تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 488 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 488

488 : تفسير الصفحة رقم 488 من القرآن الكريم

** وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيّ مّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظّالِمِينَ لَمّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىَ مَرَدّ مّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذّلّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيّ وَقَالَ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ الْخَاسِرِينَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنّ الظّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مّقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مّن دُونِ اللّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ
يقول تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة أنه ما يشاء كان ولا راد له, وما لم يشأ لم يكن فلا موجد له, وأنه من هداه فلا مضل له, ومن يضلل الله فلا هادي له, كما قال عز وجل: {ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشد} ثم قال عز وجل مخبراً عن الظالمين وهم المشركون بالله: {لما رأوا العذاب} أي يوم القيامة تمنوا الرجعة إلى الدنيا {يقولون هل إلى مرد من سبيل} كما قال جل وعلا: {ولوترى إذ وقفوا على النار, فقالوا: ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون}. وقوله عز وجل: {وتراهم يعرضون عليه} أي على النار {خاشعين من الذل} أي الذي قد اعتراهم بما أسلفوا من عصيان الله تعالى {ينظرون من طرف خفي} قال مجاهد: يعني ذليل أي ينظرون إليها مسارقة خوفاً منها والذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة, وما هو أعظم مما في نفوسهم, أجارنا الله من ذلك. {وقال الذين آمنو} أي يقولون يوم القيامة {إن الخاسرين} أي الخسار الأكبر {الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة} أي ذهب بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد وخسروا أنفسهم, وفرق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم وأهاليهم وقراباتهم فخسروهم {ألا إن الظالمين في عذاب مقيم} أي دائم سرمدي أبدي لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها. وقوله تعالى: {وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله} أي ينقذونهم مما هم فيه من العذاب والنكال {ومن يضلل الله فما له من سبيل} أي ليس له خلاص.

** اسْتَجِيبُواْ لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ مَا لَكُمْ مّن مّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مّن نّكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاّ الْبَلاَغُ وَإِنّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنّ الإِنسَانَ كَفُورٌ
لما ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة من الأهوال والأمور العظام الهائلة, حذر منه وأمر بالاستعداد له, فقال: {استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله} أي إذا أمر بكونه فإنه كلمح البصر يكون, وليس له دافع ولا مانع. وقوله عز وجل: {ما لكم من ملجأ يومئذٍ وما لكم من نكير} أي ليس لكم حصن تتحصنون فيه ولا مكان يستركم وتتنكرون فيه فتغيبون عن بصره تبارك وتعالى, بل هو محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته, فلا ملجأ منه إلا إليه {يقول الإنسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر} وقوله تعالى: {فإن أعرضو} يعني المشركين {فما أرسلناك عليهم حفيظ} أي لست عليهم بمسيطر, وقال عز وجل: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} وقال تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} وقال جل وعلا ههنا: {إن عليك إلا البلاغ} أي إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم.
ثم قال تبارك وتعالى: {وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح به} أي إذا أصابه رخاء ونعمة فرح بذلك {وإن تصبهم} يعني الناس {سيئة} أي جدب وبلاء وشدة {فإن الإنسان كفور} أي يجحد ما تقدم من النعم ولا يعرف إلا الساعة الراهنة, فإن أصابته نعمة أشر وبطر, وإن أصابته محنة يئس وقنط, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: «يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار» فقالت امرأة: ولم يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لأنكن تكثرن الشكاية وتكفرن العشير, لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم تركت يوماً, قالت: ما رأيت منك خيراً قط» وهذا حال أكثر النساء, إلا من هداه الله تعالى وألهمه رشده, وكان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات, فالمؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له, وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن».

** لِلّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذّكُورَ * أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
يخبر تعالى أنه خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما, وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, وأنه يعطي من يشاء ويمنع من يشاء, ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع, وأنه يخلق ما يشاء {يهب لمن يشاء إناث} أي يرزقه البنات فقط. قال البغوي: ومنهم لوط عليه الصلاة والسلام. {ويهب لمن يشاء الذكور} أي يرزقه البنين فقط, قال البغوي: كإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لم يولد له أنثى {أو يزوجهم ذكراناً وإناث} أي يعطي لمن يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى أي هذا وهذا, قال البغوي: كمحمد صلى الله عليه وسلم {ويجعل من يشاء عقيم} أي لا يولد له. قال البغوي: كيحيى وعيسى عليهما السلام, فجعل الناس أربعة أقسام: منهم من يعطيه البنات, ومنهم من يعطيه البنين, ومنهم من يعطيه من النوعين ذكوراً وإناثاً, ومنهم من يمنعه هذا وهذا فيجعله عقيماً لا نسل له ولا ولد له. {إنه عليم} أي بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام {قدير} أي على من يشاء من تفاوت الناس في ذلك, وهذا المقام شبيه بقوله تبارك وتعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام {ولنجعله آية للناس} أي دلالة على قدرته تعالى وتقدس حيث خلق الخلق على أربعة أقسام, فآدم عليه الصلاة والسلام مخلوق من تراب لا من ذكر وأنثى, وحواء عليها السلام مخلوقة من ذكر بلا انثى, وسائر الخلق سوى عيسى عليه السلام من ذكر وأنثى, وعيسى عليه السلام من أنثى بلا ذكر, فتمت الدلالة بخلق عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام. ولهذا قال تعالى: {ولنجعله آية للناس} فهذا المقام في الاَباء والمقام الأول في الأبناء وكل منهما أربعة أقسام, فسبحان العليم القدير.