تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 428 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 428

428 : تفسير الصفحة رقم 428 من القرآن الكريم

سورة سبأ

وهي مكية
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** الْحَمْدُ للّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الاَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرّحِيمُ الْغَفُورُ
يخبر تعالى عن نفسه الكريمة أن له الحمد المطلق في الدنيا والاَخرة, لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والاَخرة, المالك لجميع ذلك, الحاكم في جميع ذلك, كما قال تعالى: {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والاَخرة وله الحكم وإليه ترجعون} ولهذا قال تعالى ههنا: {الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض} أي الجميع ملكه وعبيده وتحت تصرفه وقهره, كما قال تعالى: {وإن لنا للاَخرة والأولى}, ثم قال عز وجل: {وله الحمد في الاَخرة} فهو المعبود أبداً, المحمود على طول المدى.
وقوله تعالى: {هو الحكيم} أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره {الخبير} الذي لا تخفى عليه خافية ولا يغيب عنه شيء, وقال مالك عن الزهري: خبير بخلقه, حكيم بأمره, ولهذا قال عز وجل: {يعلم ما يلج في)الأرض وما يخرج منه} أي يعلم عدد القطر النازل في أجزاء الأرض, والحب المبذور, والكامن فيها, ويعلم ما يخرج من ذلك عدده وكيفيته وصفاته {وما ينزل من السماء} أي من قطر ورزق, وما يعرج فيها, أي من الأعمال الصالحة وغير ذلك, {وهو الرحيم الغفور} أي الرحيم بعباده, فلا يعاجل عصاتهم بالعقوبة, الغفور عن ذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.

** وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلَىَ وَرَبّي لَتَأْتِيَنّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ * لّيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ مّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالّذِينَ سَعَوْا فِيَ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ * وَيَرَى الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ هُوَ الْحَقّ وَيَهْدِيَ إِلَىَ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
هذه إحدى الاَيات الثلاث التي لا رابع لهن مما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقع: المعاد, لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد, فإحداهن في سورة يونس عليه السلام, وهي قوله تعالى: {ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين} والثانية هذه {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم}, والثالثة في سورة التغابن, وهي قوله تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير} فقال تعالى: {قل بلى وربي لتأتينكم} ثم وصفه بما يؤكد ذلك ويقرره, فقال: {عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} قال مجاهد وقتادة: لا يعزب عنه لا يغيب عنه, أي الجميع مندرج تحت علمه, فلا يخفى عليه شيء, فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت, فهو عالم أين ذهبت , أين تفرقت, ثم يعيدها كما بدأها أول مرة, فإنه بكل شيء عليم. ثم بين حكمته في إعادة الأبدان وقيام الساعة, بقوله تعالى: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم * والذين سعوا في آياتنا معاجزين} أي سعوا في الصد عن سبيل الله تعالى وتكذيب رسله, {أولئك لهم عذاب من رجز أليم} أي لينعم السعداء من المؤمنين ويعذب الأشقياء من الكافرين, كما قال عز وجل: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} وقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}.
وقوله تعالى: {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق} هذه حكمة أخرى معطوفة على التي قبلها, وهي أن المؤمنين بما أنزل على الرسل إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار بالذي كانوا قد علموه من كتب الله تعالى في الدنيا, رأوه حينئذ عين اليقين, ويقولون يؤمئذ أيضاً {لقد جاءت رسل ربنا بالحق} يقال أيضاً {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} {لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث} {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد} العزيز هو المنيع الجناب الذي لا يغالب ولا يمانع, بل قد قهر كل شيء وغلبه, الحميد, في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره, وهو المحمود في ذلك كله جل وعلا.