تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 58 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 58

057

قوله 62- "إن هذا" أي الذي قصه الله على رسوله من نبأ عيسى "لهو القصص الحق" القصص التتابع، يقال: فلان يقص أثر فلان: أي يتبعه، فأطلق على الكلام الذي يتبع بعضه بعضاً، وضمير الفصل للحصر، ودخول اللام عليه لزيادة تأكيده ويجوز أن يكون مبتدأ، وما بعده خبره، وزيادة من في قوله "من إله" لتأكيد العموم، وهو رد على من قال بالتثليث من النصارى. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث حذيفة: "أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما، فقال أحدهما لصاحبه: لا نلاعنه، فوالله لئن كان نبياً فلاعننا لا نفلح أبداً نحن ولا عقبنا من بعدنا، فقالوا له: نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلاً أميناً، فقال: قم يا أبا عبيدة، فلما قام قال: هذا أمين هذه الأمة". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس: "أن رهطاً من أهل نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيهم السيد والعاقب، فقالوا: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ قال: من هو؟ قالوا: عيسى تزعم أنه عبد الله، قالوا: فهل رأيت مثل عيسى وأنبئت به، ثم خرجوا من عنده، فجاء جبريل فقال: قل لهم إذا أتوك "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم" إلى آخر الآية". وقد رويت هذه القصة على وجوه عن جماعة من التابعين. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن جابر قال: "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والسيد، فدعاهما إلى الإسلام، فقالا: أسلمنا يا محمد، فقال: كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام، قالا: فهات. قال: حب الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير. قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على الغد، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيباه وأقرا له، فقال: والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما ناراً. قال جابر: فيهم نزلت "تعالوا ندع أبناءنا" الآية. قال جابر "أنفسنا وأنفسكم" رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي، وأبناءنا الحسن والحسين، ونساءنا فاطمة" . ورواه أيضا الحاكم من وجه آخر عن جابر وصححه، وفيه أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم هل لك أن نلاعنك ؟ وأخرج مسلم والترمذي وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن سعد بن أبي وقاص قال :" لما نزلت هذه الآية "قل تعالوا" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهلي ".وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه "تعالوا ندع أبناءنا"الآية قال فجاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده .وأخرج إبن المنذر وإبن أبي حاتم من طريق إبن جريج عن إبن عباس "ثم نبتهل " نجتهد. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هذا الإخلاص يشير بأصبعه التي تلي الإبهام ، وهذا الدعاء ، فرفع يديه حذو منكبيه ، وهذا الإبتهال فرفع يديه مداً "
63- "فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين",
قيل: الخطاب لأهل نجران بدليل ما تقدم قبل هذه الآية، وقيل: ليهود المدينة، وقيل: لليهود والنصارى جميعاً، وهو ظاهر النظم القرآني، ولا وجه لتخصيصه بالبعض، لأن هذه دعوة عامة لا تختص بأولئك الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. والسواء: العدل. قال الفراء: يقال في المعنى العدل سوى وسواء، فإذا فتحت السين مددت، وإذا ضممت أو كسرت قصرت. قال زهير: أروي خطة لا ضيم فيها يروي نبتها فيها السواء وفي قراءة ابن مسعود: إلى كلمة عدل بيننا وبينكم فالمعنى: أقبلوا إلى ما دعيتم إليه، وهي الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق، وقد فسرها بقوله 64- " أن لا نعبد إلا الله " وهو في موضع خفض على البدل من كلمة، أو رفع على إضمار مبتدأ: أي هي أن لا نعبد، ويجوز أن تكون أن مفسرة لا موضع للجملة التي دخلت عليها، وفي قوله "ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً" تبكيت لمن اعتقد ربوبية المسيح وعزير، وإشارة إلأى أن هؤلاء من جنس البشر وبعض منهم، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله فحلل ما حللوه له، وحرم ما حرموه عليه، فإن من فعل ذلك فقد اتخذ من قلده رباً، ومنه "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" وقد جوز الكسائي والفراء الجزم في "ولا نشرك" "ولا يتخذ" على التوهم. قوله "فإن تولوا" أي أعرضوا عما دعوا إليه "فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون" أي: منقادون لأحكامه مرتضون به معترفون بما أنعم الله به علينا من هذا الدين القويم. وقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس قال: " حدثني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإذا توليت فإن عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، إلى قوله: بأنا مسلمون". وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكفار "تعالوا إلى كلمة" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود المدينة إلى ما في هذه الآية فأبوا عليه، فجاهدهم حتى أقروا بالجزية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء. وأخرج ابن جرير عن الربيع نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة "إلى كلمة سواء" قال: عدل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله "ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً" قال: لا يطيع بعضناً بعضاً في معصية الله، ويقال: إن تلك الربوبية أن يطيع الناس ساداتهم وقادتهم في غير عبادة وإن لم يصلوا لهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله "ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً" قال: سجود بعضهم لبعض.
