تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 488 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 488

487

45- "وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل" أي ساكنين متواضعين عند أن يعرضوا على النار لما لحقهم من الذل والهوان، والضمير في عليها راجع إلى العذاب وأنثه، لأن العذاب هو النار وقوله يعرضون في محل نصب على الحال، لأن الرؤية بصرية، وكذلك خاشعين، ومن الذل يتعلق بخاشعين أي من أجله "ينظرون من طرف خفي" من هي التي لابتداء الغاية: أي يبتدئ نظرهم إلى النار، ويجوز أن تكون تبعيضية، والطرف الخفي الذي يخفي نظره كالمصبور بنظر إلى السيف لما لحقهم من الذل والخوف والوجل. قال مجاهد: "من طرف خفي" أي ذليل قال: وإنما ينظرون بقلوبهم لأنهم يحشرون عمياً، وعين القلب طرف خفي. وقال قتادة وسعيد بن جبير والسدي والقرظي: يسارقون النظر من شدة الخوف. وقال يونس: إن من في من طرف بمعنى الباء: أي ينظرون بطرف ضعيف من الذل والخوف وبه قال الأخفش "وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة" أي أن الكاملين في الخسران: هم هؤلاء الذين جمعوا بين خسران الأنفس والأهلين في يوم القيامة. وأما خسرانهم لأنفسهم فلكونهم صاروا في النار معذبين بها، وأما خسرانهم لأهليهم فلأنهم إن كانوا معهم في النار فلا ينتفعون بهم، وإن كانوا في الجنة فقد حيل بينهم وبينهم، وقيل خسران الأهل: أنهم لو آمنوا لكان لهم في الجنة أهل من الحور العين "ألا إن الظالمين في عذاب مقيم" هذا يجوز أن يكون من تمام كلام المؤمنين، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه: أي هم في عذاب دائم لا ينقطع.
46- "وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله" أي لم يكن لهم أعوان يدفعون عنهم العذاب، وأنصار ينصرونهم في ذلك الموطن من دون الله، بل هو المتصرف سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن "ومن يضلل الله فما له من سبيل" أي من طريق يسلكها إلى النجاة.
ثم أمر سبحانه عباده بالاستجابة له وحذرهم فقال: 47- "استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله" أي استجيبوا دعوته لكم إلى الإيمان به وبكتبه ورسله من قبل أن يأتي يوم لا يقدر أحد على رده ودفعه، على معنى: من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد، أو لا يرده الله بعد أن حكم به على عباده ووعدهم به، والمراد به يوم القيامة، أو يوم الموت "ما لكم من ملجأ يومئذ" تلجأون إليه، "وما لكم من نكير" أي إنكار، والمعنى: ما لكم من إنكار يومئذ، بل تعترفون بذنوبكم. وقال مجاهد "وما لكم من نكير" أي ناصر ينصركم، وقيل النكير بمعنى المنكر، كالأليم بمعنى المؤلم: أي لا تجدون يومئذ منكراً لما ينزل بكم من العذاب قاله الكلبي وغيره، والأول أولى. قال الزجاج: معناه أنهم لا يقدرون أن ينكروا الذنوب التي يوقفون عليها.
48- "فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً" أي حافظاً تحفظ أعمالهم حتى تحاسبهم عليها، ولا موكلاً بهم رقيباً عليهم "إن عليك إلا البلاغ" أي ما عليك إلا البلاغ لما أمرت بإبلاغه، وليس عليك غير ذلك، وهذا منسوخ بآية السيف "وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها" أي إذا أعطيناه رخاءً وصحة وغنى وفرح بها بطراً، والمراد بالإنسان الجنس، ولهذا قال: "وإن تصبهم سيئة" أي بلاء وشدة ومرض "بما قدمت أيديهم" من الذنوب "فإن الإنسان كفور" أي كثير الكفر لما أنعم به عليه من نعمه، غير شكور له عليها، وهذا باعتبار غالب جنس الإنسان.
