تفسير الطبري تفسير الصفحة 517 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 517
518
516
 الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله, لا تقربوا كثيرا من الظنّ بالمؤمنين, وذلك أن تظنوا سوءا, فإن الظانّ غير محقّ, وقال جلّ ثناؤه: اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ ولم يقل: الظنّ كله, إذ كان قد أذِن للمؤمنين أن يظنّ بعضهم ببعض الخير, فقال: لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ المُؤْمنُونَ وَالمُؤْمِناتَ بُأنْفُسِهِمْ خَيْرا وَقالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ فأذن الله جلّ ثناؤه للمؤمنين أن يظنّ بعضهم ببعض الخير وأن يقولوه, وإن لم يكونوا من قيله فيهم على يقين. وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24565ـ حدثني عليّ, قال: ثني أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ يقول: نهى الله المؤمن أن يظنّ بالمؤمن شرّا.
وقوله: إنّ بَعْضَ الظّنّ إثْمٌ يقول: إن ظنّ المؤمن بالمؤمن الشرّ لا الخير إثم, لأن الله قد نهاه عنه, ففعل ما نهى الله عنه إثم.
وقوله: وَلا تَجَسّسُوا يقول: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض, ولا يبحث عن سرائره, يبتغي بذلك الظهور على عيوبه, ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره, وبه فاحمدوا أو ذموا, لا على ما لا تعلمونه من سرائره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24566ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَلا تَجَسّسُوا يقول: نهى الله المؤمن أن يتتبع عورات المؤمن.
24567ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وَلا تَجَسّسُوا قال: خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله.
24568ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ إنّ بَعْضَ الظّنّ إثْمٌ وَلا تَجَسّسُوا هل تدرون ما التجسس أو التجسيس؟ هو أن تتبع, أو تبتغي عيب أخيك لتطلع على سرّه.
24569ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان وَلا تَجَسّسُوا قال: البحث.
24570ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ إنّ بَعْضَ الظّنّ إثْمٌ وَلا تَجَسّسُوا قال: حتى أنظر في ذلك وأسأل عنه, حتى أعرف حقّ هو, أم باطل؟ قال: فسماه الله تجسسا, قال: يتجسس كما يتجسس الكلاب,
وقرأ قول الله: وَلا تَجَسّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضا وقوله: ولا يغتب بعضكم بعضا يقول: ولا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه. وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك, والأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
24571ـ حدثني يزيد بن مخلد الواسطيّ, قال: حدثنا خالد بن عبد الله الطحان, عن عبد الرحمن بن إسحاق, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة, قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة, فقال: «هُوَ أنْ تَقُولَ لأخِيكَ ما فِيهِ, فإنْ كُنْتَ صَادِقا فَقَدِ اغْتَبْتَه, وَإنْ كُنْتَ كاذِبا فَقَدْ بَهَتّهُ».
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع, قال: حدثنا بشر بن المفضل, قال: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, بنحوه.
حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: سمعت العلاء يحدّث, عن أبيه, عن أبي هريرة, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «هَلْ تَدْرُونَ ما الْغيّبَةُ»؟ قال: قالوا الله ورسوله أعلم قال: «ذِكْرُكَ أخاكَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ», قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول له قال: «إنْ كان فِيهِ ما تَقُولُ فَقَد اغْتَبْتَهُ, وَإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتّهُ».
24572ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا سعيد بن الربيع, قال: حدثنا شعبة, عن العباس, عن رجل سمع ابن عمر يقول: إذا ذكرت الرجل بما فيه, فقد اغتبته, وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بَهَتّه. وقال شعبة مرّة أخرى: وإذا ذكرته بما ليس فيه, فهي فِرْية قال أبو موسى: هو عباس الجَريريّ:
24573ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا ابن أبي عديّ, عن شعبة, عن سليمان, عن عبد الله بن مرّة, عن مسروق قال: إذا ذكرت الرجل بأسوإ ما فيه فقد اغتبته, وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بَهتَه.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق, قال: إذا قلت في الرجل أسوأ ما فيه فقد اغتبته, وإذا قلت ما ليس فيه فقد بَهتَه.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا عمر بن عبيد, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق, قال الغيبة: أن يقول للرجل أسوأ ما يعلم فيه, والبهتان: أن يقول ما ليس فيه.
