تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 489 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 489

489 : تفسير الصفحة رقم 489 من القرآن الكريم

** وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنّهُ عَلِيّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَـَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نّهْدِي بِهِ مَن نّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنّكَ لَتَهْدِيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلاَ إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الاُمُورُ
هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جنات الله عز وجل, وهو أنه تبارك وتعالى تارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل, كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها, فاتقوا الله وأجملوا في الطلب». وقوله تعالى: {أو من وراء حجاب} كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام, فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحاً» كذا جاء في الحديث, وكان قد قتل يوم أحد, ولكن هذا في عالم البرزخ, والاَية إنما هي في الدار الدنيا. وقوله عز وجل: {أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء} كما ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {إنه عليّ حكيم} فهو علي عليم خبير حكيم. وقوله عز وجل: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرن} يعني القرآن {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} أي على التفصيل الذي شرع لك في القرآن {ولكن جعلناه} أي القرآن {نوراً نهدي به من نشاء من عبادن} كقوله تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى} الاَية.
وقوله تعالى: {وإنك} أي يا محمد {لتهدي إلى صراط مستقيم} وهو الخلق القويم, ثم فسره بقوله تعالى: {صراط الله} أي وشرعه الذي أمر به الله {الذي له ما في السموات وما في الأرض} أي ربهما ومالكهما والمتصرف فيهما والحاكم الذي لا معقب لحكمه {ألا إلى الله تصير الأمور} أي ترجع الأمور فيفصلها ويحكم فيها سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.

سورة الزخرف
وهي مكية
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** حـمَ * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنّهُ فِيَ أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مّسْرِفِينَ * وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نّبِيّ فِي الأوّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نّبِيّ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَأَهْلَكْنَآ أَشَدّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَىَ مَثَلُ الأوّلِينَ
يقول تعالى: {حم والكتاب المبين} أي البين الواضح الجلي المعاني والألفاظ, لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس, ولهذا قال تعالى: {إنا جعلناه} أي نزلناه {قرآناً عربي} أي بلغة العرب فصيحاً واضحاً {لعلكم تتقون} أي تفهمونه وتتدبرونه, كما قال عز وجل: {بلسان عربي مبين}. وقوله تعالى: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} بين شرفه في الملأ الأعلى ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض, فقال تعالى: {وإنه} أي القرآن {في أم الكتاب} أي اللوح المحفوظ, قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد {لدين} أي عندنا, قاله قتادة وغيره {لعلي} أي ذو مكانة وشرف وفضل قاله قتادة {حكيم} أي محكم بريء من اللبس والزيغ. وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله, كما قال تبارك وتعالى: {إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين} وقال تعالى: {كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة} ولهذا استنبط العلماء رضي الله عنهم من هاتين)الاَيتين أن المحدث لايمس المصحف كما ورد به الحديث إِن صح, لأن الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القرآن في الملأ الأعلى, فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى, لأنه نزل عليهم, وخطابه متوجه إليهم, فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم, والانقياد له بالقبول والتسليم, لقوله تعالى: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}.
وقوله عز وجل: {أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين ؟} اختلف المفسرون في معناها فقيل معناها أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم ولم تفعلوا ما أمرتم به, قاله ابن عباس رضي الله عنهما وأبو الصالح ومجاهد والسدي واختاره ابن جرير, وقال قتادة في قوله تعالى: {أفنضرب عنكم الذكر صفحاً ؟} والله لو أن هذا القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الأمة لهلكوا, ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم ودعاه إليهم عشرين سنة أو ما شاء الله من ذلك, وقول قتادة لطيف المعنى جداً, وحاصله أنه يقول في معناه إنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم وهو القرآن, وإن كانوا مسرفين معرضين عنه بل أمر به ليهتدي به من قدر هدايته, وتقوم الحجة على من كتب شقاوته.
ثم قال جل وعلا مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه وآمراً له بالصبر عليهم: {وكم أرسلنا من نبي في الأولين} أي في شيع الأولين {وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون} أي يكذبونه ويسخرون به. وقوله تبارك وتعالى: {فأهلكنا أشد منهم بطش} أي فأهلكنا المكذبين بالرسل, وقد كانوا أشد بطشاً من هؤلاء المكذبين لك يا محمد, كقوله عز وجل: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة} والاَيات في ذلك كثيرة جداً. وقوله جل جلاله: {ومضى مثل الأولين} قال مجاهد: سنتهم. وقال قتادة: عقوبتهم. وقال غيرهما: عبرتهم, أي جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم, كقوله تعالى في آخر هذه السورة: {فجعلناهم سلفاً ومثلاً للاَخرين} وكقوله جلت عظمته: {سنة الله التي قد خلت في عباده} وقال عز وجل: {ولن تجد لسنة الله تبديل}.