تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 428 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 428

427

هي أربع وخمسون آية وهي مكية. قال القرطبي في قول الجميع إلا آية واحدة اختلف فيها، وهي قوله: "ويرى الذين أوتوا العلم" فقالت فرقة هي مكية، وقالت فرقة هي مدنية، وسيأتي الخلاف في معنى هذه الآية إن شاء الله وفيمن نزلت. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة سبأ بمكة. قوله: 1- "الحمد لله" تعريف الحمد مع لام الاختصاص مشعران باختصاص جميع أفراد الحمد بالله سبحانه على ما تقدم تحقيقه في فاتحة الكتاب، والموصول في محل جر على النعت، أو البدل، أو النصب على الاختصاص، أو الرفع على تقدير مبتدأ، ومعنى "له ما في السموات وما في الأرض" أن جميع ما هو فيها في ملكه وتحت تصرفه. يفعل به ما يشاء ويحكم فيه بما يريد، وكل نعمة واصلة إلى العبد فهي مما خلقه له ومن به عليه، فحمده على ما في السموات والأرض هو حمد على النعم التي أنعم بها على خلقه مما خلقه لهم. ولما بين أن الحمد الدنيوي من عباده الحامدين له مختص به بين أن الحمد الأخروي مختص به كذلك فقال: "وله الحمد في الآخرة" وقوله: "له" نتعلق بنفس الحمد، أو بما تعلق به خبر الحمد أعني في الآخرة، فإنه متعلق بمتعلق عام هو الاستقرار أو نحوه، والمعنى: أن له سبحانه على الاختصاص حمد عباده الذين يحمدونه في الدار الآخرة إذا دخلوا الجنة كما في قوله: "وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده" وقوله: "الحمد لله الذي هدانا لهذا" وقوله: " الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " وقوله: الحمد لله "الذي أحلنا دار المقامة من فضله" وقوله: "وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين" فهو سبحانه المحمود في الآخرة كما أنه المحمود في الدنيا وهو المالك للآخرة كما أنه المالك للدنيا "وهو الحكيم" الذي أحكم أمر الدارين "الخبير" بأمر خلقه فيهما، قيل والفرق بين الحمدين أن الحمد في الدنيا عبادة، وفي الآخرة تلذذ وابتهاج، لأنه قد انقطع التكليف فيها.
ثم ذكر سبحانه بعض ما يحيط به علمه من أمور السموات والأرض فقال: 2- "يعلم ما يلج في الأرض" أي ما يدخل فيها من مطر أو كنز أو دفين "وما يخرج منها" من زرع ونبات وحيوان "وما ينزل من السماء" من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والبركات، ومن ذلك ما ينزل منها من ملائكته وكتبه إلى أنبيائه "وما يعرج فيها" من الملائكة وأعمال العباد. قرأ الجمهور "ينزل" بفتح الياء وتخفيف التزاي مسنداً إلى ما وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي بضم الياء وتشديد الزاي مسنداً إلى الالله سبحانه "وهو الرحيم" بعباده "الغفور" لذنوبهم.
3- "وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة" المراد بهؤلاء القائلين جنس الكفرة على الإطلاق، أو كفار مكة على الخصوص ومعنى لا تأتينا الساعة: أنها لا تأتي بحال من الأحوال، إنكاراً منهم لوجودها لا لمجرد إتيانها في حال تكلمهم أو في حال حياتهم مع تحقق وجودها فيما بعد، فرد الله عليهم وأمر رسوله أن يقول لهم "قل بلى وربي لتأتينكم" وهذا القسم لتأكيد الإتيان، قرأ الجمهور لتأتينكم بالفوقية: أي الساعة، وقرأ طلق المعلم بالتحتية على تأويل الساعة باليوم أو الوقت. قال طلق: سمعت أشياخنا يقرأون بالياء: يعني التحتية على المعنى، كأنه قال ليأتينكم البعث أو أمره كما قال: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك " قرأ نافع وابن عامر " علام الغيوب " بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره لا يعزب، أو على تقدير مبتدأ، وقرأ عاصم وابن كثير وأبو عمرو بالجر على أنه نعت لربي، وقرأ حمزة والكسائي "علام" بالجر مع صيغة المبالغة، ومعنى "لا يعزب" لا يغيب عنه ولا يستتر عليه ولا يبعد " عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك " المثقال "ولا أكبر" منه "إلا في كتاب مبين" وهو اللوح المحفوظ. والمعنى: إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ الذي اشتمل على معلومات الله سبحانه فهو مؤكد لنفي العزوب. قرأ الجمهور "يعزب" بضم الزاي، وقرأ يحيى بن وثاب بكسرها. قال الفراء: والكسر أحب إلي، وهما لغتان، يقال عزب يعزب بالضم، ويعزب بالكسر إذا بعد وغاب. وقرأ الجمهور ولا أصغر ولا أكبر بالرفع على الابتداء، والخبر إلا في كتاب، أو على العطف على مثقال، وقرأ قتادة والأعمش بنصبهما عطفاً على ذرة، أو على أن لا هي لا التبرئة التي يبنى اسمها على الفتح.