24574ـ حدثنا يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني معاوية بن صالح, عن كثير بن الحارث, عن القاسم, مولى معاوية, قال: سمعت ابن أمّ عبد يقول: ما التقم أحد لقمة أشرّ من اغتياب المؤمن, إن قال فيه ما يعلم فقد اغتابه, وإن قال فيه ما لا يعلم فقد بَهَتَه.
حدثنا أبو السائب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق, قال: إذا ذكرت الرجل بما فيه فقد اغتبته, وإذا ذكرته بما ليس فيه فذلك البهتان.
24575ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا المعتمر, قال: سمعت يونس, عن الحسن أنه قال في الغيبة: أن تذكر من أخيك ما تعلم فيه من مساوىء أعماله, فإذا ذكرته بما ليس فيه فذلك البهتان.
24576ـ حدثنا ابن أبي الشوارب, قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد, قال: حدثنا سليمان الشيبانيّ, قال: حدثنا حسان بن المخارق أن امرأة دخلت على عائشة فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, أي أنها قصيرة, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اغْتَبْتِيها».
24577ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق, قال: لو مرّ بك أقطع, فقلت: ذاك الأقطع, كانت منك غيبة قال: وسمعت معاوية بن قرة يقول ذلك.
24578ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: سمعت معاوية بن قُرة يقول: لو مرّ بك رجل أقطع, فقلت له: إنه أقطع كنت قد اغتبته, قال: فذكرت ذلك لأبي إسحاق الهمداني فقال: صدق.
24579ـ حدثني جابر بن الكرديّ, قال: حدثنا ابن أبي أويس, قال: ثني أخي أبو بكر, عن حماد بن أبي حميد, عن موسى بن وردان, عن أبي هريرة أن رجلاً قام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرأوا في قيامه عجزا, فقالوا: يا رسول الله ما أعجز فلانا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكَلْتُمْ أخاكُمْ وَاغْتَبْتُمُوه».
24580ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا حبان بن علي العنزيّ عن مثنى بن صباح, عن عمرو بن شعيب, عن معاذ بن جبل, قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكر القوم رجلاً, فقالوا: ما يأكل إلا ما أطعم, وما يرحل إلا ما رحل له, وما أضعفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغْتَبْتُمْ أخاكُمْ», فقالوا يا رسول الله وغيبته أن نحدّث بما فيه؟ قال: «بحَسْبِكُمْ أنْ تُحَدّثُوا عَنْ أخِيكُمْ ما فِيهِ».
حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا خالد بن محمد, عن محمد بن جعفر, عن العلاء, عن أبيه, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا ذَكَرْتَ أخاكَ بِمَا يَكْرَهُ فإنْ كانَ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ, وَإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتّهُ».
24581ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كنا نحدّث أن الغيبة أن تذكر أخاك بما يشينه, وتعيبه بما فيه, وإن كذبت عليه فذلك البهتان.
وقوله أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا فَكَرِهْتُمُوهُ يقول تعالى ذكره للمؤمنين أيحبّ أحدكم أيها القوم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته ميتا, فإن لم تحبوا ذلك وكرهتموه, لأن الله حرّم ذلك عليكم, فكذلك لا تحبوا أن تغتابوه في حياته, فاكرهوا غيبته حيا, كما كرهتم لحمه ميتا, فإن الله حرّم غيبته حيا, كما حرّم أكل لحمه ميتا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24582ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضا أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا قال: حرّم الله على المؤمن أن يغتاب المؤمن بشيء, كما حرّم المَيْتة.
24583ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا قالوا: نكره ذلك, قال: فكذلك فاتقوا الله.
