تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 489 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 489

488

52- "وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا" أي وكالوحي الذي أوحينا إلى الأنبياء قبلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا، المراد به القرآن، وقيل النبوة. قال مقاتل: يعني الوحي بأمرنا ومعناه القرآن، لأنه يهتدي به، ففيه حياة من موت الكفر. ثم ذكر سبحانه صفة رسوله قبل أن يوحي إليه فقال: "ما كنت تدري ما الكتاب" أي أي شيء هو، لأنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب وذلك أدخل في الإعجاز وأدل على صحة نبوته، ومعنى "ولا الإيمان" أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يعرف تفاصيل الشرائع ولا يهتدي إلى معالمها، وخص الإيمان أنه رأسها وأساسها، وقيل أراد بالإيمان هنا الصلاة. قال بهذا جماعة من أهل العلم: منهم إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، واحتج بقوله تعالى: "وما كان الله ليضيع إيمانكم" يعني الصلاة، فسماها إيماناً. وذهب جماعة إلى أن الله سبحانه لم يبعث نبياً إلا وقد كان مؤمناً به، وقالوا معنى الآية: ما كنت تدري قبل الوحي كيف تقرأ القرآن ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان، وقيل كان هذا قبل البلوغ حين كان طفلاً وفي المهد. وقال الحسين بن الفضل: إنه على حذف مضاف: أي ولا أهل الإيمان، وقيل المراد بالإيمان دين الإسلام، وقيل الإيمان هنا عبارة عن الإقرار بكل ما كلف الله به العباد "ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء" أي ولكن جعلنا الروح الذي أوحيناه إليك ضياءً ودليلاً على التوحيد والإيمان نهدي به من نشاء هدايته "من عبادنا" ونرشده إلى الدين الحق "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم" قال قتادة والسدي ومقاتل: وإنك لتدعو إلى الإسلام، فهو الصراط المستقيم. قرأ الجمهور "لتهدي" على البناء للفاعل وقرأ ابن حوشب على البناء للمفعول. وقرأ ابن السميفع بضم التاء وكسر الدال من أهدى، وفي قراءة أبي وإنك لتدعو.
ثم بين الصراط المستقيم بقوله: 53- "صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض" وفي هذه الإضافة للصراط إلى الاسم الشريف من التعظيم له والتفخيم لشأنه ما لا يخفى، ومعنى "له ما في السموات وما في الأرض" أنه المالك لذلك والمتصرف فيه "ألا إلى الله تصير الأمور" أي تصير إليه يوم القيامة لا إلى غيره جميع أمور الخلائق، وفيه وعيد بالبعث المستلزم للمجازاة. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "ينظرون من طرف خفي" قال: ذليل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن كعب قال: يسارقون النظر إلى النار. وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بركة المرأة ابتكارها بالأنثى، لأن الله قال: "يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور"". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "ويجعل من يشاء عقيماً" قال: الذي لا يولد له. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً" قال: إلا أن يبعث ملكاً يوحي إليه من عنده، أو يلهمه فيقذف في قلبه، أو يكلمه من وراء حجاب. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا" قال: القرآن. وأخرج أبو نعيم في الدلائل وابن عساكر عن علي قال: "قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم؟ هل عبدت وثناً قط؟ قال: لا، قالوا: فهل شربت خمراً قط؟ قال: لا، وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر، وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان، وبذلك نزل القرآن "ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان"". سورة الزخرفهي تسع وثمانون آية قال القرطبي: هي مكية بالإجماع. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة حم الزخرف بمكة قال مقاتل: إلا قوله: "واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا" يعني فإنها نزلت بالمدينة. قوله: 1- "حم".
قوله: 2- " حم * والكتاب المبين " الكلام ها هنا في الإعراب كالكلام الذي قدمناه في " يس * والقرآن الحكيم " فإن جعلت حم قسماً كانت الواو عاطفة، وإن لم تجعل قسماً فالواو للقسم.
وجواب القسم 3- "إنا جعلناه" وقال ابن الأنباري: من جعل جواب والكتاب حم كما تقول: نزل والله، وجب والله وقف على الكتاب المبين، ومعنى جعلناه: أي سميناه ووصفناه، ولذلك تعدى إلى مفعولين. وقال السدي: المعنى أنزلناه "قرآناً" وقال مجاهد: قلناه. وقال سفيان الثوري: بيناه "عربياً" وكذا قال الزجاج: أي أنزل بلسان العرب، لان كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه. وقال مقاتل: لأن لسان أهل الجنة عربي "لعلكم تعقلون" أي جعلنا ذلك الكتاب قرآناً عربياً لكي تفهموه وتتعقلوا معانية وتحيطوا بما فيه. قال ابن زيد: لعلكم تتفكرون.
