تفسير الطبري تفسير الصفحة 540 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 540
541
539
 الآية : 19
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشّهَدَآءُ عِندَ رَبّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }.
يقول تعالى ذكره: والذين أقرّوا بوحدانية الله وإرساله رسله, فصدّقوا الرسل وآمنوا بما جاؤوهم به من عند ربهم, أولئك هم الصّدّيقون.
وقوله: والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ اختلف أهل التأويل في ذلك, فقال بعضهم: والشهداء عند ربهم منفصل من الذي قبله, والخبر عن الذين آمنوا بالله ورسله, متناه عند قوله: الصّدّيقُونَ, والصدّيقون مرفوعون بقوله: هم, ثم ابتدىء الخبر عن الشهداء فقيل: والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم, والشهداء في قولهم مرفوعون بقوله: لَهُمْ أجْرَهُمْ وَنُورُهُمْ. ذكر من قال ذلك:
26034ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله: وَالّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسِلِهِ أُولَئِكَ هُمْ الصّدّيقُونَ قال: هذه مفصولة والشّهَداءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ.
26035ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق أُولَئِكَ هُمُ الصّديقُونَ والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ قال: هي للشهداء خاصة.
حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق, قال: هي خاصة للشهداء.
26036ـ قال: ثنا مهران, عن سفيان عن أبي الضحى أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ ثم استأنف الكلام فقال: والشهداء عند ربهم.
26037ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول, في قوله: وَالّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُون هذه مفصولة, سماهم الله صدّيقين بأنهم آمنوا بالله وصدّقوا رسله, ثم قال: والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ هذه مفصولة.
وقال آخرون: بل قوله: والشهداء من صفة الذين آمنوا بالله ورسله قالوا: إنما تناهى الخبر عن الذين آمنوا عند قوله: والشُهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ ثم ابتدىء الخبر عما لهم, فقيل: لهم أجرهم ونورهم. ذكر من قال ذلك:
26038ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: أخبرنا أبو قيس أنه سمع هذيلاً يحدّث, قال: ذكروا الشهداء, فقال عبد الله: الرجل يقاتل للذكر, والرجل يقاتل ليرى مكانه, والرجل يقاتل للدنيا, والرجل يقاتل للسمعة, والرجل يقاتل للمغنم قال شعبة شيئا هذا معناه: والرجل يقاتل يريد وجه الله, والرجل يموت على فراشه وهو شهيد, وقرأ عبد الله هذه الآية وَالّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ.
26039ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, وليث عن مجاهد والّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُم وَنُورُهُمْ قال: كلّ مؤمن شهيد, ثم قرأها.
26040ـ حدثني صالح بن حرب أبو معمر, قال: حدثنا إسماعيل بن يحيى, قال: حدثنا ابن عجلان, عن زيد بن أسلم, عن البراء بن عازب, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مُؤْمِنُو أُمّتِي شُهَداءُ». قال: ثم تلا النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية وَالّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ.
26041ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: الصّدّيقُونَ والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ قال: بالإيمان على أنفسهم بالله.
وقال آخرون: الشهداء عند ربهم في هذا الموضع: النبيون الذين يشهدون على أممهم من قول الله عزّ وجلّ فَكَيْفَ إذَا جِئْنا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا.
والذي هو أولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال: الكلام والخبر عن الذين آمنوا, متناه عند قوله: أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وإن قوله: والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ خبر مبتدأ عن الشهداء.
وإنما قلنا: إن ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب, لأن ذلك هو الأغلب من معانيه في الظاهر, وأنّ الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم شهيد لا بمعنى غيره, إلا أن يُراد به شهيد على ما آمن به وصدّقه, فيكون ذلك وجها, وإن كان فيه بعض البعد, لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه, إذا أطلق بغير وصل, فتأويل قوله: والشُهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ إذن والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله, أو هلكوا في سبيله عند ربهم, لهم ثواب الله إياهم في الاَخرة ونورهم.
