تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 517 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 517

517 : تفسير الصفحة رقم 517 من القرآن الكريم

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ
يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن كثير من الظن, وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله لأن بعض ذلك يكون إثماً محضاً, فليتجنب كثير منه احتياطاً وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً, وأنت تجد لها في الخير محملاً. وقال أبو عبد الله بن ماجة: حدثنا أبو القاسم بن أبي ضمرة نصربن محمد بن سليمان الحمصي, حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي قيس النضري, حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: «ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك, والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك, ماله ودمه وأن يظن به إلا خيراً» تفرد به ابن ماجة من هذا الوجه, وقال مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث, ولا تجسسوا ولاتحسسوا ولا تنافسوا ولاتحاسدوا, ولا تباغضوا ولا تدابروا, وكونوا عباد الله إخواناً» رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى وأبو داود عن العتبي عن مالك به.
وقال سفيان بن عيينة عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا, وكونوا عباد الله إخواناً, ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» رواه مسلم والترمذي وصححه من حديث سفيان بن عيينة به. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله القرمطي العدوي, حدثنا بكر بن عبد الوهاب المدني, حدثنا إسماعيل بن قيس الأنصاري, حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال عن أبيه, عن جده حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لازمات لأمتي: الطيرة والحسد وسوء الظن» فقال الرجل: وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حسدت فاستغفر الله, وإذا ظننت فلا تحقق, وإذا تطيرت فامض» وقال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد رضي الله عنه قال: أُتِيَ ابن مسعود رضي الله عنه برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً, فقال عبد الله رضي الله: قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. سماه ابن أبي حاتم في روايته الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم, حدثنا ليث عن إبراهيم بن نشيط الخولاني عن كعب بن علقمة عن أبي الهيثم عن دخين كاتب عقبة قال: قلت لعقبة: إن لنا جيراناً يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم. قال: لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم, قال: ففعل فلم ينتهوا. قال: فجاءه دخين فقال: إني قد نهيتهم فلم ينتهوا وإني داع لهم الشرط فتأخذهم , فقال له عقبة: ويحك لا تفعل ؟ فإني سمعت رسول الله يقول: «من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موؤدة من قبرها» ورواه أبو داود والنسائي من حديث الليث بن سعد به نحوه, وقال سفيان الثوري عن ثور عن راشد بن سعد عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» فقال أبو الدرداء رضي الله عنه كلمة سمعها معاوية رضي الله عنه من رسول)الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها, ورواه أبو داود منفرداً به من حديث الثوري به.
وقال أبو داود أيضاً: حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن جبير بن نفير وكثير بن مرة, وعمرو بن الأسود والمقدام بن معد يكرب وأبي أمامة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم» {ولا تجسسو} أي على بعضكم بعضاً والتجسس غالباً يطلق في الشر ومنه الجاسوس. وأما التحسس فيكون غالباً في الخير كما قال عز وجل إخباراً عن يعقوب أنه قال {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله} وقد يستعمل كل منهما في الشر كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا, وكونوا عباد الله إخواناً» وقال الأوزاعي: التجسس البحث عن الشيء. والتحسس الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون أو يتسمع على أبوابهم, والتدابر: الصرم, رواه ابن أبي حاتم عنه.
وقوله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعض} فيه نهي عن الغيبة, وقد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود: حدثنا القعنبي, حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ما الغيبة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال صلى الله عليه وسلم إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» ورواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي به وقال: حسن صحيح. ورواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة عن العلاء. وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما ومسروق وقتادة وأبو إسحاق ومعاوية بن قرة. وقال أبو داود: حدثنا مسدد, حدثنا يحيى عن سفيان, حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا. قال غير مسدد: تعني قصيرة, فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته» قالت: وحكيت له إنساناً فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أحب أني حكيت إنساناً وإن لي كذا وكذا» ورواه الترمذي من حديث يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع ثلاثتهم عن سفيان الثوري, عن علي بن الأقمر عن أبي حذيفة سلمة بن صهيب الأرحبي عن عائشة رضي الله عنها به وقال: حسن صحيح.
