تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 439 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 439

439 : تفسير الصفحة رقم 439 من القرآن الكريم

** إِنّ اللّهَ عَالِمُ غَيْبِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ * هُوَ الّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلاّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاّ خَسَاراً
يخبر تعالى بعلمه غيب السموات والأرض, وإنه يعلم ما تكنه السرائر وما تنطوي عليه الضمائر, وسيجازى كل عامل بعمله, ثم قال عز وجل {هو الذي جعلكم خلائف في الأرض} أي يخلف قوم لاَخرين قبلهم وجيل لجيل قبلهم. كما قال تعالى: {ويجعلكم خلفاء الأرض} {فمن كفر فعليه كفره} أي فإنما يعود وبال ذلك على نفسه دون غيره {ولا يزيد الكافرون كفرهم عند ربهم إلا مقت} أي كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله تعالى, وكلما استمروا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة بخلاف المؤمنين, فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحسن عمله, ارتفعت درجته ومنزلته في الجنة وزاد أجره وأحبه خالقه وبارئه رب العالمين.

** قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاّ غُرُوراً * إِنّ اللّهَ يُمْسِكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: {أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون لله} أي من الأصنام والأنداد {أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات} أي ليس لهم شيء من ذلك ما يملكون من قطيمر. وقوله {أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه} أي أم أنزلنا عليهم كتاباً بما يقولون من الشرك والكفر ؟ ليس الأمر كذلك {بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غرور} أي بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي يمنوها لأنفسهم وهي غرور وباطل وزور.
ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما, فقال {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزول} أي أن تضطربا عن أماكنهما, كما قال عز وجل: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} وقال تعالى: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} {ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده} أي لا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو, وهو مع ذلك حليم غفور أي يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه, وهو يحلم فيؤخر, وينظر ويؤجل ولا يعجل, ويستر آخرين ويغفر, ولهذا قال تعالى: {إنه كان حليماً غفور}.
وقد أورد ابن أبي حاتم ههنا حديثاً غريباً بل منكراً, فقال: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد, حدثني إسحاق بن إبراهيم, حدثني هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه الصلاة والسلام على المنبر قال: وقع في نفس موسى عليه الصلاة والسلام: هل ينام الله عز وجل ؟ فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثاً, وأعطاه قارورتين في كل يد قارورة, وأمره أن يحتفظ بهما, قال: فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان, ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان, قال: ضرب الله له مثلاً أن الله عز وجل لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض, والظاهر أن هذا الحديث ليس بمرفوع بل من الإسرائيليات المنكرة, فإن موسى عليه الصلاة والسلام أجل من أن يجوز على الله سبحانه وتعالى النوم, وقد أخبر الله عز وجل في كتابه العزيز بأنه {الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض} وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى لا ينام, ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, ويرفع إليه عمل الليل قبل)النهار, وعمل النهار قبل الليل, حجابه النور أو النار, لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».
وقد قال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه فقال: من أين جئت ؟ قال: من الشام, قال: من لقيت ؟ قال: لقيت كعباً, قال: ما حدثك ؟ قال: حدثني أن السموات تدور على منكب ملك, قال: أفصدقته أو كذبته ؟ قال: ما صدقته ولا كذبته, قال: لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها, كذب كعب إن الله تعالى يقول {إن الله يمسك السموات أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده} وهذا إسناد صحيح إلى كعب وإلى ابن مسعود رضي الله عنه.
ثم رواه ابن جرير عن ابن حميد عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: ذهب جندب البجلي إلى كعب بالشام فذكر نحوه. وقد رأيت في مصنف للفقيه يحيى بن إبراهيم بن مزين الطليطلي سماه ـ سير الفقهاء ـ أورد هذا الأثر عن محمد بن عيسى بن الطباع عن وكيع عن الأعمش به, ثم قال: وأخبرنا زونان يعني عبد الملك بن الحسن عن ابن وهب عن مالك أنه قال: السماء لاتدور, واحتج بهذه الاَية, وبحديث «إن بالمغرب باباً للتوبة لا يزال مفتوحاً حتى تطلع الشمس منه» قلت: وهذا الحديث في الصحيح, والله سبحانه وتعالى أعلم.

** وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لّيَكُونُنّ أَهْدَىَ مِنْ إِحْدَى الاُمَمِ فَلَمّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مّا زَادَهُمْ إِلاّ نُفُوراً * اسْتِكْبَاراً فِي الأرْضِ وَمَكْرَ السّيّىءِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السّيّىءُ إِلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ سُنّةَ آلأوّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَحْوِيلاً
يخبر تعالى عن قريش والعرب, أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم قبل إرسال الرسول إليهم {لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم}, أي من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل, قاله الضحاك وغيره كقوله تعالى: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنه} وكقوله تعالى: {وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به فسوف يعلمون} قال الله تعالى: {فلما جاءهم نذير} وهو محمد صلى الله عليه وسلم بما أنزل معه من الكتاب العظيم, وهو القرآن المبين {ما زادهم إلا نفور} أي ما ازدادوا إلا كفراً إلى كفرهم, ثم بين ذلك بقوله: {استكباراً في الأرض} أي: استكبروا عن اتباع آيات الله {ومكر السيء} أي ومكروا بالناس في صدهم إياهم عن سبيل الله {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} أي وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم.
قال ابن أبي حاتم: ذكر علي بن الحسين, حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياك ومكر السيء, فإنه لايحيق المكر السيء إلا بأهله, ولهم من الله طالب» وقال محمد بن كعب القرظي: ثلاث من فعلهن لم ينج حتى ينزل به: من مكر أو بغى أو نكث, وتصديقها في كتاب الله تعالى: {ولايحيق المكر السيء إلا بأهله} {إنما بغيكم على أنفسكم} {ومن نكث فإنما ينكث على نفسه} وقوله عز وجل: {فهل ينظرون إلا سنة الأولين} يعني عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره {ولن تجد لسنة الله تبديل} أي لاتغير ولا تبدل, بل هي جارية كذلك في كل مكذب {ولن تجد لسنة الله تحويل} أي {وإذا أراد الله بقوم سوءاً قلا مرد له} ولا يكشف ذلك عنهم ويحوله عنهم أحد, والله أعلم.

** أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوَاْ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ إِنّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىَ ظَهْرِهَا مِن دَآبّةٍ وَلَـَكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المكذين بما جئتهم به من الرسالة: سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين كذبوا الرسل, كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها, فخلت منهم منازلهم, وسلبوا ما كانوا فيه من نعيم بعد كمال القوة وكثرة العدد والعدد, وكثرة الأموال والأولاد, فما أغنى ذلك شيئاً, ولا دفع عنهم من عذاب الله من شيء, لما جاء أمر ربك لأنه تعالى لايعجزه شيء إذا أراد كونه في السموات والأرض {إنه كان عليماً قدير} أي عليم بجميع الكائنات قدير على مجموعها, ثم قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} أي لو آخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك جميع أهل الأرض وما يملكونه من دواب وأرزاق.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم, ثم قرأ {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة}. وقال سعيد بن جبير والسدي في قوله تعالى: {ما ترك على ظهرها من دابة} أي لما سقاهم المطر فماتت جميع الدواب, {ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} أي ولكن ينظرهم إلى يوم القيامة فيحاسبهم يومئذ, ويوفي كل عامل بعمله, فيجازي بالثواب أهل الطاعة وبالعقاب أهل المعصية, ولهذا قال تبارك وتعالى: {فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصير}. آخر تفسير سورة فاطر و لله الحمد والمنة.