تفسير الطبري تفسير الصفحة 58 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 58
059
057
 الآية : 62-63
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِنّ هَـَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقّ وَمَا مِنْ إِلَـَهٍ إِلاّ اللّهُ وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إن هذا الذي أنبأتك به يا مـحمد من أمر عيسى, فقصصته علـيك من أنبـائه, وأنه عبدي ورسولـي, وكلـمتـي ألقـيتها إلـى مريـم, وروح منـي, {لَهُوَ القَصَصُ} والنبأ {الـحَقّ} فـاعلـم ذلك, واعلـم أنه لـيس للـخـلق معبود يستوجب علـيهم العبـادة بـملكه إياهم إلا معبودك الذي تعبده وهو الله العزيز الـحكيـم.
ويعنـي بقوله {العَزِيزُ}: العزيز فـي انتقامه مـمن عصاه, وخالف أمره, وادّعى معه إلها غيره, أو عبد ربـا سواه, {الـحَكِيـمُ} فـي تدبـيره, لا يدخـل ما دبره وهْن ولا يـلـحقه خـلل. {فإنْ تَوَلّوْ} يعنـي فإن أدبر هؤلاء الذين حاجوك فـي عيسى عما جاءك من الـحقّ من عند ربك فـي عيسى وغيره, من سائر ما آتاك الله من الهدى والبـيان, فأعرضوا عنه, ولـم يقبلوه¹ {فإنّ اللّهَ عَلِـيـمٌ بِـالـمُفْسِدِينَ}, يقول: فإن الله ذو علـم بـالذين يعصون ربهم, ويعملون فـي أرضه وبلاده بـما نهاهم عنه, وذلك هو إفسادهم, يقول تعالـى ذكره: فهو عالـم بهم وبأعمالهم, يحصيها علـيهم ويحفظها حتـى يجازيهم علـيها جزاءهم.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل: ذكر من قال ذلك:
5789ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {إنّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الـحَقّ} أي إن هذا الذي جئت به من الـخبر عن عيسى, لهو القصص الـحقّ من أمره.
5790ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {إنّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ}. إن هذا الذي قلنا فـي عيسى لهو القصص الـحقّ.
5791ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {إنّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الـحَقّ} قال: إن هذا القصص الـحقّ فـي عيسى, ما ينبغي لعيسى أن يتعدّى هذا, ولا يجاوز أن يتعدى أن يكون كلـمة الله ألقاها إلـى مريـم وروحا منه وعبد الله ورسوله.
5792ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {إنّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الـحَقّ}: إن هذا الذي قلنا فـي عيسى هو الـحقّ {وَمَا مِنْ إلَهٍ إلاّ اللّهُ}... الاَية.
فلـما فصل جل ثناؤه بـين نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم وبـين الوفد من نصارى نـجران بـالقضاء الفـاصل والـحكم العادل أمره ـ إن هم تولوا عما دعاهم إلـيه من الإقرار بوحدانـية الله, وأنه لا ولد له ولا صاحبة, وأن عيسى عبده ورسوله وأبوا إلا الـجدل والـخصومة ـ أن يدعوهم إلـى الـملاعنة, ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلـما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم انـخذلوا, فـامتنعوا من الـملاعنة ودعوا إلـى الـمصالـحة, كالذي.
