليه من بديع القدرة وعجيب الصنع فقال: 76- "إن قارون كان من قوم موسى" قارون على وزن فاعول اسم أعجمي ممتنع للعجمة والعلمية، وليس بعربي مشتق من قرنت. قال الزجاج: لو كان قارون من قرنت الشيء لانصرف. قال النخعي وقتادة وغيرهما: كان ابن عمران بن قاهث. وقال ابن إسحاق: كان عم موسى لأب وأم فجعله أخاً لعمران، وهما ابنا السامري وخرج عن طاعة موسى، وهو معنى قوله: "فبغى عليهم" أي جاوز الحد في التجبر والتكبر عليهم وخرج عليهم وخرج عن طاعة موسى وكفر بالله. قال الضحاك: بغيه على بني إسرائيل استخفافه بهم لكثرة ماله وولده. وقال قتادة: بغيه بنسبته ما آتاه الله من المال إلى نفسه لعلمه وحيلته. وقيل كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل فتعدى عليهم وظلمهم، وقيل كان بغيه بغير ذلك مما لا يناسب معنى الآية "وآتيناه من الكنوز" جمع كنز وهو المال المدخر. قال عطاء: أصاب كنزاً من كنوز يوسف، وقيل كان يعمل الكيمياء، و ما في قوله "ما إن مفاتحه" موصولة صلتها إن وما في حيزها، ولهذا كسرت. ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين منع جعل المكسورة وما في حيزها صلة الذين، واستقبح ذلك منهم لوروده في الكتاب العزيز في هذا الموضع، والمفاتح جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به، وقيل المراد بالمفاتح: الخزائن، فيكون واحدها مفتح بفتح الميم. قال الواحدي: إن المفاتح الخزائن في قول أكثر المفسرين كقوله: "وعنده مفاتح الغيب" قال: وهو اختيار الزجاج فإنه قال: الأشبه في التفسير أن مفاتحه خزائن ماله. وقال آخرون: هي جمع مفتاح، وهو ما يفتح به الباب، وهذا قول قتادة ومجاهد " لتنوء بالعصبة أولي القوة " هذه الجملة خبر إن وهي واسمها وخبرها صلة ما الموصولة، يقال ناء بحمله: إذا نهض به مثقلاً، ويقال ناء بي الحمل: إذا أثقلني، والمعنى: يثقلهم حمل المفاتح. قال أبو عبيدة: هذا من المقلوب، والمعنى: لنتوء بها العصبة: أي تنهض بها. قال أبو زيد: نؤت بالحمل: إذا نهضت به. قال الشاعر: إنا وجدنا خلفاً بئس الخلف عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف وقال الفراء: معنى نتوء بالعصبة: تميلهم بثقلها كما يقال: يذهب بالبؤس ويذهب البؤس وذهبت به وأذهبته وجئت به وأجأته ونؤت به وأنأته، واختار هذا النحاس، وبه قال كثير من السلف. وقيل هو مأخوذ من النأي، وهو البعد وهو بعيد. وقرأ بديل بن ميسرة لينوء بالياء: أي لينوء الواحد منها أو المذكور، فحمل على المعنى والمراد بالعصبة الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض. قيل هي من الثلاثة إلى العشرة، وقيل من العشرة إلى الخمسة عشرة، وقيل ما بين العشرة إلى العشرين، وقيل من الخمسة إلى العشرة، وقيل أربعون، وقيل سبعون، وقيل غير ذلك "إذ قال له قومه لا تفرح" الظرف منصوب بتنوء، وقيل بآتيناه، وقيل ببغي. وردهما أبو حبان بأن الإيتاء والبغي لم يكونا ذلك الوقت. وقال ابن جرير: هو متعلق بمحذوف وهو اذكر، والمراد بقومه هنا: هم المؤمنون من بني إسرائيل. وقال الفراء: هو موسى وهو جمع أريد به الواحد، ومعنى لا تفرح: لا تبطر ولا تأشر "إن الله لا يحب الفرحين" البطرين الأشرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم. قال الزجاج: المعنى لا تفرح بالمال، فإن الفرح بالمال لا يؤدي حقه، وقيل المعنى: لا تفسد كقول الشاعر: إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع أي أفسدتك. قال الزجاج: الفرحين والفارحين سواء. وقال الفراء: معنى الفرحين الذين هم في حال الفرح، والفارحين الذين يفرحون في المستقبل. وقال مجاهد: معنى لا تفرح لا تبغ إن الله لا يحب الفرحين الباغين. وقيل معناه: لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين.
77- "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة" أي واطلب فيما أعطاك الله من الأموال الدار الآخرة فأنفقه فيما يرضاه الله لا في التجبر والبغي. وقرئ واتبع "ولا تنس نصيبك من الدنيا". قال جمهور المفسرين: وهو أن يعمل في دنياه لآخرته، ونصيب الإنسان عمره وعمله الصالح. قال الزجاج: معناه لا تنس أن تعمل لآخرتك، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرته. وقال الحسن وقتادة: معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، وهذا ألصق بمعنى النظم القرآني "وأحسن كما أحسن الله إليك" أي أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك بما أنعم به عليك من نعم الدنيا، وقيل أطع الله واعبده كما أنعم عليك، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما "أن جبريل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". "ولا تبغ الفساد في الأرض" أي لا تعمل فيها بمعاصي الله "إن الله لا يحب المفسدين" في الأرض.