تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 548 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 548

548 : تفسير الصفحة رقم 548 من القرآن الكريم

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ لِغَدٍ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ نَسُواْ اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لاَ يَسْتَوِيَ أَصْحَابُ النّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنّةِ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار, قال: فجاءه قوم حفاة عراة محتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف, عامتهم من مضر بلكلهم من مضر, فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة, قال: فدخل ثم خرج, فأمر بلالاً فأذن وأقام الصلاة فصلى ثم خطب فقال: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ـ إلى آخر الاَية وقرأ الاَية التي في الحشر {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره ـ حتى قال ـ ولو بشق تمرة» قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها, بل قد عجزت,ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب, حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مذهبة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء, ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» انفرد بإخراجه مسلم من حديث شعبة بإسناده مثله, فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} أمر بتقواه وهو يشمل فعل ما به أمر وترك ما عنه زجر.
وقوله تعالى: {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا, وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم {واتقوا الله} تأكيد ثان {إن الله خبير بما تعملون} أي اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم, لا تخفى عليه منكم خافية ولا يغيب من أموركم جليل ولا حقير وقوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} أي لا تنسوا ذكر الله تعالى: فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم التي تنفعكم في معادكم, فإن الجزاء من جنس العمل, ولهذا قال تعالى: {أولئك هم الفاسقون} أي الخارجون عن طاعة الله الهالكون يوم القيامة الخاسرون يوم معادهم, كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي, حدثنا المغيرة, حدثنا جرير بن عثمان عن نعيم بن نمحة قال: كان في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم, فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله عز وجل فليفعل, ولن تنالوا ذلك إلا بالله عز وجل, إن قوماً جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم الله عز وجل أن تكونوا أمثالهم {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} أين من تعرفون من إخوانكم ؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم وخلوا بالشقوة والسعادة, وأين الجبارون الأولون الذي بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط ؟ قد صاروا تحت الصخر والاَبار, هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه فاستضيئوا منه ليوم ظلمة, واستضيئوا بسنائه وبيانه, إن الله تعالى أثنى على زكريا وأهل بيته فقال تعالى: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين} لا خير في قول لا يراد به وجه الله ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله, ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه, ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم. هذا إسناد جيد ورجاله كلهم ثقات, وشيخ جريز بن عثمان وهو نعيم بن نمحة لا أعرفه بنفي ولا إثبات, غير أن أبا داود السجستاني قد حكم بأن شيوخ حرير كلهم ثقات, وقد روي لهذه الخطبة شواهد من وجوه أخر والله أعلم.
وقوله تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله تعالى يوم القيامة, كما قال تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} وقال تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلاً ما تتذكرون} وقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ؟ أم نجعل المتقين كالفجار}. في آيات أخر دالات على أن الله تعالى يكرم الأبرار ويهين الفجار, ولهذا قال تعالى ههنا: {أصحاب الجنة هم الفائزون} أي الناجون المسلمون من عذاب الله عز وجل.