24584ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا فَكَرِهْتُمُوهُ يقول: كما أنت كاره لو وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها, فكذلك فاكره غِيبته وهو حيّ.
وقوله: وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ يقول تعالى ذكره: فاتقوا الله أيها الناس, فخافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظنّ أحدكم بأخيه المؤمن ظنّ السوء, وتتبع عوراته, والتجسس عما ستر عنه من أمره, واغتيابه بما يكرهه, تريدون به شينه وعيبه, وغير ذلك من الأمور التي نهاكم عنها ربكم إنّ اللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ يقول: إن الله راجع لعبده إلى ما يحبه إذا رجع العبد لربه إلى ما يحبه منه, رحيم به بأن يعاقبه على ذنب أذنبه بعد توبته منه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا فقرأته عامة قرّاء المدينة بالتثقيل «مَيّتا», وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة مَيْتا بالتخفيف, وهما قراءتان عندنا معروفتان متقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
الآية : 13
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوَاْ إِنّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }.
يقول تعالى ذكره: يا أيها الناس إنا أنشأنا خلقكم من ماء ذكر من الرجال, وماء أنثى من النساء وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24585ـ حدثنا أبو هشام, قال: حدثنا عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا عثمان بن الأسود, عن مجاهد, قال: خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة, وقد قال تبارك وتعالى يا أيّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى.
حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, قال: حدثنا عثمان بن الأسود, عن مجاهد, قوله: إنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى قال: ما خلق الله الولد إلا من نطفة الرجل والمرأة جميعا, لأن الله يقول خَلَقْناكمْ مِنْ ذكَرٍ وأُنْثَى.
وقوله: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا يقول: وجعلناكم متناسبين, فبعضكم يناسب بعضا نسبا بعيدا, وبعضكم يناسب بعضا نسبا قريبا فالمناسب النسب البعيد من لم ينسبه أهل الشعوب, وذلك إذا قيل للرجل من العرب: من أيّ شعب أنت؟ قال: أنا من مضر, أو من ربيعة. وأما أهل المناسبة القريبة أهل القبائل, وهم كتميم من مضر, وبكر من ربيعة, وأقرب القبائل الأفخاذ وهما كشيبان من بكر ودارم من تميم, ونحو ذلك, ومن الشّعْب قول ابن أحمر الباهلي:
مِن شَعْبِ هَمْدانَ أوْ سَعْدِ العَشِيرَةِ أوْخَوْلانَ أوْ مَذْحِجٍ هاجُوا لَهُ طَرَبا
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24586ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا بكر بن عياش, قال: حدثنا أبو حُصين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس وَجَعلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: الجُمّاع, والقبائل: البطون.
حدثنا خلاد بن أسلم, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, عن أبي حصين, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس, في قوله: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: الجُمّاع. قال خلاد, قال أبو بكر: القبائل العظام, مثل بني تميم, والقبائل: الأفخاذ.
24587ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا ابن عطية, قال: حدثنا إسرائيل, عن أبي حصين, عن سعيد بن جُبَير وَجَعلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: الجمهور, والقبائل: الأفخاذ.
24588ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: شُعُوبا قال: النسب البعيد. وَقَبائِلَ دون ذلك.
24589ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ قال: الشعوب: النسب البعيد, والقبائل كقوله: فلان من بني فلان, وفلان من بني فلان.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا قال: هو النسب البعيد. قال: والقبائل: كما تسمعه يقال: فلان من بني فلان.
24590ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا قال: أما الشعوب: فالنسب البعيد.
وقال بعضهم: الشعوب: الأفخاذ. ذكر من قال ذلك:
24591ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن أبي حصين, عن سعيد بن جُبير وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: الأفخاذ, والقبائل: القبائل.
وقال آخرون: الشعوب: البطون, والقبائل: الأفخاذ. ذكر من قال ذلك:
24592ـ حدثني يحيى بن طلحة, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, عن أبي حصين, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: البطون, والقبائل: الأفخاذ الكبار.