ثم ذكر سبحانه سعة ملكه ونفاذ تصرفه فقال: 49- "لله ملك السموات والأرض "أي له التصرف فيهما بما يريد، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع "يخلق ما يشاء" من الخلق "يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور". قال مجاهد والحسن والضحاك وأبو مالك وأبو عبيدة: يهب لمن يشاء إناثاً لا ذكور معهن، ويهب لمن يشاء ذكوراً لا إناث معهم. قيل وتعريف الذكور بالألف واللام للدلالة على شرفهم على الإناث، ويمكن أن يقال إن التقديم للإناث قد عارض ذلك، فلا دلالة في الآية على المفاضلة بل هي مسوقة لمعنى آخر. وقد دل على شرف الذكور قوله سبحانه: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله" وغير ذلك من الأدلة الدالة على شرف الذكور على الإناث، وقيل تقديم الإناث لكثرتهن بالنسبة إلى الذكور، وقيل لتطييب قلوب آبائهن، وقيل لغير ذلك مما لا حاجة إلى التطويل بذكره.
50- "أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً" أي يقرن بين الإناث والذكور ويجعلهم أزواجاً فيهبهما جميعاً لبعض خلقه. قال مجاهد: هو أن تلد المرأة غلاماً ثم تلد جارية ثم تلد غلاماً ثم تلد جارية. وقال محمد ابن الحنفية: هو أن تلد توأماً غلاماً وجارية. وقال القتيبي: التزويج هنا هو الجمع بين البنين والبنات تقول العرب: زوجت إبلي: إذا جمعت بين الصغار والكبار، ومعنى الآية أوضح من أن يختلف في مثله، فإنه سبحانه أخبر أنه يهب لبعض خلقه إناثاً، ويهب لبعض ذكوراً، ويجمع بين الذكور والإناث "ويجعل من يشاء عقيماً" لا يولد له ذكر ولا أنثى، والعقيم الذي لا يولد له، يقال رجل عقيم وامرأة عقيم، وعقمت المرأة تعقم عقماً، وأصله القطع، ويقال نساء عقم، ومنه قول الشاعر: عقم النساء فما يلدن شبيهه إن النساء بمثله عقم "إنه عليم قدير" أي بليغ العلم عظيم القدرة.
51- "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً" أي ما صح لفرد من أفراد البشر أن يكلمه الله بوجه من الوجوه إلا بأن يوحي إليه فيلهمه ويقذف ذلك في قلبه قال مجاهد: نفث ينفث في قلبه. فيكون إلهاماً منه كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم في ذبح ولده "أو من وراء حجاب" كما كلم موسى، يريد أن كلامه يسمع من حيث لا يرى، وهو تمثيل بحال الملك المحتجب الذي يكلم خواصه من وراء حجاب "أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء" أي يرسل ملكاً، فيوحي ذلك الملك إلى الرسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء أن يوحي إليه. قال الزجاج: المعنى أن كلام الله للبشر: إما أن يكون بإلهام يلهمهم، أو يكلمهم من وراء حجاب كما كلم موسى، أو برسالة ملك إليهم. وتقدير الكلام: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي وحياً، أو يكلمه من وراء حجاب أو يرسل رسولاً. ومن قرأ "يرسل" رفعاً أراد وهو يرسل، فهو ابتداء واستئناف اهـ. قرأ الجمهور بنصب "أو يرسل" وبنصب "فيوحي" على تقدير أن، وتكون أن وما دخلت عليه معطوفين على وحياً، ووحياً في محل الحال، والتقدير: إلا موحياً أو مرسلاً، ولا يصح عطف أو يرسل على أن يكلمه لأنه يصير التقدير: وما كان لبشر أن يرسل الله رسولاً، وهو فاسد لفظاً ومعنى. وقد قيل في توجيه قراءة الجمهور غير هذا مما لا يخلو عن ضعف. وقرأ نافع "أو يرسل" بالرفع، وكذلك "فيوحي" بإسكان الياء على أنه خبر مبتدإ محذوف، والتقدير: أو هو يرسل كما قال الزجاج وغيره، وجملة "إنه علي حكيم" تعليل لما قبلها: أي متعال عن صفات النقص، حكيم في كل أحكامه. قال المفسرون: سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى، فنزلت.