تفسير الطبري تفسير الصفحة 428 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 428
429
427
 سورة سبإ مكية
وآياتها أربع وخمسون
بسم الله الرحمَن الرحيـم

الآية : 1
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الْحَمْدُ للّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الاَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }.
يقول تعالـى ذكره: الشكر الكامل, والـحمد التامّ كله, للـمعبود الذي هو مالك جميع ما فـي السموات السبع, وما فـي الأرَضين السبع دون كل ما يعبدونه, ودون كل شيء سواه, لا مالك لشيء من ذلك غيره فـالـمعنى: الذي هو مالك جميعه وَلهُ الـحَمْدُ فِـي الاَخِرَةِ يقول: وله الشكر الكامل فـي الاَخرة, كالذي هو له ذلك فـي الدنـيا العاجلة, لأن منه النعم كلها علـى كل من فـي السموات والأرض فـي الدنـيا, ومنه يكون ذلك فـي الاَخرة, فـالـحمد لله خالصا دون ما سواه فـي عاجل الدنـيا, وآجل الاَخرة, لأن النعم كلها من قِبله لا يُشركه فـيها أحد من دونه, وهو الـحكيـم فـي تدبـيره خـلقه وصرفه إياهم فـي تقديره, خبـير بهم وبـما يصلـحهم, وبـما عملوا, وما هم عاملون, مـحيط بجميع ذلك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21903ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَهوَ الـحَكِيـمُ الـخَبِـيرُ حكيـم فـي أمره, خبـير بخـلقه.
الآية : 2
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرّحِيمُ الْغَفُورُ }.
يقول تعالـى ذكره: يعلـم ما يدخـل الأرض وما يغيب فـيها من شيء من قولهم: ولـجت فـي كذا: إذا دخـلت فـيه, كما قال الشاعر:
رأيْتُ القَوَافِـي يَتّلِـجْنَ مَوَالِـجاتَضَايَقُ عَنْها أنْ تَوَلّـجَها الإبَرْ
يعنـي بقوله: «يتّلـجن موالـجا»: يدخـلن مداخـل وَما يخْرُجُ مِنْها يقول: وما يخرج من الأرض وَما يَنْزِلِ مِنَ السّماءِ وَما يَعْرُجُ فِـيها يعنـي: وما يصعد فـي السماء وذلك خبر من الله أنه العالـم الذي لا يخفـى علـيه شيء فـي السموات والأرض, مـما ظهر فـيها وما بطن, وهو الرحيـم الغفور وهو الرحيـم بأهل التوبة من عبـاده أن يعذّبهم بعد توبتهم, الغفور لذنوبهم إذا تابوا منها.
الآية : 3
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلَىَ وَرَبّي لَتَأْتِيَنّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ }.
يقول تعالـى ذكره: ويستعجلك يا مـحمد الذين جحدوا قُدرة الله علـى إعادة خـلقه بعد فنائهم بهيئتهم التـي كانوا بها من قبل فنائهم من قومك بقـيام الساعة, استهزاء بوعدك إياهم, وتكذيبـا لـخبرك, قل لهم: بلـى تأتـيكم وربـي, قسما به لتأتـينكم الساعة, ثم عاد جلّ جلاله بعد ذكره الساعة علـى نفسه, وتـمـجيدها, فقال: عالِـمِ الغَيْبِ.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة: «عالِـمُ الغَيْبِ» علـى مثال فـاعل, بـالرفع علـى الاستئناف, إذ دخـل بـين قوله: وَرَبّـي, وبـين قوله: عالِـمَ الغَيْبِ كلام حائل بـينه وبـينه. وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة والبصرة, عالـم علـى مثال فـاعل, غير أنهم خفضوا عالـم ردّا منهم له علـى قوله وَرَبّـي إذ كان من صفته. وقرأ ذلك بقـية عامة قرّاء الكوفة: «عَلاّمِ الغَيْبِ» علـى مثال فعّال, وبـالـخفض ردّا لإعرابه علـى إعراب قوله وَرَبّـي إذ كان من نعته.