تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 455 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 455

455 : تفسير الصفحة رقم 455 من القرآن الكريم

** وَمَا خَلَقْنَا السّمَآءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لّلّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتّقِينَ كَالْفُجّارِ * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدّبّرُوَاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكّرَ أُوْلُو الألْبَابِ
يخبر تعالى أنه ما خلق الخلق عبثاً وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحدوه ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيع ويعذب الكافر ولهذا قال تبارك وتعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفرو} أي الذين لا يرون بعثاً ولا معاداً وإنما يعتقدون هذه الدار فقط {فويل للذين كفروا من النار} أي ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدة لهم, ثم بين تعالى أنه عز وجل من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمنين والكافرين فقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض * أم نجعل المتقين كالفجار} أي لا نفعل ذلك ولا يستوون عند الله وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع ويعاقب فيها هذا الفاجر وهذا الإرشاد يدل على العقول السليمة والفطر المستقيمة على أنه لا بد من معاد وجزاء فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ويموت كذلك ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا من هذا, وإذا لم يقع هذا في هذه الدار فتعين أن هناك داراً أخرى لهذا الجزاء والمواساة. ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} أي ذوو العقول وهي الألباب جمع لب وهو العقل, قال الحسن البصري والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل, رواه ابن أبي حاتم.

** وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ الصّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنّيَ أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبّي حَتّىَ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدّوهَا عَلَيّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسّوقِ وَالأعْنَاقِ
يقول تعالى مخبراً أنه وهب لداود سليمان أي نبياً كما قال عز وجل: {وورث سليمان داود} أي في النبوة وإلا فقد كان له بنون غيره فإنه قد كان عنده مائة امرأة حرائر. وقوله تعالى: {نعم العبد إنه أواب} ثناء على سليمان بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عز وجل. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن خالد حدثنا الوليد حدثنا ابن جابر حدثنا مكحول قال لما وهب الله تعالى لداود سليمان قال له يا بني ما أحسن ؟ قال سكينة الله والإيمان ؟ قال فما أقبح ؟ قال كفر بعد إيمان قال فما أحلى, قال روح الله بين عباده قال فما أبرد ؟ قال عفو الله عن الناس وعفو الناس بعضهم عن بعض قال داود عليه السلام فأنت نبي.
وقوله تعالى: {إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد} أي إذ عرض على سليمان عليه الصلاة والسلام في حال مملكته وسلطانه الخيل الصافنات قال مجاهد وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة والجياد السراع وكذا قال غير واحد من السلف, وقال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن أبيه سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي في قوله عز وجل: {إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد} قال كانت عشرين فرساً ذات أجنحة كذا رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا ابن أبي زائدة أخبرني إسرائيل عن سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي قال كانت الخيل التي شغلت سليمان عليه الصلاة والسلام عشرين ألف فرس فعقرها وهذا أشبه, والله أعلم, وقال أبو داود حدثنا محمد بن عوف حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب حدثنا عمارة بن غزية أن محمد بن إبراهيم حدثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة رضي الله عنها لعب فقال صلى الله عليه وسلم: «ما هذا يا عائشة ؟» قالت رضي الله عنها بناتي ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع فقال صلى الله عليه وسلم: «ما هذا الذي أرى وسطهن ؟» قالت رضي الله عنها فرس, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا الذي عليه ؟» قالت رضي الله عنها جناحان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فرس له جناحان ؟» قالت رضي الله عنها أما سمعت أن سليمان عليه الصلاة والسلام كانت له خيل لها أجنحة قالت رضي الله عنها فضحك صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه. وقوله تبارك وتعالى: {فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب} ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر والذي يقطع به أنه لم يتركها عمداً بل نسياناً كما شغل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه من ذلك عن جابر رضي الله عنه قال جاء عمر رضي الله عنه يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله ما صليتها» فقال: فقمنا إلى بطحان فتوضأ نبي الله صلى الله عليه وسلم للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب. ويحتمل أنه كان سائغاً في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال, والخيل تراد للقتال وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعاً فنسخ ذلك بصلاة الخوف, ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة حيث لا تمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح تستر وهو منقول عن مكحول والأوزاعي وغيرهما والأول أقرب لأنه قال بعده {ردوها علي فطفق مسحاً بالسوق والأعناق} قال الحسن البصري: لا, قال: والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك, ثم أمر بها فعقرت وكذا قال قتادة, وقال السدي: ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حباً لها وهذا القول اختاره ابن جرير قال لأنه لم يكن ليعذب حيواناً بالعرقبة ويهلك مالاً من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيماإذا كان غضباً لله تعالى بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله عز وجل ما هو خير منها وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أسرع وخير من الخيل, قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي قتادة وأبي الدهماء وكانا يكثران السفر نحو البيت قالا أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا البدوي: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل وقال: «إنك لا تدع شيئاً اتقاء الله تعالى إلا أعطاك الله عز وجل خيراً منه».

** وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىَ كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمّ أَنَابَ * قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاّ يَنبَغِي لأحَدٍ مّن بَعْدِيَ إِنّكَ أَنتَ الْوَهّابُ * فَسَخّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشّيَاطِينَ كُلّ بَنّآءٍ وَغَوّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرّنِينَ فِي الأصْفَادِ * هَـَذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىَ وَحُسْنَ مَآبٍ
يقول تعالى: {ولقد فتنا سليمان} أي اختبرناه بأن سلبناه الملك {وألقينا على كرسيه جسد} قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم يعني شيطاناً {ثم أناب} أي رجع إلى ملكه وسلطانه وأُبهته. قال ابن جرير, وكان اسم ذلك الشيطان صخراً قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وقيل آصف قاله مجاهد وقيل صرد قاله مجاهد أيضاً وقيل حقيق قاله السدي وقد ذكروا هذه القصة مبسوطة ومختصرة, وقد قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال أمر سليمان عليه الصلاة والسلام ببناء بيت المقدس فقيل له ابنه ولا يسمع فيه صوت حديد, قال فطلب ذلك فلم يقدر عليه فقيل إن شيطاناً في البحر يقال له صخر شبه المارد قال فطلبه وكانت في البحر عين يردها في كل سبعة أيام مرة فنزح ماءها وجعل فيها خمراً فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر فقال: إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلاً, قال ثم رجع حتى عطش عطشاً شديداً ثم أتاها فقال: إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلاً, قال ثم شربها حتى غلب على عقله قال فأري الخاتم أو ختم به بين كتفيه فذل, قال وكان ملكه في خاتمه فأتى به سليمان عليه الصلاة والسلام فقال إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت وقيل لنا لا يسمعن فيه صوت حديد قال فأتى ببيض الهدهد فجعل عليه زجاجة فجاء الهدهد فدار حولها فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه فذهب فجاء بالماس فوضعه عليها فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه فأخذ الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة وكان سليمان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يدخل الخلاء أو الحمام لم يدخل بالخاتم فانطلق يوماً إلى الحمام, وذلك الشيطان صخر معه وذلك عند مقارفة قارف فيها بعض نسائه قال فدخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه فألقاه في البحر فالتقمته سمكة ونزع ملك سليمان منه وألقي على الشيطان شبه سليمان قال فجاء فقعد على كرسيه وسريره وسلط على ملك سليمان كله غير نسائه فجعل يقضي بينهم وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا فتن نبي الله وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في القوة فقال والله لأجربنه قال: فقال يا نبي الله وهو لا يرى إلا أنه نبي الله أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمداً حتى تطلع الشمس أترى عليه بأساً قال: لا فبينما هو كذلك أربعين ليلة إذ وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة فأقبل فجعل لا يستقبله جني ولا طير إلا سجد له حتى انتهى إليهم {وألقينا على كرسيه جسد} قال هو الشيطان صخر.
