تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 517 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 517

516

12- "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن" الظن هنا: هو مجرد التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم غيره بشيء من الفواحش ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك، وأمر سبحانه باجتناب الكثير ليفحص المؤمن عن كل ظن يظنه حتى يعلم وجهه، لأن من الظن ما يجب اتباعه، فإن أكثر الأحكام الشرعية مبنية على الظن، كالقياس وخبر الواحد ودلالة العموم، ولكن هذا الظن الذي يجب العمل به قد قوي بوجه من الوجوه الموجبة للعمل به فارتفع عن الشك والتهمة. قال الزجاج: هو أن يظن بأهل الخير سواءاً، فأما أهل السوء والفسوق فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم. قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان: هو أن يظن بأخيه المسلم سوءاً، ولا بأس به ما لم يتكلم به، فإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم. وحكى القرطبي عن أكثر العلماء: أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح، وجملة "إن بعض الظن إثم" تعليل لما قبلها من الأمر باجتناب كثير من الظن، وهذا البعض هو ظن السوء بأهل الخير، والإثم هو ما يستحقه الظان من العقوبة. ومما يدل على تفييد هذا الظن المأمور باجتنابه بظن السوء قوله تعالى: "وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً" فلا يدخل في الظن المأمور باجتنابه بشيء من الظن المأمور باتباعه في مسائل الدين، فإن الله قد تعبد عباده باتباعه، وأوجب العمل به جمهور أهل العلم، ولم ينكر ذلك إلا بعض طوائف المبتدعة كياداً للدين وشذوذاً عن جمهور المسلمين، وقد جاء التعبد بالظن في كثير من الشريعة المطهرة بل في أكثرها. ثم لما أمرهم الله سبحانه باجتناب كثير من الظن نهاهم عن التجسس فقال: "ولا تجسسوا" التجسس: البحث عما ينكتم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم، نهاهم الله سبحانه عن البحث عن معايب الناس ومثالبهم. قرأ الجمهور تجسسوا بالجيم، ومعناه ما ذكرنا. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء. قال الأخفش: ليس يبعد أحدهما من الآخر، لأن التجسس بالجيم: البحث عما يكتم عنك، والتحسس بالحاء: طلب الأخبار والبحث عنها. وقيل إن التجسس بالجيم هو البحث، ومنه قيل رجل جاسوس: إذا كان يبحث عن الأمور، وبالحاء ما أدركه الإنسان ببعض حواسه. وقيل إنه بالحاء فيما يطلبه الإنسان لنفسه، وبالجيم أن يكون رسولاً لغيره قاله ثعلب: "ولا يغتب بعضكم بعضاً" أي لا يتناول بعضكم بعضاً بظهر الغيب بما يسوءه، والغيبة: أن تذكر الرجل بما يكرهه، كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، فقيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته" "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً" مثل سبحانه الغيبة بأكل الميتة، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه، كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه. ذكر معناه الزجاج. وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه، وأنه كما يحرم أكل لحمه يحرم الاستطالة في عرضه، وفي هذا من التنفير عن الغيبة والتوبيخ لفاعلها والتشنيع عليه ما لا يخفى، فإن لحم الإنسان مما تنفر عن أكله الطباع الإنسانية، وتستكرهه الجبلة البشرية، فضلاً عن كونه محرماً شرعاً "فكرهتموه" قال الفراء: تقديره فقد كرهتموه فلا تفعلوا، والمعنى: فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً قال الرازي: الفاء في تقدير جواب كلام. كأنه قال: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه إذن. وقال أبو البقاء: هو معطوف على محذوف تقديره: عرض عليكم ذلك فكرهتموه "واتقوا الله" بترك ما أمركم باجتنابه "إن الله تواب رحيم" لمن اتقاه عما فرط منه من الذنب ومخالفة الأمر. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم "لو أتيت عبد الله بن أبي، فانطلق إليه وركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليه قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني ريح حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فنزلت فيهم "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا" الآية". وقد روي نحو هذا من وجوه أخر. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر قال: ما وجدت في نفسي من شيء ما وجت في نفسي من هذه الآية، إني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفة من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله وينصف بعضهم من بعض، فإذا أجابوا حكم فيهم بحكم كتاب الله حتى ينصف المظلوم، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ، وحق على إمام المؤمنين والمؤمنين أن يقاتلوهم حتى يفيئوا إلى أمر الله ويقروا بحكم الله. