تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 398 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 398

398 : تفسير الصفحة رقم 398 من القرآن الكريم

** وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاتّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنّ الّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذّبُواْ فَقَدْ كَذّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرّسُولِ إِلاّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ
يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء, أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له والإخلاص له في التقوى وطلب الرزق منه وحده لا شريك له, وتوحيده في الشكر, فإنه المشكور على النعم لا مسدي لهاغيره, فقال لقومه: {اعبدوا الله واتقوه} أي أخلصوا له العبادة والخوف {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} أي إذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والاَخرة, واندفع عنكم الشر في الدنيا والاَخرة, ثم أخبر تعالى أن الأصنام التي يعبدونها لا تضر ولا تنفع, وإنما اختلقتم أنتم لها أسماء فسميتموها آلهة وإنما هي مخلوقة مثلكم, هكذا رواه العوفي عن ابن عباس, وبه قال مجاهد والسدي, وروى الوالبي عن ابن عباس: وتصنعون إفكاً أي تنحتونها أصناما, وبه قال مجاهد في رواية, وعكرمة والحسن وقتادة وغيرهم, واختاره ابن جرير رحمه الله. وهي لا تملك لكم رزقاً {فابتغوا عند الله الرزق} وهذا أبلغ في الحصر كقوله {إياك نعبد وإياك نستعين} {رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة} ولهذا قال: {فابتغو} أي فاطلبوا {عند الله الرزق} أي لا عند غيره, فإن غيره لا يملك شيئاً {واعبدوه واشكروا له} أي كلوا من رزقه واعبدوه وحده, واشكروا له على ما أنعم به عليكم {إليه ترجعون} أي يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله.
وقوله تعالى: {وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم} أي فبلغكم ما حل بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} يعني إنما على الرسول أن يبلغكم ما أمره الله تعالى به من الرسالة, والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء, فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء. وقال قتادة في قوله: {وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم} قال: يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم, وهذا من قتادة يقتضي أنه قد انقطع الكلام الأول واعترض بهذا إلى قوله: {فما كان جواب قومه} وهكذا نص على ذلك ابن جرير أيضاً. والظاهر من السياق أن كل هذا من كلام إبراهيم الخليل عليه السلام, يحتج عليهم لإثبات المعاد لقوله بعد هذا كله {فما كان جواب قومه} والله أعلم.

** أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمّ اللّهُ يُنشِىءُ النّشْأَةَ الاَخِرَةَ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَالّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـَئِكَ يَئِسُواْ مِن رّحْمَتِي وَأُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
يقول تعالى مخبراً عن الخليل عليه السلام أنه أرشدهم إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً, ثم وجدوا وصاروا أناساً سامعين مبصرين, فالذي بدأ هذا قادر على إعادته, فإنه سهل عليه يسير لديه, ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الاَفاق من الاَيات المشاهدة من خلق الله الأشياء: السموات وما فيها من الكواكب النيرة الثوابت والسيارات, والأرضين وما فيها من مهاد وجبال, وأودية وبراري وقفار, وأشجار وأنهار, وثمار وبحار, كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها, وعلى وجود صانعها الفاعل المختار, الذي يقول للشيء كن فيكون, ولهذا قال: {أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير} كقوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} ثم قال تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الاَخرة} أي يوم القيامة {إن الله على كل شيء قدير} وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {سنريهم آياتنا في الاَفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} وكقوله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ؟ * أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون}.
وقوله تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء} أي هو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء, ويحكم ما يريد, لا معقب لحكمه, ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون, فله الخلق والأمر مهما فعل فعدل, لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة, كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن «إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم» ولهذا قال تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون} أي ترجعون يوم القيامة.
وقوله تعالى: {وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء} أي لا يعجزه أحد من أهل سمواته وأرضه, بل هو القاهر فوق عباده, فكل شيء خائف منه فقير إليه, وهو الغني عما سواه {وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير * والذين كفروا بآيات الله ولقائه} أي جحدوها وكفروا بالمعاد {أولئك يئسوا من رحمتي} أي لا نصيب لهم فيها {وأولئك لهم عذاب أليم} أي موجع شديد في الدنيا والاَخرة.