تفسير الطبري تفسير الصفحة 439 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 439
440
438
 الآية : 39
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هُوَ الّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلاّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاّ خَسَاراً }.
يقول تعالـى ذكره: الله الذي جعلكم أيها الناس خلائف فـي الأرض من بعد عاد وثمود, ومن مضى من قبلكم من الأمـم فجعلكم تـخـلفونهم فـي ديارهم ومساكنهم, كما:
22200ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: هُوَ الّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فـي الأرْضِ أمة بعد أُمة, وقرنا بعد قرن.
وقوله: فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَـيْهِ كُفْرُهُ يقول تعالـى ذكره: فمن كفر بـالله منكم أيها الناس, فعلـى نفسه ضرّ كفره, لا يضرّ بذلك غير نفسه, لأنه الـمعاقب علـيه دون غيره. وقوله: وَلا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ إلاّ مَقْتا يقول تعالـى: ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلاّ بُعدا من رحمة الله وَلا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إلاّ خَسارا يقول: ولا يزيد الكافرين كفرهم بـالله إلاّ هلاكا.
الآية : 40
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاّ غُرُوراً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا مـحمد لـمشركي قومك أرأيْتُـمْ أيها القوم شُرَكاءَكُمُ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أرُونِـي ماذَا خَـلَقُوا مِنَ الأرْضِ يقول: أرونـي أيّ شيء خـلقوا من الأرض أمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِـي السّمَوَاتِ يقول: أم لشركائكم شرك مع الله فـي السموات, إن لـم يكونوا خَـلَقوا من الأرض شيئا أَمْ آتَـيْناهُمْ كِتابـا فَهُمْ عَلـى بَـيّنَةٍ مِنْهُ يقول: أم آتـينا هؤلاء الـمشركين كتابـا أنزلناه علـيهم من السماء بأن يشركوا بـالله الأوثان والأصنام, فهم علـى بـيّنة منه, فهم علـى برهان مـما أمرتهم فـيه من الإشراك بـي. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22201ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قُلْ أرأيْتُـمْ شُرَكاءَكُمُ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أرُونِـي ماذَا خَـلَقُوا مِنَ الأرْضِ لا شيء والله خَـلَقوا منها أمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِـي السّمَوَاتِ لا والله ما لهم فـيها شرك أمْ آتَـيْناهُمْ كِتابـا فَهُمْ عَلـى بَـيّنَةٍ منه, يقول: أم آتـيناهم كتابـا فهو يأمرهم أن يشركوا.
وقوله: بَلْ إنْ يَعِدُ الظّالِـمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضا إلاّ غُرُورا وذلك قول بعضهم لبعض: ما نعْبُدُهُمْ إلاّ لِـيُقَرّبُونا إلـى اللّهِ زُلْفَـى خداعا من بعضهم لبعض وغرورا, وإنـما تزلفهم آلهتهم إلـى النار, وتقصيهم من الله ورحمته.
الآية : 41
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ اللّهَ يُمْسِكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: إنّ اللّهَ يُـمْسِكُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ لئلا تزولا من أماكنهما وَلَئِنْ زَالَتا يقول: ولو زالتا إنْ أمْسَكَهُما مِنْ أحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ يقول: ما أمسكهما أحد سواه. ووضعت «لئن» فـي قوله وَلَئِنْ زَالَتا فـي موضع «لو» لأنهما يجابـان بجواب واحد, فـيتشابهان فـي الـمعنى ونظير ذلك قوله: وَلَئِنْ أرْسَلْنا رِيحا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّا لَظَلّوا مِنْ بَعْدِهِ يكْفُرُونَ بـمعنى: ولو أرسلنا ريحا, وكما قال: ولئن أتَـيْتَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ بـمعنى: لو أتـيت. وقد بـيّنا ذلك فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22202ـ حدثَنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّ اللّهَ يُـمْسِكُ السّمَوَات والأرْضَ أنْ تَزُولا من مكانهما.