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا, أن كلّ هذه القراءات الثلاث, قراءات مشهورات فـي قرّاء الأمصار متقاربـات الـمعانـي, فبأيتهنّ قرأ القارىء فمصيب غير أن أعجب القراءات فـي ذلك إلـيّ أقرأ بها: «عَلاّمِ الغَيْبِ» علـى القراءة التـي ذكرتها عن عامة قرّاء أهل الكوفة فأما اختـيار علام علـى عالـم, فلأنها أبلغ فـي الـمدح. وأما الـخفض فـيها فلأنها من نعت الربّ, وهو فـي موضع الـجرّ. وعنى بقوله: «عَلاّم الغَيْبِ» علام ما يغيب عن أبصار الـخـلق, فلا يراه أحد, إما ما لـم يكوّنه مـما سيكوّنه, أو ما قد كوّنه فلـم يُطلع علـيه أحدا غيره. وإنـما وصف جلّ ثناؤه فـي هذا الـموضع نفسه بعلـمه الغيب, إعلاما منه خـلقه أن الساعة لا يعلـم وقت مـجيئها أحد سواه, وإن كانت جائية, فقال لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل للذين كفروا بربهم: بلـى وربكم لتأتـينكم الساعة, ولكنه لا يعلـم وقت مـجيئها أحد سوى علام الغيوب, الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: وَلا يَعْزُبُ عَنْهُ لا يغيب عنه, ولكنه ظاهر له. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21904ـ حدثنا علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـي, عن ابن عبـاس فـي قوله: لا يَعْزُبُ عَنْهُ يقول: لا يغيب عنه.
21905ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: لا يَعْزُبُ عَنْهُ قال: لا يغيب.
21906ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرّةٍ: أي لا يغيب عنه.
وقد بـيّنا ذلك بشواهده فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
وقوله: مِثْقالُ ذَرّةٍ يعنـي: زنة ذرّة فـي السموات ولا فـي الأرض يقول تعالـى ذكره: لا يغيب عنه شيء من زنة ذرّة فما فوقها فما دونها, أين كان فـي السموات ولا فـي الأرض وَلا أصْغَرُ مِنْ ذلكَ يقول: ولا يعزب عنه أصغر من مثقال ذرّة وَلا أكْبَرُ منه إلاّ فِـي كِتابٍ مُبِـينٍ يقول: هو مثبت فـي كتاب يبـين للناظر فـيه أن الله تعالـى ذكره قد أثبته وأحصاه وعلـمه, فلـم يعزب عن علـمه.
الآية : 4
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لّيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ مّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }.
يقول تعالـى ذكره: أثبت ذلك فـي الكتاب الـمبـين, كي يثـيب الذين آمنوا بـالله ورسوله, وعملوا بـما أمرهم الله ورسوله به, وانتهوا عما نهاهم عنه علـى طاعتهم ربهم أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يقول جلّ ثناؤه: لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالـحات, مغفرة مِن رَبهم لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيـمٌ يقول: وعيش هنـيء يوم القـيامة فـي الـجنة, كما:
21907ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيـمٌ فـي الـجنة.
الآية : 5
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ سَعَوْا فِيَ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ }.
يقول تعالـى ذكره: أثبت ذلك فـي الكتاب, لـيجزي الـمؤمنـين ما وصف, ولـيجزي الذين سعوا فـي آياتنا معاجزين يقول: وكي يثـيب الذين عملوا فـي إبطال أدلتنا وحججنا معاونـين, يحسبون أنهم يسبقوننا بأنفسهم فلا نقدر علـيهم أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ يقول: هؤلاء لهم عذاب من شديد العذاب الألـيـم ويعنـي بـالألـيـم: الـموجع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21908ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَسَعَوْا فـي آياتِنا مُعَاجِزِينَ: أي لا يعجزون أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ ألِـيـمٌ قال: الرجز: سوء العذاب, الألـيـم: الـموجع.