وقال آخرون: الشعوب: الأنساب. ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد, قال: ثنى أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: الأنساب.
وقوله: لِتَعارَفُوا يقول: ليعرف بعضكم بعضا في النسب, يقول تعالى ذكره: إنما جعلنا هذه الشعوب والقبائل لكم أيها الناس, ليعرف بعضكم بعضا في قرب القرابة منه وبعده, لا لفضيلة لكم في ذلك, وقُربة تقرّبكم إلى الله, بل أكرمكم عند الله أتقاكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24593ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا قال: جعلنا هذا لتعارفوا, فلان بن فلان من كذا وكذا.
وقوله: إنّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أتْقاكُمْ يقول تعالى ذكره: إن أكرمكم أيها الناس عند ربكم, أشدّكم اتقاء له بأداء فرائضه واجتناب معاصيه, لا أعظمكم بيتا ولا أكثركم عشيرة.
24594ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثني ابن لهيعة, عن الحارث بن يزيد, عن عليّ بن رباح, عن عقبة بن عامر, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «النّاسُ لاَدَمَ وَحَوّاءَ كَطَفّ الصّاعِ لَمْ يَملأوه, إنّ اللّهَ لا يسألُكُمْ عَنْ أحْسابِكُمْ وَلا عَنْ أنْسابِكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ, إن أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أتْقاكُمْ».
24595ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثني ابن لهيعة, عن الحارث بن يزيد عن عليّ بن رباح, عن عقبة بن عامر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أنْسابَكُمْ هَذِه لَيْسَتْ بِمَسابّ عَلى أحَدٍ, وإنّمَا أنْتُمْ وَلَدُ آدَمَ طَفّ الصّاعِ لَمْ تملأوه, لَيْسَ لأَحَدٍ على أحَد فَضْلٌ إلاّ بِدَيْنٍ أوْ عَمَلٍ صالِحٍ حَسْبُ الرّجُل أنْ يَكُونَ فاحِشا بَذِيّا بَخِيلاً جَبانا».
24596ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, عن ابن جُرَيج, قال: سمعت عطاء يقول: قال ابن عباس: ثلاث آيات جحدهنّ الناس: الإذن كله, وقال: إنّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أتْقاكُمْ وقال الناس أكرمكم: أعظمكم بيتا وقال عطاء: نسيت الثالثة.
وقوله: إنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الناس ذو علم بأتقاكم عند الله وأكرمكم عنده, ذو خبرة بكم وبمصالحكم, وغير ذلك من أموركم, لا تخفى عليه خافية.
الآية : 14
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـَكِن قُولُوَاْ أَسْلَمْنَا وَلَمّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: قالت الأعراب: صدّقنا بالله ورسوله, فنحن مؤمنون, قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهم لَمْ تُؤْمِنُوا ولستم مؤمنين وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا. وذُكر أن هذه الاَية نزلت في أعراب من بني أسد. ذكر من قال ذلك:
24597ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: قالَتِ الأَعْرَابُ آمَنّا قال: أعراب بني أسد بن خُزيمة.
واختلفت أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الأعراب: قولوا أسلمنا, ولا تقولوا آمنا, فقال بعضهم: إنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك, لأن القوم كانوا صدّقوا بألسنتهم, ولم يصدّقوا قولهم بفعلهم, فقيل لهم: قولوا أسلمنا, لأن الإسلام قول, والإيمان قول وعمل ذكر من قال ذلك:
24598ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الزهري قالَتِ الأَعْرَاب آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا قال: إن الإسلام: الكلمة, والإيمان: العمل.
24599ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, وأخبرني الزهريّ, عن عامر بن سعد, عن أبيه, قال: أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجالاً, ولم يعط رجلاً منهم شيئا, فقال سعد: يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا, ولم تُعط فلانا شيئا, وهو مؤمن, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أوْ مُسْلِمٌ»؟ حتى أعادها سعد ثلاثا, والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أوْ مُسْلِمٌ», ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «إنّي أُعْطِي رِجالاً وأَدَعُ مَنْ هُوَ أحَبّ إليّ مِنْهُمْ, لا أُعْطِيهِ شَيْئا مَخافَةَ أنْ يُكَبّوا فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ».