وقال السدي {ولقد فتنا سليمان} أي ابتلينا سليمان {وألقينا على كرسيه جسد} قال شيطاناً جلس على كرسيه أربعين يوماً قال كان لسيمان عليه الصلاة والسلام مائة امرأة وكانت امرأة منهم يقال لها جرادة وهي آثر نسائه وآمنهن عنده وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه ولم يأمن عليه أحداً من الناس غيرها فأعطاها يوماً خاتمه ودخل الخلاء, فخرج الشيطان في صورته فقال هاتي الخاتم فأعطته فجاء حتى جلس على مجلس سليمان عليه الصلاة والسلام وخرج سليمان بعد ذلك فسألها أن تعطيه خاتمه فقالت: ألم تأخذه قبل ؟ قال: لا وخرج وكأنه تائه ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوماً قال فأنكر الناس أحكامه فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم فجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا لهن إنا قد أنكرنا هذا فإن كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا أحكامه قال فبكى النساء عند ذلك قال فأقبلوا يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا يقرءون التوارة قال فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت من حيتان البحر وقال وأقبل سليمان عليه الصلاة والسلام في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه فسألهم من صيدهم وقال إني أنا سليمان فقام إليه بعضهم فضربه بعصى فشجه فجعل يغسل دمه وهو على شاطىء البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فقالوا بئس ما صنعت حيث ضربته قال إنه زعم أنه سليمان, قال فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم ولم يشغله ما كان به من الضرب حتى قام إلى شاطىء البحر فشق بطونهما فجعل يغسل فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه فردّ الله عليه بهاءه وملكه فجاءت الطير حتى حامت عليه فعرف القوم أنه سليمان عليه الصلاة والسلام فقام القوم يعتذرون مما صنعوا فقال ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم كان هذا الأمر لا بد منه قال فجاء حتى أتى ملكه وأرسل إلى الشيطان فجيء به فأمر به فجعل في صندوق من حديد ثم أطبق عليه وقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمر به فألقي في البحر فهو فيه حتى تقوم الساعة وكان اسمه حقيق قال وسخر الله له الريح ولم تكن سخرت له قبل ذلك وهو قوله: {وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب}.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تبارك وتعالى: {وألقينا على كرسيه جسد} قال شيطاناً يقال له آصف فقال له سليمان عليه الصلاة والسلام كيف تفتنون الناس ؟ قال أرني خاتمك أخبرك فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فساح سليمان عليه الصلاة والسلام وذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه ومنعه الله تبارك وتعالى من نساء سليمان فلم يقربهنّ ولم يقربنه وأنكرنه قال فكان سليمان عليه الصلاة والسلام يستطعم فيقول أتعرفوني ؟ أطعموني أنا سليمان فيكذبونه حتى أعطته امرأة يوماً حوتاً ففتح بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر آصف فدخل البحر. وأرى هذه كلها من الإسرائيليات, ومن أنكرها ما قاله ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالوا: حدثنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب} قال أراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه وكانت الجرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها هاتي خاتمي فأعطته إياه فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين فلما خرج سليمان عليه السلام من الخلاء قال لها هاتي خاتمي قالت أعطيته سليمان قال أنا سليمان قال كذبت ما أنت بسليمان فجعل لا يأتي أحداً يقول له أنا سليمان إلا كذبه حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة فلما رأى ذلك سليمان عرف أنه من أمر الله عز وجل قال وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله تبارك وتعالى أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان قال فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن: أتنكرن من سليمان شيئاً, قلن نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتباً فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرءوها على الناس وقالوا بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم فأكفر الناس سليمان عليه الصلاة والسلام فلم يزالوا يكفرونه وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته, وكان سليمان عليه السلام يحمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فدعا سليمان عليه الصلاة والسلام فقال: تحمل لي هذا السمك ؟ فقال نعم قال بكم ؟ قال بسمكة من هذا السمك قال فحمل سليمان عليه الصلاة والسلام السمك ثم انطلق إلى منزله فلما انتهى الرجل إلى بابه أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان عليه الصلاة والسلام فشق بطنها فإذا بالخاتم في جوفها فأخذه فلبسه, قال فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر فأرسل سليمان عليه الصلاة والسلام في طلبه وكان شيطاناً مريداً فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوماً نائماً فجاؤوا فبنوا عليه بنياناً من رصاص فاستيقظ فوثب فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا انماط معه من الرصاص, قال فأخذوه فأوثقوه وجاؤوا به إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فأمر به فنقر له تخت من رخام ثم أدخل في جوفه ثم سدّ بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله تبارك وتعالى: {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب} يعني الشيطان الذي كان سلط عليه, إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قوي, ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما إن صح عنه من أهل الكتاب وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام فالظاهر أنهم يكذبون عليه, ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله عز وجل منه تشريفاً وتكريماً لنبيه عليه السلام. وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضي الله عنهم كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
