تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 397 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 397

397 : تفسير الصفحة رقم 397 من القرآن الكريم

** وَوَصّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنّهُمْ فِي الصّالِحِينَ
يقول تعالى آمراً عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد الحث على التمسك بتوحيده, فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان, ولهما عليه غاية الإحسان, فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق, ولهذا قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا * إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغير} ومع هذه الوصية بالرأفة والرحمة والإحسان إليهما في مقابلة إحسانهما المتقدم, قال: {وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهم} أي وإن حرصا عليك أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين, فإياك وإياهما, فلا تطعهما في ذلك, فإن مرجعكم إليّ يوم القيامة, فأجزيك بإحسانك إليهما وصبرك على دينك, وأحشرك مع الصالحين لا في زمرة والديك, وإن كنت أقرب الناس إليهما في الدنيا, فإن المرء إنما يحشر يوم القيامة مع من أحب أي حباً دينياً, ولهذا قال تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين}.
وقال الترمذي عند تفسير هذه الاَية: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن سماك بن حرب قال: سمعت مصعب بن سعد يحدث عن أبيه سعد قال: نزلت فيّ أربع آيات, فذكر قصته وقال: قالت أم سعد: أليس الله قد أمرك بالبر ؟ والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أموت أو تكفر, قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروافاها, فنزلت {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً * وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهم} الاَية, وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي أيضاً. وقال الترمذي حسن صحيح.

** وَمِنَ النّاسِ مَن يِقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مّن رّبّكَ لَيَقُولُنّ إِنّا كُنّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْمُنَافِقِينَ
يقول تعالى مخبراً عن صفات قوم من المكذبين الذين يدعون الإيمان بألسنتهم ولم يثبت الإيمان في قلوبهم, بأنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى بهم, فارتدوا عن الإسلام, ولهذا قال تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} قال ابن عباس: يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله, وكذا قال غيره من علماء السلف, وهذه الاَية كقوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به, وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ـ إلى قوله ـ ذلك هو الضلال البعيد} ثم قال عز وجل: {لئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم} أي ولئن جاء نصر قريب من ربك يا محمد, وفتح ومغانم, ليقولن هؤلاء لكم: إنا كنا معكم, أي إخوانكم في الدين, كما قال تعالى: {الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم, وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين}, وقال تعالى: {فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} وقال تعالى مخبراً عنهم ههنا: {ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم} ثم قال الله تعالى: {أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين} أي أو ليس الله بأعلم بما في قلوبهم وما تكنه ضمائرهم, وإن أظهروا لكم الموافقة.
وقوله تعالى: {وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} أي وليختبرن الله الناس بالضراء والسراء, ليتميز هؤلاء من هؤلاء, من يطيع الله في الضراء والسراء, ومن إنما يطيعه في حظ نفسه, كما قال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}, وقال تعالى بعد وقعة أحد التي كان فيها ما كان من الاختبار والامتحان {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} الاَية.

** وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُواْ اتّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مّن شَيْءٍ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
يقول تعالى مخبراً عن كفار قريش أنهم قالوا لمن آمن منهم واتبع الهدى: ارجعوا عن دينكم إلى ديننا, واتبعوا سبيلنا {ولنحمل خطاياكم} أي وآثامكم إن كانت لكم آثام في ذلك علينا وفي رقابنا, كما يقول القائل: افعل هذا وخطيئتك في رقبتي, قال الله تعالى تكذيباً لهم {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون} أي: فيما قالوه إنهم يحتملون عن أولئك خطاياهم, فإنه لا يحمل أحد وزر أحد, قال الله تعالى: {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى} وقال تعالى: {ولا يسأل حميم حميماً يبصرونهم}.
وقوله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم} إخبار عن الدعاة إلى الكفر والضلالة, أنهم يحملون يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزاراً أخر بسبب ما أضلوا من الناس من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئاً, كما قال تعالى, {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} الاَية, وفي الصحيح «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً, ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من آثامهم شيئاً». وفي الصحيح «ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها, لأنه أول من سن القتل».
وقوله تعالى: {وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} أي يكذبون ويختلقون من البهتان, وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا حديثاً فقال: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا صدقة, حدثنا عثمان بن حفص بن أبي العالية, حدثني سليمان بن حبيب المحاربي عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ ما أرسل به, ثم قال: «إياكم والظلم, فإن الله يعزم يوم القيامة فيقول: وعزتي وجلالي لا يجوزني اليوم ظلم ثم ينادي مناد فيقول: أين فلان بن فلان ؟ فيأتي يتبعه من الحسنات أمثال الجبال, فيشخص الناس إليها أبصارهم حتى يقوم بين يدي الرحمن عز وجل, ثم يأمر المنادي فينادي: من كانت له تباعة أو ظلامة عند فلان بن فلان فهلم, فيقبلون حتى يجتمعوا قياماً بين يدي الرحمن, فيقول الرحمن: اقضوا عن عبدي, فيقولون: كيف نقضي عنه ؟ فيقول: خذوا لهم من حسناته, فلا يزالون يأخذون منها حتى لا يبقى منها حسنة, وقد بقي من أصحاب الظلامات, فيقول: اقضوا عن عبدي, فيقولون: لم يبق له حسنة, فيقول خذوا من سيئاتهم فاحملوها عليه» ثم نزع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الاَية الكريمة {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون}. وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال وقد ظلم هذا, وأخذ من مال هذا, وأخذ من عرض هذا, فيأخذ هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإذا لم تبق له حسنة, أخذ من سيئاتهم فطرح عليه». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن أبي الحواري, حدثنا أبو بشر الحذاء عن أبي حمزة الثمالي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ إن المؤمن يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى عن كحل عينيه وعن فتات الطينة بإصبعين, فلا ألفينك تأتي يوم القيامة وأحد أسعد بما آتاك الله منك».

** وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لّلْعَالَمِينَ
هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, يخبره عن نوح عليه السلام أنه مكث في قومه هذه المدة يدعوهم إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً, وسراً وجهاراً, ومع هذا ما زادهم ذلك إلا فراراً عن الحق وإعراضاً عنه وتكذيباً له, وما آمن معه منهم إلا قليل, ولهذا قال تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون} أي بعد هذه المدة الطويلة ما نجع فيهم البلاغ والإنذار, فأنت يا محمد لا تأسف على من كفر بك من قومك ولا تحزن عليهم, فإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء, وبيده الأمر, وإليه ترجع الأمور {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية} الاَية, واعلم أن الله سيظهرك وينصرك ويؤيدك, ويذل عدوك ويكبتهم, ويجعلهم أسفل السافلين.
قال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس قال: بعث نوح وهو لأربعين سنة, ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً, وعاش بعد الطوفان ستين عاماً حتى كثر الناس وفشوا. وقال قتادة: يقال إن عمره كله ألف سنة إلا خمسين عاماً لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلثمائة سنة, ودعاهم ثلثمائة سنة, ولبث بعد الطوفان ثلثمائة سنة وخمسين عاماً, وهذا قول غريب, وظاهر السياق من الاَية أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً. وقال عون بن أبي شداد: إن الله تعالى أرسل نوحاً إلى قومه وهو ابن خمسين وثلثمائة سنة, فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً, ثم عاش بعد ذلك ثلثمائة وخمسين سنة, وهذا أيضاً غريب, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقول ابن عباس أقرب, والله أعلم.
وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن مجاهد قال: قال لي ابن عمر: كم لبث نوح في قومه ؟ قال: قلت ألف سنة إلا خمسين عاماً, قال: فإن الناس لم يزالوا في نقصان من أعمارهم وأحلامهم وأخلاقهم إلى يومك هذا. وقوله تعالى: {فأنجيناه وأصحاب السفينة} أي الذين آمنوا بنوح عليه السلام, وقد تقدم ذكر ذلك مفصلاً في سورة هود, وتقدم تفسيره بما أغنى عن إعادته.
وقوله تعالى: {وجعلناها آية للعالمين} أي وجعلنا تلك السفينة باقية إما عينها, كما قال قتادة: إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق كيف أنجاهم من الطوفان, كما قال تعالى: {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ـ إلى قوله ـ ومتاعاً إلى حين} وقال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} وقال ههنا: {فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين} وهذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس, كقوله تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين} أي وجعلنا نوعها رجوماً فإن التي يرمى بها ليست هي زينة للسماء, وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين} ولهذا نظائر كثيرة. وقال ابن جرير: لو قيل إن الضمير في قوله: {وجعلناه} عائد إلى العقوبة لكانوجهاً, والله أعلم.