22203ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن أبـي وائل, قال: جاء رجل إلـى عبد الله, فقال: من أين جئت؟ قال: من الشأم, قال: مَن لقـيتَ؟ قال: لقـيتُ كعبـا, فقال: ما حدّثك كعب؟ قال: حدثنـي أن السموات تدور علـى منكب ملك, قال: فصدّقته أو كذّبته؟ قال: ما صدّقته ولا كذّبته, قال: لوددت أنك افتديت من رحلتك إلـيه براحلتك ورحلها, وكذب كعب إن الله يقول: إنّ اللّهَ يُـمْسِكُ السّمَوَاتِ والأرْضَ أنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتا إنْ أمْسَكَهُما مِنْ أحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ.
22204ـ حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيـم, قال: ذهب جُندَب البَجَلـيّ إلـى كعب الأحبـار, فقدم علـيه ثم رجع, فقال له عبد الله: حدّثنا ما حدّثك, فقال: حدثنـي أن السماء فـي قطب كقطب الرحا, والقطب عمود علـى مَنكِب ملك, قال عبد الله: لوددت أنك افتديت رحلتك بـمثل راحلتك ثم قال: ما تنتكت الـيهودية فـي قلب عبد فكادت أن تفـارقه, ثم قال: إنّ اللّهَ يُـمْسِكُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ أنْ تَزُولا كفـى بها زوالاً أن تدور.
وقوله: إنّهُ كانَ حَلِـيـما غَفُورا يقول تعالـى ذكره: إن الله كان حلـيـما عمن أشرك وكفر به من خـلقه فـي تركه تعجيـل عذابه له, غفورا لذنوب من تاب منهم, وأناب إلـى الإيـمان به, والعمل بـما يرضيه.
الآية : 42-43
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لّيَكُونُنّ أَهْدَىَ مِنْ إِحْدَى الاُمَمِ فَلَمّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مّا زَادَهُمْ إِلاّ نُفُوراً * اسْتِكْبَاراً فِي الأرْضِ وَمَكْرَ السّيّىءِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السّيّىءُ إِلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ سُنّةَ آلأوّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَحْوِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره: وأقسم هؤلاء الـمشركون بـالله جهد أيـمانهم يقول: أشدّ الإيـمان, فبـالغوا فـيها, لئن جاءهم من الله مُنذر ينذرهم بأس الله لَـيَكُونُنّ أهْدَى مِنْ إحْدَى الأُمَـمِ يقول: لـيكونُنّ أسلك لطريق الـحقّ, وأشدّ قبولاً لِـما يأتـيهم به النذير من عند الله, من إحدى الأمـم التـي خـلت من قبلهم فَلَـمّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ يعنـي بـالنذير: مـحمدا صلى الله عليه وسلم, يقول: فلـما جاءهم مـحمد ينذرهم عقاب الله علـى كفرهم, كما:
22205ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَلَـمّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وهو مـحمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ما زَادَهُمْ إلاّ نُفُورا يقول: ما زادهم مـجِيء النذير من الإيـمان بـالله واتبـاع الـحقّ, وسلوك هدى الطريق, إلاّ نفورا وهربـا.
وقوله: اسْتِكْبـارافِـي الأرْضِ يقول: نفروا استكبـارا فـي الأرض, وخِدْعة سيئة, وذلك أنهم صدّوا الضعفـاء عن اتبـاعه مع كفرهم به. والـمكر هاهنا: هو الشرك, كما:
22206ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَمَكْرَ السّيّىءِ وهو الشرك.
وأضيف الـمكر إلـى السيىء, والسيىء من نعت الـمكر, كما قـيـل: إن هذا لهو حقّ الـيقـين. وقـيـل: إن ذلك فـي قراءة عبد الله: «وَمَكْرا سَيّئا», وفـي ذلك تـحقـيق القول الذي قلناه من أن السيىء فـي الـمعنى من نعت الـمكر. وقرأ ذلك قرّاء الأمصار غير الأعمش وحمزة بهمزة مـحركة بـالـخفض. وقرأ ذلك الأعمش وحمزة بهمزة وتسكين الهمزة اعتلالاً منهما بأن الـحركات لـما كثرت فـي ذلك ثقل, فسكنا الهمزة, كما قال الشاعر:
(إذا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ صَاحِبْ قَوّمِ )
فسكّن البـاء, لكثرة الـحركات.