قال يحيى بن أبي عروبة الشيباني: وجد سليمان خاتمه بعسقلان فمشى في خرقة إلى بيت المقدس تواضعاً لله عز وجل, رواه ابن أبي حاتم. وقد روى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في صفة كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام خبراً عجيباً فقال حدثنا أبي رحمه الله حدثنا أبو صالح كاتب الليث أخبرني أبو إسحاق المصري عن كعب الأحبار أنه لما فرغ من حديث إرم ذات العماد قال له معاوية: يا أبا إسحاق أخبرني عن كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام وما كان عليه ومن أي شيء هو, فقال كان كرسي سليمان من أنياب الفيلة مرصعاً بالدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ, وقد جعل له درجة منها مفصصاً بالدر والياقوت والزبرجد ثم أمر بالكرسي فحف من جانبيه بالنخل نخل من ذهب شماريخها من ياقوت وزبرجد ولؤلؤ, وجعل على رؤوس النخل التي على يمين الكرسي طواويس من ذهب ثم جعل على رؤوس النخل التي على يسار الكرسي نسوراً من ذهب مقابلة الطواويس, وجعل على يمين الدرجة الأولى شجرتي صنوبر من ذهب وعلى يسارها أسدان من ذهب وعلى رؤوس الأسدين عمودان من زبرجد, وجعل من جانبي الكرسي كرم من ذهب قد أظلتا الكرسي وجعل عناقيدهما دراً وياقوتاً أحمر, ثم جعل فوق درج الكرسي أسدان عظيمان من ذهب مجوفان محشوان مسكاً وعنبراً, فإذا أراد سليمان عليه السلام أن يصعد على كرسيه استدار الأسدان ساعة ثم يقعان فينضحان ما في أجوافهما من المسك والعنبر حول كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام ثم يوضع منبران من ذهب واحد لخليفته والاَخر لرئيس أحبار بني إسرائيل ذلك الزمان, ثم يوضع أمام كرسيه سبعون منبراً من ذهب عليها سبعون قاضياً من بني إسرائيل وعلمائهم وأهل الشرف منهم والطول, ومن خلف تلك المنابر كلها خمسة وثلاثون منبراً من ذهب ليس عليها أحد فإذا أراد أن يصعد على كرسيه وضع قدميه على الدرجة السفلى فاستدار الكرسي كله بما فيه وما عليه ويبسط الأسد يده اليمنى وينشر النسر جناحه الأيسر ثم يصعد سليمان عليه الصلاة والسلام على الدرجة الثانية فيبسط الأسد يده اليسرى وينشر النسر جناحه الأيمن فإذا استوى سليمان عليه الصلاة والسلام على الدرجة الثالثة وقعد على الكرسي أخذ نسر من تلك النسور عظيم تاج سليمان عليه الصلاة والسلام فوضعه على رأسه فإذا وضعه على رأسه استدار الكرسي بما فيه كما تدور الرحى المسرعة, فقال معاوية رضي الله عنه: وما الذي يديره يا أبا إسحاق ؟ قال: تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه وهو عظيم مما عمله صخر الجني فإذا أحست بدورانه دارت تلك الأسود والنسور والطواويس التي في أسفل الكرسي دُرْنَ إلى أعلاه فإذا وقف وقفن كلهن منكسات رؤوسهن على رأس سليمان عليه الصلاة والسلام وهو جالس ثم ينضحن جميعاً ما في أجوافهن من المسك والعنبر على رأس سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام. ثم تتناول حمامة من ذهب واقفة على عمود من جوهر التوارة فتجعلها في يده فيقرؤها سليمان عليه الصلاة والسلام على الناس. وذكر تمام الخبر وهو غريب جداً {قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب} قال بعضهم لا ينبغي لأحد من بعدي أي لا يصلح لأحد أن يسلبنيه بعدي كما كان من قضية الجسد الذي ألقي على كرسيه لا أنه يحجر على من بعده من الناس والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكاً لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله وهذا هو ظاهر السياق من الاَية وبذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري عند تفسير هذه الاَية: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن عفريتاً من الجن تفلت عليّ البارحة ـ أو كلمة نحوها ـ ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله تبارك وتعالى منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة والسلام {رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} قال روح فرده خاسئاً وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة به. وقال مسلم في صحيحه حدثنا محمد بن سلمة المرادي حدثنا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح حدثني ربيعة بن زيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول: «أعوذ بالله منك ـ ثم قال ـ ألعنك بلعنة الله» ثلاثاً وبسط يده كأنه يتناول شيئاً فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك قال صلى الله عليه وسلم: «إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يتأخر ثلاث مرات ثم أردت أن آخذه والله لولا دعوة سليمان لأصبح موثقاً يلعب به صبيان أهل المدينة».