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا" االآية. قال: كان قتال بالنعال والعصي، فأمرهم أن يصلحوا بينهما. وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن عائشة قالت. ما رأيت مثل ما رغبت عنه هذه الأمة في هذه الآية: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما". وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم" قال: نزلت في قوم من بني تميم استهزؤا من بلال وسليمان وعمار وخباب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة. وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب وابن أبي الدنيا في ذم الغيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: "ولا تلمزوا أنفسكم" قال: لا يطعن بعضكم على بعض. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في الأدب، وأهل السنن الأربع وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة "ولا تنابزوا بالألقاب" قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا واحداً منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله إنه يكرهه، فنزلت "ولا تنابزوا بالألقاب". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: التنابز بالألقاب: أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق، فنهى الله أن يعير بما سلف من عمله. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في الآية قال: إذا كان الرجل يهودياً فأسلم فيقول: يا يهودي يا نصراني يا مجوسي، ويقول للرجل المسلم: يا فاسق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله :" يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن " قال : نهى الله المؤمن ان يظن بالمؤمن سوءا . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: "ولا تجسسوا" قال: نهى الله المؤمن أن يتتبع عورات المؤمن. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن زيد بن وهب قال: أتى ابن مسعود فقيل هذا فلان تفطر لحيته خمراً، فقال ابن مسعود: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذه. وقد وردت أحاديث في النهي عن تتبع عورات المسلمين والتجسس عن عيوبهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: "ولا يغتب بعضكم بعضاً" الآية قال: حرم الله أن يغتاب المؤمن بشيء كما حرم الميتة. والأحاديث في تحريم الغيبة كثيرة جداً معروفة في كتب الحديث.
قوله: 13- "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" هما آدم وحواء، والمقصود أنهم متاوون لاتصالهم بنسب واحد وكونه يجمعهم أب واحد وأم واحدة، وأنه لا موضع للتفاخر بينهم بالأنساب، وقيل المعنى: أن كل واحد منكم من أب وأم فالكل سواء "وجعلناكم شعوباً وقبائل" الشعوب جمع شعب بفتح الشين، وهو الحي العظيم: مثل مضر وربيعة، والقبائل دونها كبني بكر من ربيعة، وبني تميم من مضر. قال الواحدي: هذا قول جماعة من المفسرين، سموا شعباً لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة، والشعب من أسماء الأضداد: يقال شعبته: إذا جمعته: وشعبته إذا فرقته، ومنه سميت المنية شعوباً لأنها مفرقة، فأما الشعب بالكسر فهو الطريق في الجبل. قال الجوهري: الشعب ما تشعب من قبائل العرب والعجم، والجمع الشعوب. وقال مجاهد: الشعوب البعيد من النسب، والقبائل دون ذلك. وقال قتادة: الشعوب النسب والأقرب. وقيل إن الشعوب عرب اليمن من قحطان، والقبائل من ربيعة ومضر وسائر عدنان. وقيل الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب. وحكى أبو عبيد أن الشعب أكثر من القبيلة، ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة. ومما يؤيد ما قاله الجمهور من أن الشعب أكثر من القبيلة قول الشاعر: قبائل من شعوب ليس فيهم كريم قد يعد ولا نجيب قرأ الجمهور "لتعارفوا" بتخفيف التاء وأصله لتتعارفوا فحذفت إحدى التاءين. وقرأ البزي بتشديدها على الإدغام. وقرأ الأعمش بتاءين واللام متعلقة بخلقناكم: أي خلقناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضاً. وقرأ ابن عباس لتعرفوا مضارع عرف. والفائدة في التعارف أن ينتسب كل واحد منهم إلى نسبه ولا يعتري إلى غيره. والمقصود من هذا أن الله سبحانه خلقهم كذلك لهذه الفائدة لا للتفاخر بأنسابهم ودعوى أن هذا الشعب أفضل من هذا الشعب، وهذه القبيلة أكرم من هذه القبيلة، وهذا البطن أشرف من هذا البطن. ثم علل سبحانه ما يدل عليه الكلام من النهي عن التفاخر فقال: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" أي إن التفاضل بينكم إنما هو بالتقوى، فمن تلبس بها فهو المستحق لأن يكون أكرم ممن لم يلتبس بها وأشرف وأفضل، فدعوا ما أنتم فيه من التفاخر بالأنساب، فإن ذلك لا يوجب كرماً ولا يثبت شرفاً ولا يقتضي فضلاً. قرأ الجمهور "إن أكرمكم" بكسر إن. وقرأ ابن عباس بفتحها: أي لأن أكرمكم "إن الله عليم" بكل معلوم ومن ذلك أعمالكم "خبير" بما تسرون وما تعلنون لا [تخفى] عليه من ذلك خافية.