5793ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن عامر, قال: فأمر ـ يعنـي النبـيّ صلى الله عليه وسلم ـ بـملاعنتهم ـ يعنـي بـملاعنة أهل نـجران ـ بقوله: {فَمَنْ حاجّكَ فِـيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْـمِ}... الاَية. فتواعدوا أن يلاعنوه, وواعدوه الغد, فـانطلقوا إلـى السيد والعاقب, وكانا أعقلهم فتابعاهم, فـانطلقوا إلـى رجل منهم عاقل, فذكروا له ما فـارقوا علـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما صنعتـم! وندّمهم, وقال لهم: إن كان نبـيا ثم دعا علـيكم لا يغضبه الله فـيكم أبدا, ولئن كان ملكا فظهر علـيكم لا يستبقـيكم أبدا. قالوا: فكيف لنا وقد واعدنا؟ فقال لهم: إذا غدوتـم إلـيه فعرض علـيكم الذي فـارقتـموه علـيه, فقولوا: نعوذ بـالله! فإن دعاكم أيضا, فقولوا له: نعوذ بـالله! ولعله أن يعفـيكم من ذلك. فلـما غدوا, غدا النبـيّ صلى الله عليه وسلم مـحتضنا حَسَنا آخذا بـيد الـحسين وفـاطمة تـمشي خـلفه, فدعاهم إلـى الذي فـارقوه علـيه بـالأمس, فقالوا: نعوذ الله! ثم دعاهم, فقالوا: نعوذ بـالله! مرارا. قال: «فإنْ أبَـيْتُـمْ فأسْلِـمُوا, وَلَكُمْ ما لِلْـمُسْلِـمِينَ وَعَلَـيْكُمْ ما علـى الـمُسْلِـمينَ, كما قال الله عزّ وجلّ¹ فإنْ أبَـيْتُـمْ فأعْطُوا الـجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وأنْتُـمْ صَاغِرُونَ, كما قال الله عَزّ وَجَلّ», قالوا: ما نـملك إلا أنفسنا. قال: «فإنْ أبَـيْتُـمْ فَإنّـي أنْبِذُ إلَـيْكُمْ عَلـى سَوَاءٍ, كما قال الله عزّ وجلّ», قالوا: ما لنا طاقة بحرب العرب, ولكن نؤدّي الـجزية. قال: فجعل علـيهم فـي كل سنة ألفـي حلة, ألفـا فـي رجب وألفـا فـي صفر. فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ أتانِـي البَشِيرُ بِهَلَكَةِ أهْلِ نَـجْرَانَ حتـى الطّيْرُ علـى الشّجَرِ أوِ العَصَافِـيرُ عَلـى الشّجَرِ, لو تَـمّوا علـى الـمُلاَعَنَة». حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, قال: فقلت للـمغيرة: إن الناس يرون فـي حديث أهل نـجران أن علـيا كان معهم! فقال: أما الشعبـي فلـم يذكره, فلا أدري لسوء رأي بنـي أمية فـي علـيّ, أو لـم يكن فـي الـحديث.
5794ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {إنّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الـحَقّ} إلـى قوله: {فَقُولُوا اشْهَدُوا بأنّا مُسْلِـمُونَ} فدعاهم إلـى النّصَف وقطع عنهم الـحجة. فلـما أتـى رسول الله صلى الله عليه وسلم الـخبر من الله عنه, والفصل من القضاء بـينه وبـينهم, وأمره بـما أمره به من ملاعنتهم, إن ردّوا علـيه¹ دعاهم إلـى ذلك, فقالوا: يا أبـا القاسم دعنا ننظر فـي أمرنا, ثم نأتـيك بـما نريد أن نفعل فـيـما دعوتنا إلـيه. فـانصرفوا عنه, ثم خـلوا بـالعاقب, وكان ذا رأيهم, فقالوا: يا عبد الـمسيح ما ترى؟ قال: والله يا معشر النصارى, لقد عرفتـم أن مـحمدا نبـيّ مرسل, ولقد جاءكم بـالفصل من خبر صاحبكم, ولقد علـمتـم ما لاعن قوم نبـيا قط فبقـي كبـيرهم ولا نبت صغيرهم, وإنه للاستئصال منكم إن فعلتـم, فإن كنتـم قد أبـيتـم إلا إلف دينكم, والإقامة علـى ما أنتـم علـيه من القول فـي صاحبكم, فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلـى بلادكم حتـى يريكم زمنٌ رأيه. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا أبـا القاسم, قد رأينا أن لا نلاعنك, وأن نتركك علـى دينك, ونرجع علـى ديننا, ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بـيننا فـي أشياء قد اختلفنا فـيها من أموالنا, فإنكم عندنا رضا.
5795ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا عيسى بن فرقد, عن أبـي الـجارود, عن زيد بن علـيّ فـي قوله: {تَعَالَوْا نَدْعُ أبْنَاءَنا وأبْناءكُمْ}... الاَية. قال: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم وعلـيّ وفـاطمة والـحسن والـحسين.
