تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 456 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 456

456 : تفسير الصفحة رقم 456 من القرآن الكريم

** عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ * إِنّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ * وَإِنّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلّ مّنَ الأخْيَارِ * هَـَذَا ذِكْرٌ وَإِنّ لِلْمُتّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ
يقول تبارك وتعالى مخبراً عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} يعني بذلك العمل الصالح والعلم النافع والقوة في العبادة والبصيرة النافذة, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {أولي الأيدي} يقول أولي القوة والعبادة {والأبصار} يقول الفقه في الدين. وقال مجاهد {أولي الأيدي} يعني القوة في طاعة الله تعالى والأبصار يعني البصر في الحق وقال قتادة والسدي: أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين.
وقوله تبارك وتعالى: {إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار} قال مجاهد أي جعلناهم يعملون للاَخرة ليس لهم غيرها وكذا قال السدي ذكرهم للاَخرة وعملهم لها. وقال مالك بن دينار نزع الله تعالى من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصهم بحب الاَخرة وذكرها, وكذا قال عطاء الخراساني. وقال سعيد بن جبير يعني بالدار الجنة يقول أخلصناها لهم بذكرهم لها, وقال في رواية أخرى ذكرى الدار عقبى الدار, وقال قتادة كانوا يذكرون الناس الدار الاَخرة والعمل لها, وقال ابن زيد جعل لهم خاصة أفضل شيء في الدار الاَخرة.
وقوله تعالى: {وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} أي لمن المختارين المجتبين الأخيار فهم أخيار مختارون.
وقوله تعالى: {واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار} قد تقدم الكلام على قصصهم وأخبارهم مستقصاة في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما أغنى عن إعادته ههنا.
وقوله عز وجل: {هذا ذكر} أي هذا فصل فيه ذكر لمن يتذكر, قال السدي يعني القرآن العظيم.

** وَإِنّ لِلْمُتّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنّاتِ عَدْنٍ مّفَتّحَةً لّهُمُ الأبْوَابُ * مُتّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ أَتْرَابٌ * هَـَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنّ هَـَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نّفَادٍ
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين السعداء أن لهم في الدار الاَخرة لحسن مآب وهو المرجع والمنقلب ثم فسره بقوله تعالى: {جنات عدن} أي جنات إقامة مفتحة لهم الأبواب والألف واللام ههنا بمعنى الإضافة كأنه يقول مفتحة لهم أبوابها أي إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها, قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن ثواب الهباري حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا عبد الله بن مسلم يعني ابن هرمز عن ابن سابط عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة قصراً يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب عند كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله ـ أو لا يسكنه ـ إلا نبي أو صديق أو شهيد أو إمام عدل» وقد ورد في ذكر أبواب الجنة الثمانية أحاديث كثيرة من وجوه عديدة.
وقوله عز وجل: {متكئين فيه} قيل متربعين على سرر تحت الحجال {يدعون فيها بفاكهة كثيرة} أي مهما طلبوا وجدوا وأحضر كما أرادوا {وشراب} أي من أي أنواعه شاؤوا أتتهم به الخدام {بأكواب وأباريق وكأس من معين} {وعندهم قاصرات الطرف} أي عن غير أزواجهن فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن {أتراب} أي متساويات في السن والعمر هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والسدي {هذا ما توعدون ليوم الحساب} أي هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة هي التي وعدها لعباده المتقين التي يصيرون إليها بعد نشورهم وقيامهم من قبورهم وسلامتهم من النار. ثم أخبر تبارك وتعالى عن الجنة أنه لا فراغ لها ولا زوال ولا انقضاء ولا انتهاء فقال تعالى: {إن هذا لرزقنا ماله من نفاد} كقوله عز وجل {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} وكقوله جل وعلا {عطاء غير مجذوذ} وكقوله تعالى: {لهم أجر غير ممنون} أي غير مقطوع وكقوله عز وجل: {أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار} والاَيات في هذا كثيرة جداً.