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو أحمد حدثنا ميسرة بن معبد حدثنا أبو عبيد حاجب سليمان قال رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائماً يصلي فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال حدثني أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يصلي صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال: «لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين ـ الإبهام والتي تليها ـ ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل» وقد روى أبو داود منه «من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل» عن أحمد بن أبي سريج عن أبي أحمد الزبيري به.
وقال الإمام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري حدثنا الأوزاعي حدثني ربيعة بن يزيد بن عبد الله الديلمي قال دخلت على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وهو في حائط له بالطائف يقال له الوهط وهو مخاصر فتى من قريش يُزَنّ بشرب الخمر فقلت بلغني عنك حديث أنه «من شرب شربة من الخمر لم يقبل الله عز وجل له توبة أربعين صباحاً, وإن الشقي من شقي في بطن أمه, وإنه من أتى البيت المقدس لا ينهزه إلا الصلاة فيه خرج)من خطيئته مثل يوم ولدته أمه» فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده ثم انطلق فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما إني لا أحل لأحد أن يقول علي ما لم أقل سمعت رسول الله يقول: «من شرب الخمر شربة لا تقبل له صلاة أربعين صباحاً فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد كان حقاً على الله تعالى أن يسقيه من طينة الخبال يوم القيامة» قال وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله عز وجل» وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن سليمان عليه السلام سأل الله تعالى ثلاثاً فأعطاه اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة, سأله حكماً يصادف حكمه فأعطاه إياه وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده, فأعطاه إياه وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه فنحن نرجو أن يكون الله عز وجل قد أعطانا إياها» وقد روى هذا الفصل الأخير من هذا الحديث النسائي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن فيروز الديلمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: «إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل خلالاً ثلاثاً» وذكره وقد روي من حديث رافع بن عمير رضي الله عنه بإسناد وسياق غريبين. فقال الطبراني حدثنا محمد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني حدثنا محمد بن أيوب بن سويد حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي الزاهرية عن رافع بن عمير قال سمعت رسول الله يقول: «قال الله عز وجل لداود عليه الصلاة والسلام ابن لي بيتاً قي الأرض فبنى داود بيتاً لنفسه قبل البيت الذي أمر به فأوحى الله إليه يا داود نصبت بيتك قبل بيتي قال يا رب هكذا قضيت من ملك استأثر ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلاثاً فشكا ذلك إلى الله عز وجل فقال يا داود إنك لا تصلح أن تبني لي بيتاً قال ولم يا رب ؟ قال لما جرى على يديك من الدماء, قال يا رب أو ما كان ذلك في هواك ومحبتك ؟ قال بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم فشق ذلك عليه فأوحى الله إليه لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه ولما تمّ قرّب القرابين وذبح الذبائح وجمع بني إسرائيل فأوحى الله إليه قد أرى سرورك ببنيان بيتي فسلني أعطك قال أسألك ثلاث خصال حكماً يصادف حكمك وملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ومن أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أما الثنتان فقد أعطيهما وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة» وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن راشد اليمامي حدثنا إياس بن سلمة الأكوع عن أبيه رضي الله عنه قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلا استفتحه بـ «سبحان الله ربي العلي الأعلى الوهاب» وقد قال أبو عبيد: حدثنا علي بن ثابت عن جعفر بن برقان عن صالح بن سمار قال لما مات نبي الله داود عليه السلام أوحى الله تبارك وتعالى إلى ابنه سليمان عليه الصلاة والسلام أن سلني حاجتك قال أسألك أن تجعل لي قلباً يخشاك كما كان قلب أبي وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلب أبي فقال الله عز وجل: أرسلت إلى عبدي وسألته حاجته فكانت حاجته أن أجعل قلبه يخشاني وأن أجعل قلبه يحبني, لأهبن له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده.
قال الله جلت عظمته: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب} والتي بعدها قال فأعطاه ما أعطاه وفي الاَخرة لا حساب عليه هكذا أورده أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه الصلاة والسلام في تاريخه, وروي عن بعض السلف أنه قال بلغني عن داود عليه الصلاة والسلام أنه قال: إلهي كن لسليمان كما كنت لي, فأوحى الله عز وجل إليه: أن قل لسليمان أن يكون لي كما كنت لي أكن له كما كنت لك. وقوله تبارك وتعالى: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب} قال الحسن البصري رحمه الله لما عقر سليمان عليه الصلاة والسلام الخيل غضباً لله عز وجل عوضه الله تعالى ما هو خير منها وأسرع, الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر.
