تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 441 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 441

441 : تفسير الصفحة رقم 441 من القرآن الكريم

** وَاضْرِبْ لَهُمْ مّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذّبُوهُمَا فَعَزّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوَاْ إِنّآ إِلَيْكُمْ مّرْسَلُونَ * قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرّحْمَـَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ * قَالُواْ رَبّنَا يَعْلَمُ إِنّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ إِلاّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ
ويقول تعالى: واضرب يا محمد لقومك الذين كذبوك {مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون} قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب الأحبار ووهب بن منبه: إنها مدينة أنطاكية وكان بها ملك يقال له أنطيخس بن أنطيخس وكان يعبد الأصنام, فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل, وهم صادق وصدوق وشلوم, فكذبهم, وهكذا روي عن بريدة بن الحصيب وعكرمة وقتادة والزهري أنها أنطاكية, وقد استشكل بعض الأئمة كونها أنطاكية بما سنذكره بعد تمام القصة إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى: {إذ أرسلنا إليهم إثنين فكذبوهم} أي بادروهما بالتكذيب {فعززنا بثالث} أي قويناهما وشددنا إزرهما برسول ثالث. قال ابن جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي قال: كان اسم الرسولين الأولين شمعون ويوحنا, واسم الثالث بوليس, والقرية أنطاكية {فقالو} أي لأهل تلك القرية {إنا إليكم مرسلون} أي من ربكم الذي خلقكم يأمركم بعبادته وحده لا شريك له, قاله أبو العالية, وزعم قتادة بن دعامة أنهم كانوا رسل المسيح عليه السلام إلى أهل أنطاكية {قالوا ما أنتم إلا بشر مثلن} أي فكيف أوحي إليكم وأنتم بشر ونحن بشر, فلم لا أوحي إلينا مثلكم ولو كنتم رسلاً لكنتم ملائكة, وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة, كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله عز وجل: {ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدونن} أي استعجبوا من ذلك وأنكروه.
وقوله تعالى: {قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين}. وقوله تعالى حكاية عنهم في قوله جل وعلا: {ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون} وقوله تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً ؟} ولهذا قال هؤلاء {ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون} أي أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين الله يعلم أنا رسله إليكم, ولوكنا كذبة عليه لا نتقم منا أشد الانتقام, ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار, كقوله تعالى: {قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً يعلم ما في السموات وما في الأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون} {وما علينا إلا البلاغ المبين} يقولون: إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم, فإذا أطعتم كانت لكم السعادة في الدنيا والاَخرة, وإن لم تجيبوا فستعلمون غبّ ذلك, والله أعلم.

** قَالُوَاْ إِنّا تَطَيّرْنَا بِكُمْ لَئِن لّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنّكُمْ وَلَيَمَسّنّكُمْ مّنّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَائِرُكُم مّعَكُمْ أَإِن ذُكّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مّسْرِفُونَ
فعند ذلك قال لهم أهل القرية{إنا تطيرنا بكم} أي لم نر على وجوهكم خيراً في عيشنا. وقال قتادة: يقولون إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم. وقال مجاهد: يقولون لم يدخل مثلكم إلى قرية إلا عذب أهلها {لئن لم تنتهوا لنرجمنكم} قال قتادة: بالحجارة. وقال مجاهد: بالشتم, {وليمسنكم منا عذاب أليم} أي عقوبة شديدة, فقالت لهم رسلهم {طائركم معكم} أي مردود عليكم, كقوله تعالى في قوم فرعون {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله} وقال قوم صالح {اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله} وقال قتادة ووهب بن منبه: أي أعمالكم معكم. وقال عز وجل: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله, وإن تصبهم سيئة يقولون هذه من عندك, قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديث} وقوله تعالى: {أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون} أي من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له, قابلتمونا بهذا الكلام وتوعدتمونا وتهددتمونا, بل أنتم قوم مسرفون. وقال قتادة: أي إن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا بل أنتم قوم مسرفون.

** وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىَ قَالَ يَقَوْمِ اتّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ * اتّبِعُواْ مَن لاّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مّهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرّحْمَـَنُ بِضُرّ لاّ تُغْنِ عَنّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ * إِنّيَ إِذاً لّفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * إِنّيَ آمَنتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ
قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب الأحبار ووهب بن منبه: إن أهل القرية هموا بقتل رسلهم, فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى, أي لينصرهم من قومه, قالوا: وهو حبيب, وكان يعمل الجرير وهو الحبال وكان رجلاً سقيماً قد أسرع فيه الجذام, وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه مستقيم الفطرة. وقال ابن إسحاق عن رجل سماه عن الحكم عن مقسم أو عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: اسم صاحب يس حبيب, وكان الجذام قد أسرع فيه. وقال الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز: كان اسمه حبيب بن سري. وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اسم صاحب يس حبيب النجار, فقتله قومه. وقال السدي: كان قصاراً. وقال عمر بن الحكم: كان إسكافاً. وقال قتادة: كان يتعبد في غار هناك, {قال يا قوم اتبعوا المرسلين} يحض قومه على اتباع الرسل الذين أتوهم {اتبعوا من لايسألكم أجر} أي على إبلاغ الرسالة وهم مهتدون فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له {ومالي لا أعبد الذي فطرني} أي وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني وحده لاشريك له {وإليه ترجعون} أي يوم المعاد, فيجازيكم على أعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر {أأتخذ من دونه آلهة} استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع {إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون} أي هذه الاَلهة التي تعبدونها من دونه لايملكون من الأمر شيئاً, فإن الله تعالى لو أرادني بسوء {فلا كاشف له إلا هو} وهذه الأصنام لا تملك دفع ذلك ولا منعه, ولا ينقذونني مما أنا فيه{إني إذاً لفي ضلال مبين} أي إن اتخذتها آلهة من دون الله.
وقوله تعالى: {إني آمنت بربكم فاسمعون} قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب ووهب: يقول لقومه {إني آمنت بربكم} الذي كفرتم به {فاسمعون} أي فاسمعوا قولي ويحتمل أن يكون خطابه للرسل بقوله: {إني آمنت بربكم} أي الذي أرسلكم {فاسمعون} أي فاشهدوا لي بذلك عنده, وقد حكاه ابن جرير فقال: وقال آخرون: بل خاطب بذلك الرسل, وقال لهم: اسمعوا قولي لتشهدوا لي بما أقول لكم عند ربي, إني آمنت بربكم واتبعتكم, وهذا القول الذي حكاه عن هؤلاء أظهر في المعنى, والله أعلم. قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب ووهب رضي الله عنهما: فلما قال ذلك, وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه, ولم يكن له أحد يمنع عنه. وقال قتادة: جعلوا يرجمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومي فإنهم لايعلمون, فلم يزالوا به حتى أقعصوه, وهو يقول كذلك, فقتلوه رحمه الله.