ولما ذكر سبحانه أن أكرم الناس عند الله أتقاهم له وكان أصل التقوى الإيمان ذكر ما كانت تقوله العرب من دعوى الإيمان ليثبت لهم الشرف والفضل فقال: 14- "قالت الأعراب آمنا" وهو بنو أسد أظهروا الإسلام في سنة مجدبة يريدون الصدقة، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم فقال: "قل لم تؤمنوا" أي لم تصدقوا تصديقاً صحيحاً عن اعتقاد قلب وخلوص نية وطمأنينة "ولكن قولوا أسلمنا" أي استسلمنا خوف القتل والسبي أو للطمع في الصدقة، وهذه صفة المنافقين لأنهم أسلموا في ظاهر الأمر ولم تؤمن قلوبهم، ولهذا قال سبحانه "ولما يدخل الإيمان في قلوبكم" أي لم يكن ما أظهرتموه بألسنتكم عن مواطأة قلوبكم، بل مجرد قول باللسان من دون اعتقاد صحيح ولا نية خالصة، والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها، أو في محل نصب على الحال، وفي لما ممعنى التوقع. قال الزجاج: الإسلام إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبي، وبذلك يحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان وصاحبه المؤمن. وقد أخرج هؤلاء من الإيمان بقوله: "ولما يدخل الإيمان في قلوبكم" أي لم تصدقوا وإنما أسلمتم تعوذاً من القتل "وإن تطيعوا الله ورسوله" طاعة صحيحة صادرة عن نيات خالصة، وقلوب مصدقة غير منافقة "لا يلتكم من أعمالكم شيئاً" يقال لات يلت: إذا نقص، ولاته يليته ويلوته: إذا نقصه، والمعنى: لا ينقصكم من أعمالكم شيئاً. قرأ الجمهور "يلتكم" من لاته يليته كباع يبيعه. وقرأ أبو عمرو " لا يلتكم " بالهمز من ألته يألته بالفتح في الماضي والكسر في المضارع، واختار قراءة أبي عمرو وأبو حاتم لقوله: "وما ألتناهم من عملهم من شيء" وعليها قول الشاعر: أبلغ بني أسد عني مغلغلة جهر الرسالة لا ألتا ولا كذبا واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور، وعليها قول رؤبة بن العجاج: وليلة ذات ندى سريت ولم يلتني عن سراها ليت وهما لغتان فصيحتان "إن الله غفور" أي بليغ المغفرة لمن فرط منه ذنب "رحيم" بليغ الرحمة لهم.