لما ادعت كل واحدة من طائفتي اليهود والنصارى أن إبراهيم عليه السلام كان على دينهم رد الله سبحانه ذلك عليهم وأبان بأن الملة اليهودية والملة النصرانية إنما كانتا من بعده. قال الزجاج: هذه الآية أبين حجة على اليهود والنصارى أن التوراة والإنجيل نزلا من بعده، وليس فيهما اسم لواحد من الأديان واسم الإسلام في كل كتاب. انتهى، وفيه نظر، فإن الإنجيل مشحون بالآيات من التوراة وذكر شريعة موسى والاحتجاج بها على اليهود، وكذلك الزبور فيه في مواضع ذكر شريعة موسى، وفي أوائله التبشير بعيسى، ثم في التوراة ذكر كثير من الشرائع المتقدمة، يعرف هذا كل من عرف هذه الكتب المنزلة. وقد اختلف في قدر المدة التي بين إبراهيم وموسى والمدة التي بين موسى وعيسى. قال القرطبي: يقال كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى ألفا سنة. وكذا في الكشاف. قوله 65- "أفلا تعقلون" أي: تتفكرون في دحوض حجتكم وبطلان قولكم.
قوله "ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم" الأصل في ها أنتم أأنتم أبدلت الهمزة الأولى هاء، لأنها أختها كذا قال أبو عمرو بن العلاء والأخفش. قال النحاس: وهذا قول حسن. وقرأ قنبل " ها أنتم " وقيل: الهاء للتنبيه دخلت على الجملة التي بعدها: أي ها أنتم هؤلاء الرجال الحمقى حاججتم وفي هؤلاء لغتان المد والقصر. والمراد بما لهم به علم هو ما كان في التوراة وإن خالفوا مقتضاه وجادلوا فيه بالباطل، والذي لا علم لهم به هو زعمهم أن إبراهيم كان على دينهم لجهلهم بالزمن الذي كان فيه. وفي الآية دليل على منع الجدال بالباطل، بل ورد الترغيب في ترك الجدال من المحق كما في حديث "من ترك المراء ولو محقاً فأنا ضمينه على الله يبيت في ربض الجنة". وقد ورد تسويغ الجدال بالتي هي أحسن لقوله تعالى "وجادلهم بالتي هي أحسن" "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" ونحو ذلك، فينبغي أن يقصر جوازه على المواطن التي تكون المصلحة في فعله أكثر من المفسدة أو على المواطن التي المجادلة فيها بالمحاسنة لا بالمخاشنة. قوله "والله يعلم" أي كل شيء فيدخل في ذلك ما حاججوا به.
67- "ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين" وقد تقدم تفسير الحنيف.
قوله 68- "إن أولى الناس" أي أحقهم به وأخصهم للذين اتبعوا ملته واقتدوا بدينه "وهذا النبي" يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، أفرده بالذكر تعظيماً له وتشريفاً، وألويته صلى الله عليه وسلم بإبراهيم من جهة كونه من ذريته، ومن جهة موافقته لدينه في كثير من الشريعة المحمدية "والذين آمنوا" من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانياً، فنزل فيهم " يا أهل الكتاب لم تحاجون " الآية. وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية "ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم" يقول: فيما شهدتم ورأيتم وعاينتم "فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم" يقول: فيما لم تشهدوا ولم تروا ولم تعاينوا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال: أما الذي لهم به علم فما حرم عليهم وما أمروا به، وأما الذي ليس لهم به علم فشأن إبراهيم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: يعذر من حاج بعلم ولا يعذر من حاج بالجهل. وأخرج ابن جرير عنه عن الشعبي في قوله "ما كان إبراهيم" قال: أكذبهم الله وأدحض حجتهم. وأخرج أيضاً عن الربيع مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان نحوه. وأخرج عبد بن حميد من طريق شهر بن حوشب حدثني ابن غنم أنه لما خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، فذكر قصتهم معه وما قالوه له لما قال له عمرو بن العاص إنهم يشتمون عيسى، وهي قصة مشهورة، ثم قال: فـأنزلت ذلك اليوم خصومتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة "إن أولى الناس بإبراهيم" الآية. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبي خليل ربي ثم قرأ "إن أولى الناس" الآية". وأخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن ميناء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر قريش إن أولى الناس بالنبي المتقون، فكونوا أنتم سبيل ذلك، فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال وتلقوني بالدنيا تحملونها فأصد عنكم بوجهي ثم قرأ عليهم: "إن أولى الناس بإبراهيم" الآية". وأخرج ابن أبي حاتم عن السن في الآية قال: كل مؤمن ولي إبراهيم ممن مضى وممن بقي.
الطائفة من أهل الكتاب هم يهود بني النضير وقريظة وبني قينقاع حين دعوا جماعة من المسلمين إلى دينهم وسيأتي، وقيل: هم جميع أهل الكتاب، فتكون من لبيان الجنس. وقوله 69- "وما يضلون إلا أنفسهم" جملة حالية للدلالة على ثبوت قدم المؤمنين في الإيمان، فلا يعود وبال من أراد فتنتهم إلا عليه.
والمراد بآيات الله ما في كتبهم من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم 70- "وأنتم تشهدون" ما في كتبكم من ذلك، أو تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء الذين تقرون بنبوتهم، أو المراد كتم كل الآيات عناداً وأنتم تعلمون أنها حق.
ولبس الحق بالباطل خلطه بما يتعمدونه من التحريف 71- "وأنتم تعلمون" جملة حالية.