واللام في 4- "ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات" للتعليل لقوله لتأتينكم أي إتيان الساعة فائدته جزاء المؤمنين بالثواب والكافرين بالعقاب، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى الموصول: أي أولئك الذين آمنوا وعلموا الصالحات "لهم مغفرة" لذنوبهم "ورزق كريم" وهو الجنة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح مع التفضل عليهم من الله سبحانه.
ثم ذكر فريق الكافرين الذي يعاقبون عند إتيان الساعة فقال: 5- "والذين سعوا في آياتنا معاجزين" أي سعوا في إبطال آياتنا المنزلة على الرسل، وقدحوا فيها وصدوا الناس عنها، ومعنى معاجزين مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا ولا يدركون، وذلك باعتقادهم أنهم لا يبعثون، يقال عاجزه وأعجزه: إذا غالبه وسبقه. قرأ الجمهور "معاجزين" وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد وأبو عمرو "معجزين" أي مثبطين للناس عن الإيمان بالآيات "أولئك" أي الذين سعوا "لهم عذاب من رجز" الرجز هو العذاب، فمن للبيان، وقيل الرجز هو أسوأ العذاب وأشده، والأول أولى، ومن ذلك قوله: "فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء" قرأ الجمهور "أليم" بالجر صفة لرجز، وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم بالرفع صفة لعذاب، والأليم الشديد الألم.
6- " ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق " لما ذكر الذين سعوا في إبطال آيات الله ذكر الذين يؤمنون بها، معنى "ويرى الذين أوتوا العلم" أي يعلمون وهم الصحابة. وقال مقاتل: هم مؤمنو أهل الكتاب، وقيل جميع المسلمين، والموصول هو المفعول الأول ليرى، والمفعول الثاني الحق، والضمير هو ضمير الفصل. وبالنصب قرأ الجمهور، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على أنه خبر الضمير، والجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني، وهي لغة تميم، فإنهم يعرفون ما بعد ضمير الفصل، وزعم الفراء أن الاختيار الرفع، وخالفه غيره وقالوا النصب أكثر. قيل وقوله: "يرى" معطوف على ليجزي، وبه قال الزجاج والفراء: واعترض عليها بأن قوله: "ليجزي" متعلق بقوله: لتأتينكم ولا يقال لتأتينكم الساعة ليى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق، والأولى أنه كلام مستأنف لدفع ما يقوله الذين سعوا في الآيات: أي إن ذلك منهم يدل على جهلهلم لأنهم مخالفون لما يعلمه أهل العلم في شأن القرآن " لتهدي إلى صراط مستقيم " معطوف على الحق عطف فعل على اسم، لأنه في تأويله كما في قوله: "صافات ويقبضن" أي وقابضات كأنه قيل وهادياً، وقيل إنه مستأنف وفاعله ضمير يرجع إلى فاعل أنزل، وهو القرآن، والصراط الطريق: أي ويهدي إلى طريق "العزيز" في ملكه "الحميد" عند خلقه، والمراد أنه يهدي إلى دين الله وهو التوحيد.
ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من كلام منكري البعث فقال: 7- "وقال الذين كفروا" أي قال بعض لبعض "هل ندلكم على رجل"، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم أي هل نرشدكم إلى رجل "ينبئكم" أي يخبركم بأمر عجيب ونبأ غريب هو أنكم "إذا مزقتم كل ممزق" أي فرقتم كل تفريق وقطعتم كل تقطيع وصرتم بعد موتكم رفاتاً وتراباً "إنكم لفي خلق جديد" أي تخلقون خلقاً جديداً وتبعثون من قبوركم أحياء وتعودون إلى الصور التي كنتم عليها، قال هذا القول بعضهم لبعض استهزاءً بما وعدهم الله على لسان رسوله من البعث، وأخرجوا الكلام مخرج التلهي به والتضاحك مما يقوله من ذلك، وإذا في موضع نصب بقوله مزقتم. قال النحاس: ولا يجوز أن يكون العامل فيها ينبئكم لأنه ليس يخبرهم ذلك الوقت، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد إن لأنه لا يعمل فيما قبلها. وأجاز الزجاج أن يكون العامل فيها محذوفاً، والتقدير: إذا مزقتم كل ممزق بعثتم أو نبئتم بأنكم تبعثون إذا مزقتم، وقال المهدوي: لا يجوز أن يعمل فيه مزقتم لأنه مضاف إليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وأصل الممزق خرق الأشياء، يقال ثوب مزيق وممزق ومتمزق وممزوق.