24600ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: قَالتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا قال: لم يصدّقوا إيمانهم بأعمالهم, فردّ الله ذلك عليهم قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا, وأخبرهم أن المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا, وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله, أولئك هم الصادقون, صدّقوا إيمانهم بأعمالهم فمن قال منهم: أنا مؤمن فقد صدق قال: وأما من انتحل الإيمان بالكلام ولم يعمل فقد كذب, وليس بصادق.
24601ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن مُغيرة, عن إبراهيم وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا قال: هو الإسلام.
وقال آخرون: إنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقيل ذلك لهم, لأنهم أرادوا أن يتسموا بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا, فأعلمهم الله أن لهم أسماء الأعراب, لا أسماء المهاجرين. ذكر من قال ذلك:
24602ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثنى أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: قالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا... الاَية, وذلك أنهم أرادوا أن يتسَمّوا باسم الهجرة, ولا يتسَمّوا بأسمائهم التي سماهم الله, وكان ذلك في أوّل الهجرة قبل أن تنزل المواريث لهم.
وقال آخرون: قيل لهم ذلك لأنهم منوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم, فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم لم تؤمنوا, ولكن استسلمتم خوف السباء والقتل. ذكر من قال ذلك:
24603ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: قالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولعمري ما عمت هذه الاَية الأعراب, إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الاَخر, ولكن إنما أُنزلت في حيّ من أحياء الأعراب امتنوا بإسلامهم على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: أسلمنا, ولم نقاتلك, كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان, فقال الله: لا تقولوا آمنا, ولكن قولوا أسلمنا حتى بلغ في قلوبكم.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا قال: لم تعمّ هذه الاَية الأعراب, إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الاَخر, ويتخذ ما ينفق قربات عند الله, ولكنها في طوائف من الأعراب.
24604ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن رَباح, عن أبي معروف, عن سعيد بن جُبَير قالَت الأعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا قال: استسلمنا لخوف السباء والقتل.
24605ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد قُولُوا أسْلَمْنا قال: استسلمنا.
24606ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, وقرأ قول الله قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا استسلمنا: دخلنا في السلم, وتركنا المحاربة والقتال بقولهم: لا إله إلاّ الله, وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حتى يَقُولُوا لا إلَهَ إلاّ اللّهُ, فإذا قالُوا لا إلَهَ إلاّ اللّهُ, عَصَمُوا مِنّي دِماءَهُمْ وأمْوَالَهُمْ إلاّ بِحَقّها وَحِسابُهُمْ على اللّهِ».
وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن الزهريّ وهو أن الله تقدّم إلى هؤلاء الأعراب الذين دخلوا في الملة إقرارا منهم بالقول, ولم يحققوا قولهم بعملهم أن يقولوا بالإطلاق آمنا دون تقييد قولهم بذلك بأن يقولوا آمنا بالله ورسوله, ولكن أمرهم أن يقولوا القول الذي لا يشكل على سامعيه والذي قائله فيه محقّ, وهو أن يقولوا أسلمنا, بمعنى: دخلنا في الملة والأموال, والشهادة الحقّ.
قوله: وَلمّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ يقول تعالى ذكره: ولما يدخل العلم بشرائع الإيمان, وحقائق معانيه في قلوبكم.
وقوله: وَإنْ تُطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ أعمالِكُمْ شَيئا يقول تعالى ذكره: لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم, إن تطيعوا الله ورسوله أيها القوم, فتأتمروا لأمره وأمر رسوله, وتعملوا بما فرض عليكم, وتنتهوا عما نهاكم عنه, لا يَلِتْكُمْ مِنْ أعمالِكُمْ شَيْئا يقول: لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئا ولا ينقصكم من ثوابها شيئا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24607ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: لا يَلِتْكُمْ لا ينقصكم.