وقوله: وَالّذِينَ كَفَرُوا وكَذّبُوا بآياتِنا أُولَئِكَ أصحَابُ الجَحِيمِ يقول تعالى ذكره: والذين كفروا بالله وكذّبوا بأدلته وحججه, أولئك أصحاب الجحيم.
الآية : 20
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {اعْلَمُوَاْ أَنّمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَآ إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ }.
يقول تعالى ذكره: اعلموا أيها الناس أن متاع الحياة الدنيا المعجلة لكم, ما هي إلا لعب ولهو تتفكّهون به, وزينة تتزيّنون بها, وتفاخر بينكم, يفخر بعضكم على بعض بما أولى فيها من رياشها وَتكاثُرٌ في الأمْوَالِ والأوْلادِ يقول تعالى ذكره: ويباهي بعضكم بعضا بكثرةِ الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ ثُمّ يَهِيجُ يقول تعالى ذكره: ثم ييبس ذلك النبات فَتَراهُ مُصْفَرّا بعد أن كان أخضرَ نضِرا.
وقوله: ثُمّ يَكُونُ حُطاما يقول تعالى ذكره: ثم يكون ذلك النبات حطاما, يعني به أنه يكون نبتا يابسا متهشما وفِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ يقول تعالى ذكره: وفي الاَخرة عذاب شديد للكفار وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٌ لأهل الإيمان بالله ورسوله. كما:
26042ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: اعْلَمُوا أنّمَا الْحَياةُ الدّنيْا لَعِبٌ ولَهْوٌ... الآية, يقول: صار الناس إلى هذين الحرفين في الاَخرة.
وكان بعض أهل العربية يقول في قوله: وفِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٌ ذكر ما في الدنيا, وأنه على ما وصف, وأما الاَخرة فإنها إما عذاب, وإما جنة. قال: والواو فيه وأو بمنزلة واحدة.
وقوله: وَما الْحَياةُ الدّنيْا إلاّ مَتاعُ الغُرُورِ يقول تعالى ذكره: وما زينة الحياة الدنيا المعجلة لكم أيها الناس, إلا متاع الغرور.
26043ـ حدثنا عليّ بن حرب الموصلي, قال: حدثنا المحاربيّ: عن محمد بن عمرو, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنّةِ خَيْرٌ مِنَ الدّنْيا وَما فيها».
الآية : 21
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {سَابِقُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السّمَآءِ وَالأرْضِ أُعِدّتْ لِلّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }.
يقول تعالى ذكره: سابِقُوا أيها الناس إلى عمل يوجب لكم مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السّماءِ والأرْضِ أُعِدّتْ هذه الجنة لِلّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ يعني الذين وحّدوا الله, وصدّقوا رسله.
وقوله: ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يقول جلّ ثناؤه: هذه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض التي أعدّها الله للذين آمنوا بالله ورسله, فضل الله تفضل به على المؤمنين, والله يؤتي فضله من يشاء من خلقه, وهو ذو الفضل العظيم عليهم, بما بسط لهم من الرزق في الدنيا, ووهب لهم من النّعم, وعرّفهم موضع الشكر, ثم جزاهم في الاَخرة على الطاعة ما وصف أنه أعدّه لهم.
الآية : 22
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {مَآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِيَ أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نّبْرَأَهَآ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ }.
يقول تعالى ذكره: ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في الأرض بجدوبها وقحوطها, وذهاب زرعها وفسادها وَلا فِي أنْفُسِكُمْ بالأوصاب والأوجاع والأسقام إلاّ فِي كِتابٍ يعني إلا في أمّ الكتاب مِنْ قَبْل أنْ نَبْرأها يقول: من قبل أن نبرأ الأنفس, يعني من قبل أن نخلقها. يقال: قد برأ الله هذا الشيء, بمعنى: خلقه فهو بارئه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26044ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله: ما أصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أنْفُسِكُمْ إلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أنْ نَبْرَأَها قال: هو شيء قد فرغ منه من قبل أن نبرأ النفس.
26045ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: ثن سعيد, عن قتادة, في قوله: ما أصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ أما مصيبة الأرض: فالسنون. وأما في أنفسكم: فهذه الأمراض والأوصاب مِنْ قَبْلِ أن نَبْرَأَها: من قبل أن نخلقها.
