تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 58 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 58

58 : تفسير الصفحة رقم 58 من القرآن الكريم

** قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ
هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم. {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة} والكلمة تطلق على الجملة المفيدة, كما قال ههنا, ثم وصفها بقوله {سواء بيننا وبينكم} أي عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها, ثم فسرها بقوله: {أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئ} لا وثناً ولا صليباً ولا صنماً ولا طاغوتاً ولا ناراً ولا شيئاً, بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له, وهذه دعوة جميع الرسل, قال الله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} ثم قال تعالى {ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}, قال ابن جريج: يعني يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله, وقال عكرمة: يسجد بعضناً لبعض {فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} أي فإن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة, فَأَشْهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم. وقد ذكرنا في شرح البخاري عند روايته من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود, عن ابن عباس, عن أبي سفيان في قصته حين دخل على قيصر, فسأله عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعن صفته ونعته وما يدعو إليه, فأخبره بجميع ذلك على الجلية, مع أن أبا سفيان كان إذ ذاك مشركاً, لم يسلم بعد, وكان ذلك بعد صلح الحديبية وقبل الفتح, كما هو مصرح به في الحديث, ولأنه لما سأله: هل يغدر ؟ قال: فقلت: لا, ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها, قال: ولم يمكني كلمة أزيد فيها شيئاً سوى هذه, والغرض أنه قال: ثم جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فإذا فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم, سلام على من اتبع الهدى, أما بعد, فأسلم تسلم, وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين, فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و{يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها, نزلت في وفد نجران. وقال الزهري: هم أول من بذل الجزية, ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح, فما الجمع بين كتابة هذه الاَية قبل الفتح إلى هرقل في جملة الكتاب, وبين ما ذكره محمد بن إسحاق والزهري ؟ والجواب من وجوه (أحدها) يحمتل أن هذه الاَية نزلت مرتين, مرة قبل الحديبية, ومرة بعد الفتح. (الثاني) يحتمل أن صدر سورة آل عمران, نزل في وفد نجران إلى هذه الاَية, وتكون هذه الاَية, نزلت قبل ذلك, ويكون قول ابن إسحاق: إلى بضع وثمانين آية, ليس بمحفوظ لدلالة حديث أبي سفيان. (الثالث) يحتمل أن قدوم وفد نجران, كان قبل الحديبية, وأن الذي بذلوه مصالحة عن المباهلة لا على وجه الجزية, بل يكون من باب المهادنة والمصالحة, ووافق نزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك, كما جاء فرض الخمس والأربعة أخماس وفق ما فعله عبد الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر, ثم نزلت فريضة القسم على وفق ذلك. (الرابع) يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لما أمر بكتب هذا في كتابه إلى هرقل, لم يكن أنزل بعد, ثم أنزل القرآن موافقة له صلى الله عليه وسلم, كما نزل بموافقة عمر بن الخطاب في الحجاب وفي الأسارى, وفي عدم الصلاة على المنافقين, وفي قوله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وفي قوله: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن} الاَية.

** يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجّونَ فِيَ إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * هَأَنْتُمْ هَؤُلآءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ وَهَـَذَا النّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ
ينكر تبارك وتعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل عليه السلام, ودعوى كل طائفة منهم أنه كان منهم, كما قال محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنه, قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتنازعوا عنده, فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً, وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانياً, فأنزل الله تعالى: {يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم} الاَية, أي كيف تدعون أيها اليهود أنه كان يهودياً, وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى ؟ وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانياً وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر ؟ ولهذا قال تعالى: {أفلا تعقلون} ثم قال تعالى: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيماليس لكم به علم} الاَية. هذا إنكار على من يحاج فيما لا علم له به, فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم, ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه علم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمد صلى الله عليه وسلم, لكان أولى بهم, وإنما تكلموا فيما لا يعلمون, فأنكر الله عليهم ذلك وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها وجلياتها, ولهذا قال تعالى: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} ثم قال تعالى: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلم} أي متحنفاً عن الشرك قاصداً إلى الإيمان {وما كان من المشركين} وهذه الاَية كالتي تقدمت في سورة البقرة {وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدو} الاَية. ثم قال تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين} يقول تعالى: أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه وهذا النبي, يعني محمداً صلى الله عليه وسلم, والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم. قال سعيد بن منصور: حدثنا أبو الأحوص, عن سعيد بن مسروق, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن ابن مسعود رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «إن لكل نبي ولاة من النبيين, وإن وليي منهم أبي وخليل ربي عز وجل» ثم قرأ {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه} الاَية, وقد رواه الترمذي والبزار من حديث أبي أحمد الزبيري, عن سفيان الثوري, عن أبيه به, ثم قال البزار: ورواه غير أبي أحمد, عن سفيان, عن أبيه, عن أبي الضحى, عن عبد الله, ولم يذكر مسروقاً. وكذا رواه الترمذي من طريق وكيع عن سفيان, ثم قال: وهذا أصح, لكن رواه وكيع في تفسيره, فقال: حدثنا سفيان عن أبيه, عن أبي إسحاق, عن عبد الله بن مسعود, قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لكل نبي ولاية من النبيين, وإن وليي منهم أبي وخليل ربي عز وجل إبراهيم عليه السلام» ثم قرأ {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنو} الاَية, قوله {والله ولي المؤمنين} أي ولي جميع المؤمنين برسله.