24608ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله لا يَلِتْكُمْ مِنْ أعمالِكُمْ شَيْئا يقول: لن يظلمكم من أعمالكم شيئا.
24609ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في وَإنْ تُطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ قال: إن تصدقوا إيمانكم بأعمالكم يقبل ذلك منكم. وقرأت قرّاء الأمصار لا يَلِتْكُمْ مِنْ أعمالِكُم بغير همز ولا ألف, سوى أبي عمرو, فإنه قرأ ذلك «لا يأَلَتْكُمْ» بألف اعتبارا منه في ذلك بقوله: وَما ألَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهمْ مِنْ شَيْءٍ فمن قال: ألت, قال: يألت. وأما الاَخرون فإنهم جعلوا ذلك من لات يليت, كما قال رُؤبةُ بن العجاج:
وَلَيْلَةٍ ذَاتِ نَدًى سَرَيْتُولَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُرَاها لَيْتُ
والصواب من القراءة عندنا في ذلك, ما عليه قرّاء المدينة والكوفة لا يَلِتْكُمْ بغير ألف ولا همز, على لغة من قال: لات يليت, لعلتين: إحداهما: إجماع الحجة من القرّاء عليها. والثانية أنها في المصحف بغير ألف, ولا تسقط الهمزة في مثل هذا الموضع, لأنها ساكنة, والهمزة إذا سكنت ثبتت, كما يقال: تأمرون وتأكلون, وإنما تسقط إذا سكن ما قبلها, ولا يحمل حرف في القرآن إذا أتى بلغة على آخر جاء بلغة خلافها إذا كانت اللغتان معروفتين في كلام العرب. وقد ذكرنا أن ألت ولات لغتان معروفتان من كلامهم.
وقوله: إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول تعالى ذكره: إن الله ذو عفو أيها الأعراب لمن أطاعه, وتاب إليه من سالف ذنوبه, فأطيعوه, وانتهوا إلى أمره ونهيه, يغفر لكم ذنوبكم, رحيم بخلقه التائبين إليه أن يعاقبهم بعد توبتهم من ذنوبهم على ما تابوا منه, فتوبوا إليه يرحمكم. كما:
24610ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور للذنوب الكثيرة أو الكبيرة, شكّ يزيد, رحيم بعباده.
الآية : 15
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ }.
يقول تعالى ذكره للأعراب الذين قالوا آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم: إنما المؤمنون أيها القوم الذين صدّقوا الله ورسوله, ثم لم يرتابوا, يقول: ثم لم يشكوا في وحدانية الله, ولا في نبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم, وألزم نفسه طاعة الله وطاعة رسوله, والعمل بما وجب عليه من فرائض الله بغير شكّ منه في وجوب ذلك عليه وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يقول: جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم, وبذل مُهَجِهم في جهادهم, على ما أمرهم الله به من جهادهم, وذلك سبيله لتكون كلمة الله العليا, وكلمة الذين كفروا السفَلى.
وقوله: أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ يقول: هؤلاء الذين يفعلون ذلك هم الصادقون في قولهم: إنا مؤمنون, لا من دخل في الملة خوف السيف ليحقن دمه وماله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24611ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقونَ قال: صدّقوا إيمانهم بأعمالهم.
الآية : 16
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قُلْ أَتُعَلّمُونَ اللّهَ بِدِينِكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم: أتُعَلّمُونَ اللّهَ أيها القوم بدينكم, يعني بطاعتكم ربكم وَاللّهُ يَعْلَمُ ما في السّمَوَاتِ ومَا فِي الأرْضِ يقول: والله الذي تعلّمونه أنكم مؤمنون, عَلاّم جميع ما في السموات السبع والأرضين السبع, لا يخفى عليه منه شيء, فكيف تعلمونه بدينكم, والذي أنتم عليه من الإيمان, وهو لا يخفى عليه خافية, في سماء ولا أرض, فيخفى عليه ما أنتم عليه من الدين وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول: والله بكلّ ما كان, وما هو كائن, وبما يكون ذو علم. وإنما هذا تقدّم من الله إلى هؤلاء الأعراب بالنهي, عن أن يكذّبوا ويقولوا غير الذي هم عليه في دينهم. يقول: الله محيط بكلّ شيء عالم به, فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائر صدوركم, فينالكم عقوبته, فإنه لا يخفى عليه شيء.