ثم لما ذكر سبحانه أن أولئك الذين قالوا آمنا لمن يؤمنوا ولا دخل الإيمان في قلوبهم بين المؤمنين المستحقين لإطلاق اسم الإيمان عليهم فقال: 15- " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله " يعني إيماناً صحيحاً خالصاً عن مواطأة القلب واللسان "ثم لم يرتابوا" [أي] لم يدخل قلوبهم شيء من الريب ولا خالطهم شك من الشكوك "وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله" أي في طاعته وابتغاء مرضاته، ويدخل في الجهاد الأعمال الصالحة التي أمر الله بها، فإنها من جملة ما يجاهد المرء نفسه حتى يقوم به ويؤيده كما أمر الله سبحانه، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى الجامعين بين الأمور المذكورة وهو مبتدأ، وخبره قوله: "هم الصادقون" أي الصادقون في الاتصاف بصفة الإيمان والدخول في عداد أهله، لا من عداهم ممن أظهر الإسلام بلسانه. وادعى أنه مؤمن، ولم يطمئن بالإيمان قلبه، ولا وصل إليه معناه، ولا عمل بأعمال أهله، وهم الأعراب الذين تقدم ذكرهم وسائر أهل النفاق.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لأولئك الأعراب وأمثالهم قولاً آخر لما ادعوا أنهم مؤمنون فقال: 16- "قل أتعلمون الله بدينكم" التعليم هاهنا بمعنى الإعلام، ولهذا دخلت الباء في بدينكم: أي أخبرونه بذلك حيث قلتم آمنا "والله يعلم ما في السموات وما في الأرض" فكيف يخفى عليه بطلان ما تدعونه من الإيمان، والجملة في محل النصب على الحال من مفعول تعلمون "والله بكل شيء عليم" لا تخفى عليه من ذلك خافية، وقد علم ما تبطنونه من الكفر وتظهرونه من الإسلام لخوف الضراء ورجاء النفع.
ثم أخبر الله سبحانه رسوله بما يقوله لهم عند المن عليه منهم بما يدعونه من الإسلام فقال: 17- "يمنون عليك أن أسلموا" أي يعدون إسلامهم منة عليك حيث قالوا جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان "قل لا تمنوا علي إسلامكم" أي لا تعدوه منة علي، فإن الإسلام هو المنة التي لا يطلب وليها ثواباً لمن أنعم بها عليه، ولهذا قال: "بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان" أي أرشدكم إليه وأراكم طريقه سواء وصلتم إلى المطرب أم تصلوا إليه، وانتصاب إسلامكم إما على أنه مفعول به على تضمين يمنون معنى يعدون، أو بنزع الخافض: أي لأن أسلموا، وهكذا قوله: "أن هداكم للإيمان" فإنه يحتمل الوجهين "إن كنتم صادقين" فيما تدعونه، والجواب محذوف يدل عليه ما قبله: أي إن كنتم صادقين فلله المنة عليكم. قرأ الجمهور "أن هداكم" بفتح أن، وقرأ عاصم بكسرها.
18- "إن الله يعلم غيب السموات والأرض" أي ما غاب فيهما "والله بصير بما تعملون" لا يخفى عليه من ذلك شيء، فهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشر شراً. قرأ الجمهور "تعملون" على الخطاب، وقرأ ابن كثير على الغيبة. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن أبي مليكة قال: لما كان يوم الفتح رقي بلال فأذن على الكعبة، فقال بعض الناس: أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة. وقال بعضهم: إن يسخط الله هذا يغيره، فنزلت "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى". وأخرج ابن المنذر عن ابن جريح نحوه. وأخرج أبو داود في مراسيله وابن مردويه والبيهقي في سننه عن الزهري قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا: يا رسول الله، أنزوج بناتنا موالينا؟ فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن مردويه عن عمر بن الخطاب أن هذه الآية "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" هي مكية، وهي للعرب خاصة الموالي: أي قبيلة لهم، وأي شعاب، وقوله: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فقال: أتقاكم للشرك. وأخرج البخاري وابن جرير عن ابن عباس قال: الشعوب القبائل العظام، والقبائل البطون. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: الشعوب الجماع، والقبائل الأفخاذ التي يتعارفون بها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي هريرة قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم. قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله. قالوا ليس عن هذا نسألك. قال:فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا نعم. قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" وقد وردت أحاديث في الصحيح وغيره أن التقوى هي التي يتفاضل بها العباد. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "قالت الأعراب آمنا" قال أعراب بني أسد وخزيمة، وفي قوله: "ولكن قولوا أسلمنا" مخافة القتل والسبي. وأخرج ابن جرير عن قتادة أنها نزلت في بني أسد. وأخرج ابن المنذر الطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند حسن عن عبد الله بن أبي أوفى: أن ناساً من العرب قالوا: يا رسول الله أسلمنا ولم نقاتلك بنو فلان، فأنزل الله "يمنون عليك أن أسلموا". وأخرج النسائي والبزار وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وذكر أنهم بنو أسد.