26065حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: ما أصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ قال: هي السنون وَلا فِي أنْفُسِكُمْ قال: الأوجاع والأمراض. قال: وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدَش عود, ولا نَكْبة قدم, ولاخَلَجَانُ عِرْقٍ إلا بذنب, وما يعفو عنه أكثر.
26046ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, عن منصور بن عبد الرحمن, قال: كنت جالسا مع الحسن, فقال رجل: سله عن قوله: ما أصَابَ مِنْ مُصِيبَة فِي الأرْضِ وَلا في أنْفُسِكُم إلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْل أنْ نَبْرَأها فسألته عنها, فقال: سبحان الله, ومن يشكّ في هذا؟ كلّ مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن تبرأ النسمة.
26047ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ما أصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أنْفُسِكُمْ إلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْل أن نبرَأها يقول: هو شيء قد فرغ منه من قبل أن نبرأها: من قبل أن نبرأ الأنفس.
26048ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قول الله جلّ ثناؤه: فِي كِتابٍ مِنْ قَبْل أنْ نَبْرَأها قال: من قبل أن نخلقها, قال: المصائب والرزق والأشياء كلها مما تحبّ وتكره فرغ الله من ذلك كله قبل أن يبرأ النفوس ويخلقها.
وقال آخرون: عُنِي بذلك: ما أصاب من مصيبة في دين ولا دنيا. ذكر من قال ذلك:
26049ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: ما أصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أنْفُسِكُمْ إلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْل أنْ نَبْرَأَها يقول: في الدين والدنيا إلا في كتاب من قبل أن نخلقها.
واختلف أهل العربية في معنى في التي بعد قوله: إلا فقال بعض نحويّي البصرة: يريد والله أعلم بذلك: إلا هي في كتاب, فجاز فيه الإضمار. قال: ويقول: عندي هذا ليس إلا يريد إلا هو. وقال غيره منهم, قوله: فِي كِتابٍ من صلة ما أصاب, وليس إضمار هو بشيء, وقال: ليس قوله عندي هذا ليس إلا مثله, لأن إلاّ تكفي من الفعل, كأنه قال: ليس غيره.
وقوله: إنّ ذلكَ على اللّهِ يَسِيرٌ يقول تعالى ذكره: إن خلق النفوس, وإحصاء ما هي لاقية من المصائب على الله سهل يسير.
الآية : 23
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }.
يعني تعالى ذكره: ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في أموالكم ولا في أنفسكم, إلا في كتاب قد كُتب ذلك فيه من قبل أن نخلق نفوسكم لِكَيْلا تَأسُوْا يقول: لكيلا تحزنوا على ما فاتَكُمْ من الدنيا, فلم تدركوه منها وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ منها.
ومعنى قوله: بِما آتاكُمْ إذا مدّت الألف منها: بالذي أعطاكم منها ربكم وملّككم وخَوّلكم وإذا قُصرت الألف, فمعناها: بالذي جاءكم منها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26050ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس لِكَيْلا تَأْسَوْا على ما فاتَكُمْ من الدنيا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ منها.
26051ـ حُدثت عن الحسين بن يزيد الطحان, قال: حدثنا إسحاق بن منصور, عن قيس, عن سماك, عن عكرِمة, عن ابن عباس لِكَيْلا تَأسَوْا على ما فاتَكُمْ قال: الصبر عند المصيبة, والشكر عند النعمة.
حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن سماك البكري, عن عكرِمة, عن ابن عباس لِكَيْلا تَأْسَوْا على ما فاتَكُمْ قال: ليس أحد إلا يحزن ويفرح, ولكن من أصابته مصيبة فجعلها صبرا, ومن أصابه خير فجعله شكرا.