وقوله جل وعلا: {حيث أصاب} أي حيث أراد من البلاد. وقوله جل جلاله: {والشياطين كل بناء وغواص} أي منهم ما هو مستعمل في الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر, وطائفة غواصون في البحار يستخرجون ما فيها من اللاَلىء والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها {وآخرين مقرنين في الأصفاد} أي موثقون في الأغلال والأكبال ممن قد تمرد وعصى وامتنع من العمل وأبى, أو قد أساء في صنيعه واعتدى.
وقوله عز وجل: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} أي هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا فأعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك أي مهما فعلت فهو جائز لك احكم بما شئت فهو صواب وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خير بين أن يكون عبداً رسولاً ـ وهو الذي يفعل ما يؤمر به وإنما هو قاسم يقسم بين الناس كما أمره الله تعالى به ـ وبين أن يكون نبياً ملكاً يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بلا حساب ولا جناح, اختار المنزلة الأولى بعدما استشار جبريل عليه الصلاة والسلام فقال له تواضع فاختار المنزلة الأولى لأنها أرفع قدراً عند الله عز وجل وأعلى منزلة في المعاد وإن كانت المنزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضاً في الدنيا والاَخرة, ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان عليه الصلاة والسلام في الدنيا نبه تعالى على أنه ذو حظ عند الله يوم القيامة أيضاً فقال تعالى: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} أي في الدنيا والاَخرة.

** وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الشّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنّا وَذِكْرَىَ لاُوْلِي الألْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نّعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ
يذكر تبارك وتعالى عبده ورسوله أيوب عليه الصلاة والسلام وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق في جسده مغرز إبرة سليماً سوى قلبه, ولم يبق له من الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله تعالى ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحواً من ثماني عشرة سنة, وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة في الدنيا, فسلب جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحاً ومساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريباً, فلما طال المطال, واشتد الحال, وانتهى القدر, وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال {إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} وفي هذه الاية الكريمة قال: {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب} قيل بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله ففعل فأنبع الله تعالى عيناً وأمره أن يغتسل منها فأذهبت جميع ما كان في بدنه من الأذى, ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عيناً أخرى وأمره أن يشرب منها فأذهبت جميع ما كان في باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهراً وباطناً, ولهذا قال تبارك وتعالى: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} قال ابن جرير وابن أبي حاتم جميعاً حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان, فقال أحدهما لصاحبه تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين قال له صاحبه وما ذاك ؟ قال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له, فقال أيوب عليه الصلاة والسلام لا أدري ما تقول غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق, قال وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه الصلاة والسلام أن {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} فاستبطأته فالتفتت تنظر فأقبل عليها وقد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان فلما رأته قالت أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى, فوالله القدير على ذلك ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذ كان صحيحاً قال فإني أنا هو, قال وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله تعالى سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض, هذا لفظ ابن جرير رحمه الله.
وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب عليه الصلاة والسلام يحثو في ثوبه فناداه ربه عز وجل يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال عليه الصلاة والسلام بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك» انفرد بإخراجه البخاري من حديث عبد الرزاق به, ولهذا قال تبارك وتعالى: {ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب} قال الحسن وقتادة أحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم.
وقوله عز وجل: {رحمة من} أي به على صبره وثباته وإنابته وتواضعه واستكانته {وذكرى لأولي الألباب} أي لذوي العقول ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج والمخرج والراحة. وقوله جلت عظمته: {وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث} وذلك أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان قد غضب على زوجته ووجد عليها في أمر فعلته قيل باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته إياه فلامها على ذلك وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة, وقيل لغير ذلك من الأسباب فلما شفاه الله عز وجل وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب فأفتاه الله عز وجل أن يأخذ ضغثاً وهو الشمراخ فيه مائة قضيب فيضربها به ضربة واحدة وقد برت يمينه وخرج من حنثه ووفى بنذره, وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه, ولهذا قال جل وعلا: {إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب} أثنى الله تعالى عليه ومدحه بأنه {نعم العبد إنه أواب} أي رجاع منيب, ولهذا قال جل جلاله: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً*} واستدل كثير من الفقهاء بهذه الاَية الكريمة على مسائل في الإيمان وغيرها. وقد أخذوها بمقتضاه والله أعلم بالصواب.