والصواب من القراءة ما علـيه قرّاء الأمصار من تـحريك الهمزة فـيه إلـى الـخفض, وغير جائز فـي القرآن أن يقرأ بكل ما جاز فـي العربـية, لأن القراءة إنـما هي ما قرأت به الأئمة الـماضية, وجاء به السلف علـى النـحو الذي أخذوا عمن قبلهم.
وقوله: وَلا يَحِيقُ الـمَكْرُ السّيّىءُ إلاّ بأهْلِهِ يقول: ولا ينزل الـمكر السيىء إلاّ بأهله, يعنـي بـالذين يـمكرونه وإنـما عَنَى أنه لا يحل مكروه ذلك الـمكر الذي مكره هؤلاء الـمشركون إلاّ بهم.
وقال قتادة فـي ذلك ما:
22207ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَلا يَحِيقُ الـمَكْرُ السّيّىءُ إلاّ بأهْلِهِ وهو الشرك.
وقوله: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ سُنّةَ الأوّلِـينَ يقول تعالـى ذكره: فهل ينتظر هؤلاء الـمشركون من قومك يا مـحمد إلاّ سنة الله بهم فـي عاجل الدنـيا علـى كفرهم به ألـيـمَ العقاب. يقول: فهل ينتظر هؤلاء إلاّ أن أُحلّ بهم من نقمتـي علـى شركهم بـي وتكذيبهم رسولـي مثل الذي أحللت بـمن قبلهم من أشكالهم من الأمـم, كما:
22208ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ سُنّتَ الأوّلِـينَ: أي عقوبة الأوّلـين.
فَلَنْ تَـجِدَ لِسُنّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً يقول: فلن تـجد يا مـحمد لسنة الله تغيـيرا.
وقوله: وَلَنْ تَـجِدَ لِسُنّتِ اللّهِ تَـحْوِيلاً يقول: ولن تـجد لسنّة الله فـي خـلقه تبديلاً يقول: لن يغير ذلك, ولا يبدّله, لأنه لا مردّ لقضائه.
الآية : 44
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوَاْ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ إِنّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً }.
يقول تعالـى ذكره: أو لـم يَسِرْ يا مـحمد هؤلاء الـمشركون بـالله, فـي الأرض التـي أهلكنا أهلها بكفرهم بنا وتكذيبهم رسلنا, فإنهم تـجار يسلكون طريق الشأم فَـيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمـم التـي كانوا يـمرون بها ألـم نهلكهم ونـخربْ مساكنهم ونـجعلْهم مثلاً لـمن بعدهم, فـيتعظوا بهم, وينزجروا عما هم علـيه من عبـادة الاَلهة بـالشرك بـالله, ويعلـموا أن الذي فعل بأولئك ما فعل وكانُوا أشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَبَطْشا لن يتعذّر علـيه أن يفعل بهم مثل الذي فعل بأولئك من تعجيـل النقمة, والعذاب لهم. وبنـحو الذي قلنا فـي قوله: وكانُوا أشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22209ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وكانُوا أشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً يخبركم أنه أعطى القوم ما لـم يعطكم.
وقوله: وَما كانَ اللّهُ لِـيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِـي السّمَوَاتِ وَلا فِـي الأرْضِ يقول تعالـى ذكره: ولن يعجزنا هؤلاء الـمشركون بـالله من عبدة الاَلهة, الـمكذّبون مـحمدا فـيسبقونا هربـا فـي الأرض, إذا نـحن أردنا هلاكهم, لأن الله لـم يكن لـيعجزه شيء يريده فـي السموات ولا فـي الأرض, ولن يقدر هؤلاء الـمشركون أن ينفُذوا من أقطار السموات والأرض. وقوله: إنّهُ كانَ عَلِـيـما قَدِيرا يقول تعالـى ذكره: إن الله كان علـيـما بخـلقه, وما هو كائن, ومن هو الـمستـحقّ منهم تعجيـل العقوبة, ومَن هو عن ضلالته منهم راجع إلـى الهدى آئب, قديرا علـى الانتقام مـمن شاء منهم, وتوفـيق من أراد منهم للإيـمان