وقال ابن جرير: حدثني ابن أبي الشوارب, حدثنا عبد الواحد بن زياد, حدثنا سليمان الشيباني, حدثنا حسان بن المخارق أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله عنها, فلما قامت لتخرج أشارت عائشة رضي الله عنها بيدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي إنها قصيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اغتبتها» والغيبة محرمة بالإجماع, ولا يستثنى من ذلك إلا من رجحت مصلحته, كما في الجرح والتعديل والنصيحة كقوله صلى الله عليه وسلم, لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: «ائذنوا له بئس أخو العشيرة!» وكقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها, وقد خطبها معاوية وأبو الجهم: «أما معاوية فصعلوك, وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» وكذا ما جرى مجرى ذلك, ثم بقيتها على الترحيم الشديد, وقد ورد فيها الزجر الأكيد, ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت كما قال عز وجل: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه} أي كما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوه ذاك شرعاً, فإن عقوبته أشد من هذا, وهذا من التنفير عنها والتحذير منها كما قال صلى الله عليه وسلم في العائد في هبته: «كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه» وقد قال: «ليس لنا مثل السوء» وثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من غير وجه أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا».
وقال أبو داود: حدثنا واصل بن عبد الأعلى , حدثنا أسباط بن محمد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه, حسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم» ورواه الترمذي عن عبيد بن أسباط بن محمد عن أبيه به وقال: حسن غريب. وحدثنا عثمان بن أبي شيبة: حدثنا الأسود بن عامر, حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن سعيد بن عبد الله بن جريج عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه, لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته, ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» تفرد به أبو داود وقد روي من حديث البراء بن عازب. فقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا إبراهيم بن دينار, حدثنا مصعب بن سلام عن حمزة بن حبيب الزيات, عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها ـ أو قال ـ في خدورها, فقال: يا معشر من آمن بلسانه, لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته, ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته».
(طريق أخرى) عن ابن عمر. قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي: حدثنا عبد الله بن ناجية, حدثنا يحيى بن أكثم, حدثنا الفضل بن موسى الشيباني عن الحسين بن واقد عن أوفى بن دلهم عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه, لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته, ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» قال: ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك. قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح, حدثنا قتيبة عن ابن ثوبان عن أبيه عن محكول, عن وقاص بن ربيعة عن المستورد أنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في جهنم, ومن كسا ثوباً برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله في جهنم, ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله تعالى يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة» تفرد به أبو داود. وحدثنا ابن مصفى حدثنا بقية وأبو المغيرة, حدثنا صفوان, حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخشمون وجوههم وصدورهم, قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» تفرد به أبو داود وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الشامي به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن عبدة, أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد العمي, أخبرنا أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا يا رسول الله حدثنا ما رأيت ليلة أسري بك ؟ قال: ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير, رجال ونساء موكل بهم رجال يعمدون إلى عرض جنب أحدهم, فيجذون منه الجذة مثل النعل ثم يضعونها في في أحدهم. فيقال له كل كما أكلت وهو يجد من أكله الموت يا محمد لو يجد الموت وهو يكره عليه, فقلت: يا جبرائيل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الهمازون واللمازون أصحاب النميمة, فيقال: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه وهو يكره على أكل لحمه, هكذا أورد هذا الحديث وقد سقناه بطوله في أول تفسير سورة سبحان ولله الحمد والمنة, وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا الربيع عن يزيد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يصوموايوماً ولا يفطرن أحد حتى آذن له, فصام الناس, فلما أمسوا جعل الرجل يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ظللت منذ اليوم صائماً فائذن لي فأفطر فأذن له ويجيء الرجل فيقول ذلك, فيأذن له حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتين من أهلك ظلتا منذ اليوم صائمتين, فائذن لهما فليفطرا, فأعرض عنه ثم أعاد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما صامتا, وكيف صام من ظل يأكل من لحوم الناس ؟ اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين أن يستقيئا» ففعلتا, فقاءت كل واحدة منهما علقة, فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو ماتتا وهما فيهما لأكلتهما النار» إسناد ضعيف ومتن غريب. وقد رواه الحافظ البيهقي من حديث يزيد بن هارون.