26052ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله عزّ وجلّ: لِكَيْلا تَأْسَوْا على ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ قال: لا تأسوا على ما فاتكم من الدنيا, ولا تفرحوا بما آتاكم منها.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: بِما آتاكُمْ فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والكوفة بِما آتاكُمْ بمدّ الألف. وقرأه بعض قرّاء البصرة «بِما أتاكُمْ» بقصر الألف وكأن من قرأ ذلك بقصر الألف اختار قراءته كذلك, إذ كان الذي قبله على ما فاتكم, ولم يكن على ما أفاتكم, فيردّ الفعل إلى الله, فألحق قوله: «بِمَا أتاكُمْ» به, ولم يردّه إلى أنه خبر عن الله.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان صحيح معناهما, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, وإن كنت أختار مدّ الألف لكثرة قارئي ذلك كذلك, وليس للذي اعتلّ به منه معتلو قارئيه بقصر الألف كبير معنى, لأن ما جعل من ذلك خبرا عن الله, وما صرف منه إلى الخبر عن غيره, فغير خارج جميعه عند سامعيه من أهل العلم أنه من فعل الله تعالى, فالفائت من الدنيا من فاته منها شيء, والمدرك منها ما أدرك عن تقدّم الله عزّ وجلّ وقضائه, وقد بين ذلك جلّ ثناؤه لمن عقل عنه بقوله: ما أصَابَ مِنْ مُصيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أنْفُسِكُم إلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أنْ نَبْرَأَها فأخبر أن الفائت منها بإفاتته إياهم فاتهم, والمدرك منها بإعطائه إياهم أدركوا, وأن ذلك محفوظ لهم في كتاب من قبل أن يخلقهم.
وقوله: واللّهَ لا يُحِبّ كُلّ مُختالٍ فَخورٍ يقول: والله لا يحبّ كلّ متكبر بما أوتي من الدنيا, فخور به على الناس.
الآية : 24
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلّ فَإِنّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ }.
يقول تعالى ذكره: والله لا يحبّ كلّ مختال فخور, الباخلين بما أوتوا في الدنيا على اختيالهم به وفخرهم بذلك على الناس, فهم يبخلون بإخراج حق الله الذي أوجبه عليهم فيه, ويشِحّون به, وهم مع بخلهم به أيضا يأمرون الناس بالبخل.
وقوله: وَمَنْ يَتَولّ فإنّ اللّهَ هُوَ الغَنِيّ الحَمِيدُ يقول تعالى ذكره: ومن يُدْبِرْ مُعْرِضا عن عظة الله فإنّ اللّهَ هُوَ الغَنِيّ الْحَمِيدُ يقول تعالى ذكره: ومن يدبر معرضا عن عظة الله, تاركا العمل بما دعاه إليه من الإنفاق في سبيله, فرِحا بما أوتي من الدنيا مختالاً به فخورا بخيلاً, فإن الله هو الغنيّ عن ماله ونفقته, وعن غيره من سائر خلقه, الحميد إلى خلقه بما أنعم به عليهم من نِعمه. واختلف أهل العربية في موضع جواب قوله: الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيأْمَرُونَ النّاس بالبُخْلِ فقال بعضهم: استغنى بالأخبار التي لأشباههم, ولهم في القرآن, كما قال: وَلَوْ أنّ قُرْآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى, ولم يكن في ذا الموضع خبر والله أعلم بما ينزل, هو كما أنزل, أو كما أراد أن كون. وقال غيره من أهل العربية: الخبر قد جاء في الآية التي قبل هذه الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ وَمنْ يَتَولّ فإنّ اللّهَ هُوَ الغَنِيّ الْحَمِيدُ عطف بجزاءين على جزاء, وجعل جوابهما واحدا, كما تقول: إن تقم وإن تحسن آتك, لا أنه حذف الخبر.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: فإنّ اللّهَ هُوَ الغَنِيّ الْحَمِيدُ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة «فإنّ اللّهَ الغَنِيّ» بحذف هو من الكلام, وكذلك ذلك في مصاحفهم بغير هو. وقرأته عامة قرّاء الكوفة فإنّ اللّهَ هُوَ الغَنِيّ الْحَمِيدُ بإثبات هو في القراءة, وكذلك هو في مصاحفهم.
والصواب من القول أنهما قراءتان معروفتان, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.)