تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 540 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 540

540 : تفسير الصفحة رقم 540 من القرآن الكريم

** إِنّ الْمُصّدّقِينَ وَالْمُصّدّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشّهَدَآءُ عِندَ رَبّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
يخبر تعالى عما يثيب به المصدقين والمصدقات بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة {وأقرضوا الله قرضاً حسن} أي دفعوه بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله لا يريدون جزاءً ممن أعطوه ولا شكوراً, ولهذا قال: {يضاعف لهم} أي يقابل لهم الحسنة بعشر أمثالها, ويزاد على ذلك إلى سبعمائة ضعف, وفوق ذلك {ولهم أجر كريم} أي ثواب جزيل حسن ومرجع صالح ومآب كريم. وقوله تعالى: {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك همالصديقون} هذا تمام لجملة وصف المؤمنين با لله ورسله بأنهم صديقون, قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {والذين آمنوا با لله ورسله أولئك هم الصديقون} هذه مفصولة {والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم} وقال أبو الضحى {أولئك هم الصديقون} ثم استأنف الكلام فقال: {والشهداء عند ربهم} وهكذا قال مسروق والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم.
وقال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى, {أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم} قال: هم ثلاثة أصناف: يعني المصدقين والصديقين والشهداء, كما قال تعالى: {ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} ففرق بين الصديقين والشهداء فدل على أنهما صنفان ولا شك أن الصديق أعلى مقاماً من الشهيد, كما رواه الإمام مالك بن أنس رحمه الله في كتابه الموطأ عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل مابينهم» قال: يارسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال «بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث مالك به, وقال آخرون: بل المراد من قوله تعالى: {أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم} فأخبر عن المؤمنين با لله ورسله بأنهم صديقون وشهداء, حكاه ابن جرير عن مجاهد, ثم قال ابن جرير: حدثني صالح بن حرب أبو معمر, حدثنا إسماعيل بن يحيى, حدثنا ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن البراء بن عازب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مؤمنو أمتي شهداء» قال: ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الاَية {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم} هذا حديث غريب. وقال أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون في قوله تعالى: {والذين آمنوا با لله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم} قال: يجيئون يوم القيامة معاً كالأصبعين.
وقوله تعالى: {والشهداء عند ربهم} أي في جنات النعيم كما جاء في الصحيحين «إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: ماذا تريدون ؟! فقالوا: نحب أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنقتل كما قتلنا أول مرة, فقال: إني قد قضيت أنهم إليها لا يرجعون». وقوله تعالى: {لهم أجرهم ونورهم} أي لهم عند الله أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال كما قال الإمام أحمد, حدثنا يحيى بن إسحاق, حدثنا ابن لهيعة, عن عطاء بن دينار عن أبي يزيد الخولاني قال: سمعت فضالة بن عبيد يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الشهداء أربعة رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله فقتل فذاك الذي ينظر الناس إليه هكذا» ورفع رأسه حتى سقطت قلنسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنسوة عمر «والثاني مؤمن لقي العدو فكأنما يضرب ظهره بشوك الطلح جاءه سهم غرب فقتله فذاك في الدرجة الثانية, والثالث رجل مؤمن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذاك في الدرجة الثالثة, والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافاً كثيراً لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذاك في الدرجة الرابعة» وهكذا رواه علي بن المديني عن أبي داود الطيالسي عن ابن المبارك عن ابن لهيعة, وقال هذا إسناد مصري صالح, ورواه الترمذي من حديث ابن لهيعة وقال: حسن غريب, وقوله تعالى: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} لما ذكر السعداء ومآلهم عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم.