حدثنا سليمان التيمي قال: سمعت رجلاً يحدث في مجلس أبي عثمان النهدي عن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن ههنا امرأتين صامتا وإنهما كادتا تموتان من العطش, أراه قال بالهاجرة, فأعرض عنه أوسكت عنه, فقال: يا نبي الله إنهماوالله قد ماتتا أو كادتا تموتان, فقال: ادعهما. فجاءتا قال: فجيء بقدح أو عس, فقال لإحداهما قيئي. فقاءت من قيح ودم وصديد حتى قاءت نصف القدح, ثم قال للأخرى : قيئي, فقاءت قيحاً ودماً وصديداً ولحماً ودماً عبيطاً وغيره حتى ملأت القدح, ثم قال: «إن هاتين صامتا عما أحل الله تعالى لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما, جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس». وهكذا رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وابن أبي عدي, كلاهما عن سليمان بن طرخان التيمي به مثله أو نحوه, ثم رواه أيضاً من حديث مسدد عن يحيى القطان عن عثمان بن غياث. حدثني رجل أظنه في حلقة أبي عثمان عن سعد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنهم أمروا بصيام, فجاء رجل في نصف النهار فقال: يا رسول الله فلانة وفلانة قد بلغتا الجهد فأعرض عنه مرتين أو ثلاثاً ثم قال «ادعهما» فجاء بعس أو قدح فقال لإحداهما: قيئي. فقاءت لحماً ودماً عبيطاً وقيحاً, وقال للأخرى مثل ذلك ثم قال: إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما. أتت إحداهما للأخرى فلم تزالا تأكلان لحوم الناس حتى امتلأت أجوافهما قيحاً. قال البيهقي: كذا قال عن سعد, والأول وهو عبيد أصح.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد, حدثنا أبي, حدثنا أبي أبو عاصم, حدثنا ابن جريج, أخبرني أبو الزبير عن ابن عمّ لأبي هريرة أنّ ماعزاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد زنيت, فأعرض عنه حتى قالها أربعاً, فلما كان في الخامسة قال: وتدري ما الزنا ؟ قال: نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً. قال: ما تريد إلى قول هذا ؟ قال: أريد أن تطهرني. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب الميل في المكحلة والرشا في البئر ؟ قال: نعم يا رسول الله قال: فأمر برجمه, فرجم, فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه, فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ؟ ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مر بجيفة حمار فقال: «أين فلان وفلان ؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار» قالا: غفر الله لك يا رسول الله وهل يؤكل هذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد أكلاً منه, والذي نفسي بيده إنه الاَن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها» إسناد صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدالصمد, حدثني أبي. حدثنا واصل مولى ابن عيينة, حدثني خالد بن عرفطة عن طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما هذه الريح ؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس».
(طريق أخرى) قال عبد بن حميد في مسنده: حدثنا إبراهيم بن الأشعث, حدثنا الفضيل بن عياض عن سليمان عن أبي سفيان وهو طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فهاجت ريح منتنة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن نفراً من المنافقين اغتابوا ناساً من المسلمين فلذلك بعثت هذه الريح» وربما قال «فلذلك هاجت هذه الريح» وقال السدي في قوله تعالى: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميت} زعم أن سلمان الفارسي رضي الله عنه كان مع رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفر يخدمهما ويخف لهما وينال من طعامهما, وأن سلمان رضي الله عنه لما سار الناس ذات يوم, وبقي سلمان رضي الله عنه نائماً لم يسر معهم, فجعل صاحباه يكلمانه فلم يجداه, فضربا الخباء فقالا: ما يريد سلمان أو هذا العبد شيئاً غير هذا أن يجيء إلى طعام مقدور وخباء مضروب, فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب لهما إداماً, فانطلق فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه قدح له فقال: يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك. قال صلى الله عليه وسلم: «ما يصنع أصحابك بالأدم ؟ قد ائتدموا» فرجع سلمان رضي الله عنه يخبرهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقا حتى أتيا رسول الله فقالا: والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاماً منذ نزلنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكما قد ائتدمتما بسلمان بقولكما» قال: ونزلت {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميت} أنه كان نائماً.