4- "وإنه في أم الكتاب" أي وإن القرآن في اللوح المحفوظ "لدينا" أي عندنا "لعلي حكيم" رفيع القدر محكم النظم لا يوجد فيه اختلاف ولا تناقص والجملة عطف على الجملة المقسم بها داخلة تحت معنى القسم، أو مستأنفة مقررة لما قبلها. قال الزجاج: أم الكتاب أصل الكتاب، وأصل كل شيء أمه، والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ كما قال: " بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ " وقال ابن جريح: المراد بقوله وإنه أعمال الخلق من إيمان وكفر وطاعة ومعصية. قال قتادة أخبر عن منزلته وشرفه وفضله: أي إن كذبتم به يا أهل مكة فإنه عندنا شريف رفيع محكم من الباطل.
5- "أفنضرب عنكم الذكر صفحاً" يقال ضربت عنه وأضرت عنه: إذا تركته وأمسكت عنه، كذا قال الفراء والزجاج وغيرهما، وانتصاب صفحاً على المصدرية، وقيل على الحال على معنى: أفنضرب عنكم الذكر صافحين، والصفح مصدر قولهم: صفحت عنه إذا أعرضت عنه، وذلك أنك توليه صفحة وجهك وعنقك، المراد بالذكر هنا القرآن، والاستفهام للإنكار والتوبيخ. قال الكسائي: المعنى أفنضرب عنكم الذكر طياً فلا توعظون ولا تؤمرون. وقال مجاهد وأبو صالح والسدي: أنفضرب عنكم العذاب ولا نعاقبكم على إسرافكم وكفركم. وقال قتادة: المعنى أنهلككم ولا نأمركم ولا ننهاكم. وروي عنه أنه قال: المعنى أفنمسك عن إنزال القرآن من قبل أنكم لا تؤمنون به. وقيل الذكر التذكير، كأنه قال: أنترك تذكيركم " أن كنتم قوما مسرفين "، قرأ نافع وحمزة والكسائي "إن كنتم" بكسر إن على أنها الشرطية والجزاء محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقرأ الباقون بفتحها على التعليل: أي لأن كنتم قوماً منهمكين في الإسراف مصرين عليه، واختار أبو عبيد قراءة الفتح.
ثم سلى سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: 6- "وكم أرسلنا من نبي في الأولين" كم هي الخبرية التي معناها التكثير، والمعنى: ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة.
7- " وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون " كاستهزاء قومك بك.
8- "فأهلكنا أشد منهم بطشاً" أي أهلكنا قوماً أشد قوة من هؤلاء القوم، وانتصاب بطشاً على التمييز أو الحال: أي باطشين "ومضى مثل الأولين" أي سلف في القرآن ذكرهم غير مرة. وقال قتادة: عقوبتهم، وقيل صفتهم، والمثل الوصف والخبر. وفي هذا تهديد شديد، لأنه يتضمن أن الأولين أهلكوا بتكذيب الرسل، وهؤلاء إن استمروا على تكذيبك والكفر بما جئت به هلكوا مثلهم.
9- "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم" أي لئن سألت هؤلاء الكفار من قومك من خلق هذه الأجرام العلوية والسفلية أقروا بأن الله خالقهن ولم ينكروا، وذلك أسوأ لحالهم وأشد لعقوبتهم، لأنهم عبدوا بعض مخلوقات الله خالقهن ولم ينكروا، وذلك أسوأ لحالهم وأشد لعقوبتهم، لأنهم عبدوا بعض مخلوقات الله وجعلوه شريكاً له، بل عمدوا إلى ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر من المخلوقات وهي الأصنام فجعلوها شركاء الله.
ثم وصف سبحانه نفسه بما يدل على عظيم نعمته على عباده وكمال قدرته في مخلوقاته فقال: 10- " الذي جعل لكم الأرض مهدا " وهذا كلام مبتدأ غير متصل بما قبله، ولو كان متصلاً بما قبله من جملة مقول الكفار لقالوا الذي جعل لنا الأرض مهاداً، والمهاد الفراش والبساط، وقد تقدم بيانه، قرأ الجمهور "مهاداً" وقرأ الكوفيون "مهداً" "وجعل لكم فيها سبلاً" أي طرقاً تسلكونها إلى حيث تريدون، وقيل معايش تعيشون بها "لعلكم تهتدون" بسلوكها إلى مقاصدكم ومنافعكم.