** اعْلَمُوَاْ أَنّمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَآ إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السّمَآءِ وَالأرْضِ أُعِدّتْ لِلّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
يقول تعالى موهناً أمر الحياة الدنيا ومحقراً لها: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد} أي إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا, كما قال تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث, ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية و نعمة زائلة فقال: {كمثل غيث} وهو المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس كما قال تعالى: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطو}.
وقوله تعالى: {أعجب الكفار نباته} أي يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث, وكما يعجب الزراع ذلك كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار, فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها {ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطام} أي يهيج ذلك الزرع فتراه مصفراً بعد ما كان خضراً نضراً, ثم يكون بعد ذلك كله حطاماً أي يصير يبساً متحطماً, هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة ثم تكتهل ثم تكون عجوزاً شوهاء, والإنسان يكون كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضاً طرياً لين الأعطاف, بهي المنظر, ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه ويفقد بعض قواه, ثم يكبر فيصير شيخاً كبيراً ضعيف القوى, قليل الحركة يعجزه الشيء اليسير كما قال تعالى: { الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير} ولما كان هذا المثل دالاً على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة, وأن الاَخرة كائنة لا محالة, حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير فقال: {وفي الاَخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان * وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} أي وليس في الاَخرة الاَتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا: إما عذاب شديد, وإما مغفرة من الله ورضوان.
وقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} أي هي متاع فانٍ غارّ لمن ركن إليه, فإنه يغتر بها وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها, وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى دار الاَخرة. قال ابن جرير: حدثنا علي بن حرب الموصلي, حدثنا المحاربي, حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها, اقرءوا {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}» وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزيادة والله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير ووكيع كلاهما عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك» انفرد بإخراجه البخاري في الرقاق من حديث الثوري عن الأعمش به. ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان, وإذا كان الأمر كذلك فلهذا حثه الله تعالى على المبادرة إلى الخيرات من فعل الطاعات وترك المحرمات التي تكفر عنه الذنوب والزلات وتحصل له الثواب والدرجات فقال تعالى: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض} والمراد جنس السماء والأرض كما قال تعالى في الاَية الأخرى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} وقال ههنا: {أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} أي هذا الذي أهلهم الله له هو من فضله ومنه عليهم وإحسانه إليهم, كما قدمناه في الصحيح أن فقراء المهاجرين قالوا: يارسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور بالدرجات العلى والنعيم المقيم قال «وما ذاك ؟» قالوا: يصلون كما نصلي, ويصومون كما نصوم, ويتصدقون ولا نتصدق, ويعتقون ولا نعتق. قال: «أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين» قال: فرجعوا فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال مافعلنا ففعلوا مثله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء».

** مَآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِيَ أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نّبْرَأَهَآ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ * لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلّ فَإِنّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ
يخبر تعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم} أي في الاَفاق وفي أنفسكم {إلا في كتاب من قبل أن نبرأه} أي من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة. وقال بعضهم: من قبل أن نبرأها عائد على النفوس, وقيل: عائد على المصيبة, والأحسن عوده على الخليقة والبرية لدلالة الكلام عليها كما قال ابن جرير: حدثني يعقوب, حدثني ابن علية عن منصور بن عبد الرحمن قال: كنت جالساً مع الحسن فقال رجل سله عن قوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأه} فسألته عنها فقال: سبحان الله ومن يشك في هذا ؟ كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة. وقال قتادة: ما أصاب من مصيبة في الأرض قال: هي السنون يعني الجدب {ولا في أنفسكم} يقول: الأوجاع والأمراض, قال: وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ولا نكبة قدم ولاخلجان عرق إلا بذنب, وما يعفوالله عنه أكثر.
وهذه الاَية الكريمة العظيمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق ـ قبحهم الله ـ وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن, حدثنا حيوة وابن لهيعة قالا: حدثنا أبو هانىء الخولاني أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة». ورواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن وهب وحيوة بن شريح ونافع بن زيد وثلاثتهم عن أبي هانىء به, وزاد ابن وهب «وكان عرشه على الماء» ورواه الترمذي وقال حسن صحيح. وقوله تعالى: {إن ذلك على الله يسير} أي إن علمه تعالى الأشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله عز وجل, لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
وقوله تعالى: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بماآتاكم} أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها, وتقديرنا الكائنات قبل وجودها, لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم, فلا تأسوا على ما فاتكم لأنه لو قدر شيء لكان {ولا تفرحوا بما آتاكم} أي جاءكم, وتفسير آتاكم أي أعطاكم وكلاهما متلازم أي لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم, فإن ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم, وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم فلا تتخذوا نعم الله أشراً وبطراً تفخرون بها على الناس, ولهذا قال تعالى: {والله لا يحب كل مختال فخور} أي مختال في نفسه متكبر فخور أي على غيره. وقال عكرمة: ليس أحد إلا هو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكراً والحزن صبراً. ثم قال تعالى: {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل} أي يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه {ومن يتول} أي عن أمر الله وطاعته {فإن الله هو الغني الحميد} كما قال موسى عليه السلام {إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد}.