وروى الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المختار من طريق حبّان بن هلال عن حماد بن سلمة عن ثابت, عن أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضاً في الأسفار, وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما, رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيء لهما طعاماً فقالا: إن هذا لنؤوم فأيقظاه, فقالا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يقرئانك السلام ويستأدمانك فقال صلى الله عليه وسلم: «إنهما قد ائتدما» فجاءا فقالا يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «بلحم أخيكما, والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما» فقالا رضي الله عنهما: استغفر لنا يا رسول الله, فقال صلى الله عليه وسلم «مُرَاهُ فليستغفر لكما» وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحكم بن موسى, حدثنا محمد بن مسلم عن محمد بن إسحاق, عن عمه موسى بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكل من لحم أخيه في الدنيا قرب الله إليه لحمه في الاَخرة فيقال له كله ميتاً كما أكلته حياً ـ قال ـ فيأكله ويكلح ويصيح» غريب جداً.
وقوله عز وجل: {واتقوا الله} أي فيما أمركم به ونهاكم عنه فراقبوه في ذلك واخشوا منه {إن الله تواب رحيم} أي تواب على من تاب إليه رحيم لمن رجع إليه واعتمد عليه. قال الجمهور من العلماء: طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك ويعزم على أن لا يعود, وهل يشترط الندم على ما فات ؟ فيه نزاع, وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون: لا يشترط أن يتحلله فإنه إذا أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه فطريقه إذاً أن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها, وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته, لتكون تلك بتلك كما قال الإمام أحمد, حدثنا أحمد بن الحجاج, حدثنا عبد الله, أخبرنا يحيى بن أيوب عن عبد الله بن سليمان أن إسماعيل بن يحيى المعافري أخبره أن سهل بن معاذ بن أنس الجهني أخبره عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حمى مؤمناً من منافق يغتابه, بعث الله تعالى إليه ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم, ومن رمى مؤمناً بشيء يريد سبه حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» وكذا رواه أبو داود من حديث عبد الله وهو ابن المبارك به بنحوه. وقال أبو داود أيضاً: حدثنا إسحاق بن الصباح, حدثنا ابن أبي مريم, أخبرنا الليث, حدثني يحيى بن سليم أنه سمع إسماعيل بن بشير يقول: سمعت جابر بن عبد الله وأبا طلحة بن سهل الأنصاري رضي الله عنهما يقولان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرىء يخذل امراءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه, إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته, وما من امرىء ينصر امرءاً مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره عز وجل في مواطن يحب فيها نصرته» تفرد به أبو داود.

** يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوَاْ إِنّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
يقول تعالى مخبراً للناس أنه خلقهم من نفس واحدة وجعل منها زوجها, وهما آدم وحواء, وجعلهم شعوباً وهي أعم من القبائل, وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر والعمائر والأفخاذ وغير ذلك, وقيل: المراد بالشعوب بطون العجم, وبالقبائل بطون العرب, كما أن الأسباط بطون بني إسرائيل, وقد لخصت هذه في مقدمة مفردة جمعتها من كتاب الإنباه لأبي عمر بن عبد البر, ومن كتاب (القصد والأمم في معرفة أنساب العرب والعجم) فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء عليهما السلام سواء, وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية وهي طاعة الله تعالى ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم, ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضاً, منبهاً على تساويهم في البشرية {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفو} أي ليحصل التعارف بينهم كل يرجع إلى قبيلته, وقال مجاهد في قوله عز وجل {لتعارفو} كما يقال فلان بن فلان من كذا وكذا أي قبيلة كذا وكذا, وقال سفيان الثوري: كانت حمير ينتسبون إلى مخاليفها, وكانت عرب الحجاز ينتسبون إلى قبائلها, وقد قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا أحمد بن محمد, حدثنا عبد الله بن المبارك عن عبد الملك بن عيسى الثقفي, عن يزيد مولى المنبعث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم, فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر» ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} أي إنما تتفاضلون عند الله تعالى بالتقوى لا بالأحساب, وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البخاري: حدثنا محمد بن سلام, حدثنا عبدة عن عبيد الله عن سعيد بن أبي سعيد رضي الله عنه عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم ؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم» قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: «فأكرم الناس يوسف نبي الله, ابن نبي الله, ابن نبي الله ابن خليل الله» قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: «فعن معادن العرب تسألوني» ؟ قالوا: نعم. قال: «فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» وقد رواه البخاري في غير موضع من طرق عن عبدة بن سليمان, ورواه النسائي في التفسير من حديث عبيد الله وهو ابن عمر العمري به.
(حديث آخر) قال مسلم رحمه الله: حدثنا عمرو الناقد, حدثنا كثير بن هشام, حدثنا جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» ورواه ابن ماجه عن أحمد بن سنان عن كثير بن هشام به.
(حديث آخر) وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن أبي هلال عن بكر عن أبي ذر رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله» تفرد به أحمد رحمه لله.
(حديث آخر) وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو عبيدة عبد الوارث بن إبراهيم العسكري, حدثنا عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة, حدثنا عبيد بن حنين الطائي, سمعت محمد بن حبيب بن خراش العصري يحدث عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى».
(حديث آخر) قال أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا أحمد بن يحيى الكوفي, حدثنا الحسن بن الحسين, حدثنا قيس يعني ابن الربيع عن شبيب بن غرقدة, عن المستظل بن حصين عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب, ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان». ثم قال لا نعرفه عن حذيفة إلا من هذا الوجه.
(حديث آخر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان, حدثنا أسد بن موسى, حدثنا يحيى بن زكريا القطان, حدثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن في يده, فما وجد لها مناخاً في المسجد حتى نزل صلى الله عليه وسلم على أيدي الرجال, فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت, ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: «يا أيها الناس إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها, فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله تعالى, ورجل فاجر شقي هين على الله تعالى, إن الله عز وجل يقول: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} ـ ثم قال صلى الله عليه وسلم ـ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» هكذا رواه عبد بن حميد عن أبي عاصم الضحاك عن مخلد عن موسى بن عبيدة به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق, حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح, عن عقبة بن عامر رضي الله عنهما قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحد, كلكم بنو آدم طف الصاع لم يملؤوه, ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى, وكفى بالرجل أن يكون بذياً بخيلاً فاحشاً». وقد رواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن ابن لهيعة به ولفظه «الناس لاَدم وحواء طف الصاع لم يملؤوه, إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة, إن أكرمكم عند الله أتقاكم». وليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك, حدثنا شريك عن سماك عن عبد الله بن عميرة زوج درة بنت أبي لهب, عن ذرة بنت أبي لهب رضي الله عنها قالت: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس أقرأهم وأتقاهم لله عز وجل, وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم».
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا أبو الأسود عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من الدنيا ولا أعجبه أحد قط إلا ذو تقى, تفرد به أحمد.