** هَـَذَا وَإِنّ لِلطّاغِينَ لَشَرّ مَآبٍ * جَهَنّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَـَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَـَذَا فَوْجٌ مّقْتَحِمٌ مّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنّهُمْ صَالُو النّارِ * قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُواْ رَبّنَا مَن قَدّمَ لَنَا هَـَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النّارِ * وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَىَ رِجَالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مّنَ الأشْرَارِ * أَتّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَـرُ * إِنّ ذَلِكَ لَحَقّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النّارِ
لما ذكر تبارك وتعالى مآل السعداء ثنى بذكر حال الأشقياء ومرجعهم ومآبهم في دار معادهم وحسابهم فقال عز وجل: {هذا وإن للطاغين} وهم الخارجون عن طاعة الله عز وجل المخالفون لرسل الله صلى الله عليه وسلم {لشر مآب} أي لسوء منقلب ومرجع. ثم فسره بقوله جل وعلا: {جهنم يصلونه} أي يدخلونها فتغمرهم من جميع جوانبهم {فبئس المهاد * هذا فليذوقوه حميم وغساق} أما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى حره, وأما الغساق فهو ضده وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم.
ولهذا قال عز وجل: {وآخر من شكله أزواج} أي وأشياء من هذا القبيل: الشيء وضده يعاقبون بها. قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن دلواً من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن دراج به ثم قال لا نعرفه إلا من حديث رشدين كذا قال وقد تقدم في غير حديثه, ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث به.
وقال كعب الأحبار: غساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية وعقرب وغير ذلك فيستنقع فيؤتى بالاَدمي فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام ويتعلق جلده ولحمه في كعبيه وعقبيه ويجر لحمه كله كما يجر الرجل ثوبه, رواه ابن أبي حاتم. وقال الحسن البصري في قوله تعالى: {وآخر من شكله أزواج} ألوان من العذاب, وقال غيره كالزمهرير والسموم وشرب الحميم وأكل الزقوم والصعود والهوي إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة المتضادة والجميع مما يعذبون به, ويهانون بسببه.
وقوله عز وجل: {هذا فوج مقتحم معكم لا مرحباً بهم إنهم صالوا النار} هذا إخبار من الله تعالى عن قيل أهل النار بعضهم لبعض كما قال تعالى: {كلما دخلت أمة لعنت أخته} يعني بدل السلام يتلاعنون ويتكاذبون ويكفر بعضهم ببعض فتقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة من الزبانية {هذا فوج مقتحم} أي داخل {معكم لا مرحباً بهم إنهم صالوا النار} أي لأنهم من أهل جهنم {قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم} أي فيقول لهم الداخلون {بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدمتموه لن} أي أنتم دعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير {فبئس القرار} أي فبئس المنزل والمستقر والمصير {قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار} كما قال عز وجل: {قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار * قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون} أي لكل منكم عذاب بحسبه {وقالوا مالنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار * أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار ؟} هذا إخبار عن الكفار في النار أنهم يفقدون رجالاً كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهم المؤمنون في زعمهم قالوا مالنا لا نراهم معنا في النار. قال مجاهد: هذا قول أبي جهل يقول مالي لا أرى بلالاً وعماراً وصهيباً وفلاناً وفلاناً وهذا ضرب مثل وإلا فكل الكفار هذا حالهم يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار, فلما دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم فقالوا {مالنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار * أتخذناهم سخري} أي في الدار الدنيا {أم زاغت عنهم الأبصار ؟} يسألون أنفسهم بالمحال يقولون أو لعلهم معنا في جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم, فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله عز وجل: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ؟ قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ـ إلى قوله ـ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون} وقوله تعالى: {إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} أي إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد من تخاصم أهل النار بعضهم في بعض ولعن بعضهم لبعض لحق لا مرية فيه ولا شك.