21909ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قول الله: وَالّذِينَ سَعَوْا فِـي آياتِنا مُعاجِزِينَ قال: جاهدين لـيهبطوها أو يبطلوها, قال: وهم الـمشركون, وقرأ: لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرآنِ وَالْغَوْا فِـيهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ.
الآية : 6
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَرَى الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ هُوَ الْحَقّ وَيَهْدِيَ إِلَىَ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }.
يقول تعالـى ذكره: أثبت ذلك فـي كتاب مبـين, لـيجزي الذين آمنوا, والذين سعوا فـي آياتنا ما قد بـين لهم, ولـيرى الذين أوتوا العلـم فـيرى فـي موضع نصب عطفـا به علـى قوله: يَجزي, فـي قوله: لِـيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُوا. وعنى بـالذين أوتوا العلـم: مسلـمة أهل الكتاب كعبد الله بن سلام, ونظرائه الذين قد قرؤوا كتب الله التـي أُنزلت قبل الفرقان, فقال تعالـى ذكره: ولـيرى هؤلاء الذين أوتوا العلـم بكتاب الله الذي هو التوراة, الكتاب الذي أُنزل إلـيك يا مـحمد من ربك هو الـحقّ.
وقـيـل: عنـي بـالذين أوتوا العلـم: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
21910ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَيَرَى الّذِينَ أُوتُوا العِلْـمَ الّذِي أُنْزِلَ إلَـيْكَ مِنْ رّبّكَ هُوَ الـحَقّ قال: أصحاب مـحمد.
وقوله: وَيهْدِي إلـى صِراطِ العَزِيزِ الـحَمِيدِ يقول: ويرشد من اتبعه, وعمل بـما فـيه إلـى سبـيـل الله العزيز فـي انتقامه من أعدائه, الـحميد عند خـلقه, فأياديه عندهم, ونعمه لديهم. وإنـما يعنـي أن الكتاب الذي أُنزل علـى مـحمد يهدي إلـى الإسلام.
الآية : 7
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلّكُمْ عَلَىَ رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلّ مُمَزّقٍ إِنّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ }.
يقول تعالـى ذكره: وقال الذين كفروا بـالله وبرسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم, متعجبـين من وعده إياهم البعث بعد الـمـمات بعضهم لبعض: هَلْ نَدُلّكُمْ أيها الناس علـى رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إذَا مُزّقْتُـمْ كُلّ مُـمَزّقٍ إنّكُمْ لَفِـي خَـلْقٍ جَدِيدٍ يقول: يخبركم أنكم بعد تقطعكم فـي الأرض بلاء وبعد مصيركم فـي التراب رفـاتا, عائدون كهيئتكم قبل الـمـمات خـلقا جديدا, كما: 21911ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلّكُمْ علـى رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إذَا مُزّقْتُـمْ كُلّ مُـمَزّقٍ قال: ذلك مشركو قُريش والـمشركون من الناس, يُنَبّئُكُمْ إذَا مُزّقْتُـمْ كُلّ مُـمَزّقٍ: إذا أكلتكم الأرض, وصرتـم رفـاتا وعظاما, وقطّعتكم السبـاع والطير إنّكُمْ لَفِـي خَـلْقٍ جَدِيدٍ ستـحيون وتبعثون.
21912ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: هَلْ نَدُلّكُمْ عَلـى رَجُلٍ.... إلـى خَـلْقٍ جَدِيدٍ قال: يقول: إذَا مُزّقْتُـمْ: وإذا بلـيتـم وكنتـم عظاما وترابـا ورفـاتا, ذلك كُلّ مُـمَزّقٍ إنّكُمْ لَفِـي خَـلْقٍ جَدِيدٍ قال: ينبئكم إنكم, فكسر إن ولـم يعمل ينبئكم فـيها, ولكن ابتدأ بها ابتداء, لأن النبأ خبر وقول, فـالكسر فـي إن لـمعنى الـحكاية فـي قوله: يُنَبّئُكُمْ دون لفظه, كأنه قـيـل: يقول لكم: إنّكُمْ لَفِـي خَـلْقٍ جدِيدٍ