وقوله تعالى: {إن الله عليم خبير} أي عليم بكم خبير بأموركم, فيهدي من يشاء ويضل من يشاء, ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء, ويفضل من يشاء على من يشاء, وهو الحكيم العليم الخبير في ذلك كله, وقد استدل بهذه الاَية الكريمة وهذه الاَحاديث الشريفة من ذهب من العلماء إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط ولا يشترط سوى الدين لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وذهب الاَخرون إلى أدلة مذكورة في كتب الفقه, وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في (كتاب الأحكام) ولله الحمد والمنة, وقد روى الطبراني عن عبد الرحمن أنه سمع رجلاً من بني هاشم يقول: أنا أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال غيره: أنا أولى به منك ولي منه نسبة.

** قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـَكِن قُولُوَاْ أَسْلَمْنَا وَلَمّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ * إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلّمُونَ اللّهَ بِدِينِكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاّ تَمُنّواْ عَلَيّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
يقول تعالى منكراً على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} وقد استفيد من هذه الاَية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة, ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان, فترقى من الأعم إلى الأخص ثم للأخص منه. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنهما قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً, فقال سعد رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً, وهو مؤمن, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم ؟ حتى أعادها سعد رضي الله عنه ثلاثاً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أو مسلم ؟ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعطي رجالاً وأدع من هو أحب إلي منهم, فلم أعطه شيئاً مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم» أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به, فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمن والمسلم, فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام, وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري ولله الحمد والمنة. ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلماً ليس منافقاً لأنه تركه من العطاء, ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام, فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الاَية ليسوا بمنافقين وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم, فادعوا لأنفسهم مقاماً أعلى مما وصلوا إليه فأدبوا في ذلك, وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي وقتادة واختاره ابن جرير. وإنما قلنا هذا لأن البخاري رحمه الله ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يظهرون الإيمان وليسوا كذلك.
وقد روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد أنهم قالوا في قوله تبارك وتعالى: {ولكن قولوا أسلمن} أي استسلمنا خوف القتل والسبي. قال مجاهد: نزلت في بني أسد بن خزيمة. وقال قتادة: نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, والصحيح الأول أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان, ولم يحصل لهم بعد فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد, ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا كما ذكر المنافقون في سورة براءة, وإنما قيل لهؤلاء تأديباً: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} أي لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد. ثم قال تعالى: {وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئ} أي لا ينقصكم من أجوركم شيئاً كقوله عز وجل: {وما ألتناهم من عملهم من شيء} وقوله تعالى: {إن الله غفور رحيم} أي لمن تاب إليه وأناب. وقوله تعالى: {إنما المؤمنون} أي إنما المؤمنون الكمل {الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابو} أي لم يشكوا ولا تزلزلوا بل ثبتوا على حال واحدة هي التصديق المحض {وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} أي وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه {أولئك هم الصادقون} أي في قولهم إذا قالوا إنهم مؤمنون, لا كبعض الأعراب الذين ليس لهم من الإيمان إلا الكلمة الظاهرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان, حدثنا رشدين, حدثنا عمرو بن الحارث عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله, والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم, والذي إذا أشرف على طمع تركه لله عز وجل» وقوله سبحانه وتعالى: {قل أتعلمون الله بدينكم} أي أتخبرونه بما في ضمائركم {والله يعلم ما في السموات وما في الأرض} أي لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر {والله بكل شيء عليم} ثم قال تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم} يعني الأعراب الذين يمنون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى رداً عليهم: {قل لا تمنوا علي إسلامكم} فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم ولله المنة عليكم فيه {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} أي في دعواكم ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين: «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي ؟» كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري, حدثنا يحيى بن سعيد الأموي عن محمد بن قيس عن أبي عون, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فقههم قليل وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم. ونزلت هذه الاَية {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} ثم قال: لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه, ولا نعلم روى أبو عون محمد بن عبيد الله عن سعيد بن جبير غير هذا الحديث ثم كرر الإخبار بعلمه بجميع الكائنات وبصره بأعمال المخلوقات فقال: {إن الله يعلم غيب السموات والأرض والله بصير بما تعلمون} آخر تفسير سورة الحجرات, ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.