** لَوْ أَنزَلْنَا هَـَذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ * هُوَ اللّهُ الّذِي لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ هُوَ الرّحْمَـَنُ الرّحِيمُ * هُوَ اللّهُ الّذِي لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدّوسُ السّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوّرُ لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ يُسَبّحُ لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
يقول تعالى معظماً لأمر القرآن ومبيناً علو قدره, وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه, لما فيه من الوعد الحق والوعيد الأكيد {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله} أي فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل, فكيف يليق بكم يا أيها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله, وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه, ولهذا قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدع} إلى آخرها يقول لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه لتصدع وخشع من ثقله ومن خشية الله, فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع, ثم قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} وكذا قال قتادة وابن جرير.
وقد ثبت في الحديث المتواتر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عمل له المنبر, وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد, فلما وضع المنبر أول ما وضع وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب فجاوز الجذع إلى نحو المنبر, فعند ذلك حن الجذع وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يسكت لما كان يسمع من الذكر والوحي عنده, ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده: فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجذع وهكذا هذه الاَية الكريمة إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته لخشعت وتصدعت من خشيته, فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم ؟ وقد قال تعالى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} الاَية. وقد تقدم أن معنى ذلك أي لكان هذا القرآن, وقد قال تعالى: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله}.
ثم قال تعالى: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} أخبر تعالى أنه الذي لا إله إلا هو فلا رب غيره ولا إله للوجود سواه, وكل ما يعبد من دونه فباطل, وأنه عالم الغيب والشهادة أي يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا, فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير حتى الذر في الظلمات. وقوله تعالى: {هو الرحمن الرحيم} قد تقدم الكلام على ذلك في أول التفسير بما أغنى عن إعادته ههنا, والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات, فهو رحمن الدنيا والاَخرة ورحيمهما, وقد قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} وقال تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} وقال تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} ثم قال تعالى: {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك} أي المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة. وقوله تعالى: {القدوس} قال وهب بن منبه أي الطاهر. وقال مجاهد وقتادة أي المبارك وقال ابن جريج تقدسه الملائكة الكرام {السلام} أي من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله.
وقوله تعالى: {المؤمن} قال الضحاك عن ابن عباس: أي أمن خلقه من أن يظلمهم. وقال قتادة: أمن بقوله أنه حق. وقال ابن زيد: صدق عباده المؤمنين في إيمانهم به. وقوله تعالى: {المهيمن} قال ابن عباس وغير واحد: أي الشاهد على خلقه بأعمالهم بمعنى هو رقيب عليهم كقوله {والله على كل شيء شهيد} وقوله {ثم الله شهيد على ما يفعلون} وقوله {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} الاَية. وقوله تعالى: {العزيز} أي الذي قد عز كل شيء فقهره وغلب الأشياء فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه, ولهذا قال تعالى: {الجبار المتكبر} أي الذي لا تليق الجبرية إلا له ولا التكبر إلا لعظمته, كما تقدم في الصحيح «العظمة إزاري والكبرياء رادئي فمن نازعني واحداً منهما عذبته» وقال قتادة: الجبار الذي جبر خلقه على ما يشاء. وقال ابن جرير: الجبار المصلح أمور خلقه المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم. وقال قتادة: المتكبر يعني عن كل سوء ثم قال تعالى: {سبحان الله عما يشركون} وقوله تعالى: {هو الله الخالق البارىء المصور} الخلق التقدير والبرء هو الفري, وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود وليس كل من قدر شيئاً ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عز وجل. قال الشاعر يمدح آخر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعــض القوم يخلق ثم لا يفري
أي أنت تنفذ ما خلقت أي قدرت, بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع ما يريد, فالخلق التقدير والفري التنفيذ, ومنه يقال قدر الجلاد ثم فرى أي قطع على ما قدره بحسب ما يريده. وقوله تعالى: {الخالق البارىء المصور} أي الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون على الصفة التي يريد, والصورة التي يختار كقوله تعالى: {في أي صورة ما شاء ركبك} ولهذا قال المصور أي الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها.
وقوله تعالى: {له الأسماء الحسنى} قد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف. ونذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً, مائة إلا واحداً, من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر» وتقدم سياق الترمذي وابن ماجه له عن أبي هريرة أيضاً وزاد بعد قوله: «وهو وتر يحب الوتر». واللفظ للترمذي: «هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن, الرحيم, الملك, القدوس, السلام, المؤمن, المهيمن, العزيز, الجبار, المتكبر, الخالق, البارىء, المصور, الغفار, القهار, الوهاب, الرزاق, الفتاح, العليم, القابض الباسط, الخافض, الرافع, المعز, المذل, السميع, البصير, الحكم, العدل, اللطيف, الخبير, الحليم, العظيم, الغفور, الشكور, العلي, الكبير, الحفيظ, المقيت, الحسيب, الجليل, الكريم, الرقيب, المجيب, الواسع, الحكيم, الودود, المجيد, الباعث, الشهيد, الحق, الوكيل, القوي, المتين, الولي, الحميد, المحصي, المبدىء, المعيد, المحيي, المميت, الحي, القيوم, الواجد, الماجد, الواحد, الصمد, القادر, المقتدر, المقدم, المؤخر, الأول, الاَخر, الظاهر, الباطن, الوالي, المتعالي, البر, التواب, المنتقم, العفو, الرؤوف, مالك الملك, ذو الجلال والإكرام, المقسط الجامع, الغني, المغني, المعطي, المانع, الضار, النافع, النور, الهادي, البديع, الباقي, الوارث, الرشيد, الصبور». وسياق ابن ماجه بزيادة ونقصان وتقديم وتأخير وقد قدمنا ذلك مبسوطاً مطولاً بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته ههنا.
وقوله تعالى: {يسبح له ما في السموات والأرض} كقوله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفور} وقوله تعالى: {وهو العزيز} أي فلا يرام جنابه {الحكيم} في شرعه وقدره, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا خالد يعني ابن طهمان أبو العلاء الخفاف حدثنا نافع بن أبي نافع, عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي, وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً, ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة» ورواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري به. وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. آخر تفسير سورة الحشر, ولله الحمد والمنة.