الآية : 17
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاّ تَمُنّواْ عَلَيّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يمنّ عليك هؤلاء الأعراب يا محمد أن أسلموا قُلْ لا تَمُنّوا عَليّ إسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ للإيمَانِ يقول: بل الله يمن عليكم أيها القوم أن وفقكم للإيمان به وبرسوله إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ يقول: إن كنتم صادقين في قولكم آمنا, فإن الله هو الذي منّ عليكم بأن هداكم له, فلا تمنوا عليّ بإسلامكم.
وذُكر أن هؤلاء الأعراب من بني أسد, امتنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: آمنا من غير قتال, ولم نقاتلك كما قاتلك غيرنا, فأنزل الله فيهم هذه الاَيات: ذكر من قال ذلك:
24612ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جُبَير في هذه الاَية يَمُنّونَ عَلَيْكَ أنْ أْسْلَمُوا أهم بنو أسد؟ قال: قد قيل ذلك.
حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا سهل بن يوسف, قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, قال: قلت لسعيد بن جُبَير يمُنّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا أهم بنو أسد؟ قال: يزعمون ذاك.
24613ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن حبيب بن أبي عمرة, قال: كان بشر بن غالب ولبيد بن عطارد, أو بشر بن عطارد, ولبيد بن غالب عند الحجاج جالسين, فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد: نزلت في قومك بني تميم إنّ الّذِينَ يُنادُنَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ فذكرت ذلك لسعيد بن جُبير, فقال: إنه لو علم بآخر الاَية أجابه يَمُنّونَ عَلْيَكَ أنْ أسْلَمُوا قالوا أسلمنا ولم نقاتلك بنو أسد.
24614ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة لا تَمُنّوا أنا أسلمنا بغير قتال لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان, فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ لهم لا تَمُنّوا عَليّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ للإيمَانِ.
24615ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: يَمُنّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنّوا عَليّ إسْلامَكُمْ قال: فهذه الاَيات نزلت في الأعراب.
الآية : 18
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب, ومن الداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه, ومن الداخل فيه رهبة من رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وجنده, فلا تعلمونا دينكم وضمائر صدوركم, فإن الله يعلم ما تكنه ضمائر صدوركم, وتحدّثون به أنفسكم, ويعلم ما غاب عنكم, فاستسرّ في خبايا السموات والأرض, لا يخفى عليه شيء من ذلك واللّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يقول: والله ذو بصر بأعمالكم التي تعملونها, أجهرا تعملون أم سرّا, طاعة تعملون أو معصية؟ وهو مجازيكم على جميع ذلك, إن خيرا فخير, وإن شرّا فشرّ وكُفُؤه.
وإنْ في قوله: يَمُنّوا عَلَيْكَ أنْ أسْلَمْوا في موضع نصب بوقوع يمنون عليها, وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله «يَمُنّونَ عَلَيْكَ إسْلامَهُمْ», وذلك دليل على صحة ما قلنا, ولو قيل: هي نصب بمعنى: يمنون عليك لأن أسلموا, لكان وجها يتجه. وقال بعض أهل العربية: هي في موضع خفض. بمعنى: لأن أسلموا.
وأما أن التي في قوله: بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ فإنها في موضع نصب بسقوط الصلة لأن معنى الكلام: بل الله يمنّ عليكم بأن هداكم للإيمان.

نهاية تفسير الإمام الطبرى لسورة الحجرات