5796ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي: {فَمَنْ حاجّكَ فِـيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْـمِ}... الاَية, فأخذ ـ يعنـي النبـيّ صلى الله عليه وسلم ـ بـيد الـحسن والـحسين وفـاطمة, وقال لعلـيّ: «اتْبَعْنَا!» فخرج معهم, فلـم يخرج يومئذ النصارى, وقالوا: إنا نـخاف أن يكون هذا هو النبـيّ صلى الله عليه وسلم, ولـيس دعوة النبـيّ كغيرها, فتـخـلفوا عنه يومئذ. فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ خَرَجُوا لاَحْتَرَقُوا». فصالـحوه علـى صلـح علـى أن له علـيهم ثمانـين ألفـا فما عجزت الدراهم ففـي العروض الـحلة بأربعين, وعلـى أن له علـيهم ثلاثا وثلاثـين درعا, وثلاثا وثلاثـين بعيرا, وأربعة وثلاثـين فرسا غازية كل سنة, وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضامن لها حتـى نؤديها إلـيهم.
5797ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا وفدا من وفد نـجران من النصارى, وهم الذين حاجوه فـي عيسى, فنكصوا عن ذلك وخافوا. وذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «وَالّذِي نَفْسُ مُـحَمّدٍ بِـيَدِهِ, إنْ كانَ العَذَابُ لَقَدْ تَدَلّـى علـى أهْلِ نَـجْرَانَ, وَلَوْ فَعَلُوا لاسْتُؤْصِلُوا عَنْ جَدِيدِ الأرْضِ».
5798ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {فَمَنْ حاجّكَ فِـيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْـمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْناءَنا وأبْناءَكُمْ} قال: بلغنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم خرج لـيلاً عن أهل نـجران, فلـما رأوه خرج, هابوا وفرقوا, فرجعوا. قال معمر, قال قتادة: لـما أراد النبـيّ صلى الله عليه وسلم أهل نـجران أخذ بـيد حسن وحسين وقال لفـاطمة: «اتْبَعِينَا», فلـما رأى ذلك أعداءُ الله رجعوا.
5799ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن عبد الكريـم الـجزري, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: لو خرج الذين يبـاهلون النبـيّ صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا زكريا, عن عديّ قال: حدثنا عبـيد الله بن عمرو, عن عبد الكريـم, عن عكرمة, عن ابن عبـاس مثله.
5800ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَالّذِي نفْسِي بِـيَدِهِ لَوْلا عَنُونِـي ما حالَ الـحَوْلُ وَبحَضْرَتِهِمْ مِنْهُمْ أحَدٌ إلاّ أهْلَكَ اللّهُ الكاذِبِـينَ».
5801ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنا ابن زيد, قال: قـيـل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لاعنت القوم بـمن كنت تأتـي حين قلت {أبْناءَنا وأبْناءَكُمْ}؟ قال: «حَسَن وحُسَيْن».
5802ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, قال: حدثنا الـمنذر بن ثعلبة, قال: حدثنا علبـاء بن أحمر الـيشكري, قال: لـما نزلت هذه الاَية: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْناءَنا وأبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءكُمْ} الاَية, أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى علـيّ وفـاطمة وابنـيهما الـحسن والـحسين, ودعا الـيهود لـيلاعنهم فقال شاب من الـيهود: ويحكم ألـيس عهدكم بـالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير؟ لا تلاعنوا! فـانتهوا.
الآية : 64
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قل يا مـحمد لأهل الكتاب ـ وهم أهل التوراة والإنـجيـل ـ: {تَعَالَوْ} هلـمّوا {إلـى كَلِـمَة سَوَاء} يعنـي إلـى كلـمة عدل {بَـيْنَنَا وَبَـيْنَكُمْ} والكلـمة العدل: هي أن نوحد الله فلا نعبد غيره, ونبرأ من كل معبود سواه فلا نشرك به شيئا. وقوله: {وَلا يَتّـخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبـاب} يقول: ولا يدين بعضنا لبعض بـالطاعة فـيـما أمر به من معاصي الله, ويعظمه بـالسجود له, كما يسجد لربه. {فإنْ تَوَلّوْ} يقول: فإن أعرضوا عما دعوتهم إلـيه من الكلـمة السواء التـي أمرتك بدعائهم إلـيها, فلـم يجيبوك إلـيها, فقولوا أيها الـمؤمنون للـمتولـين عن ذلك: اشهدوا بأنا مسلـمون.
واختلف أهل التأويـل فـيـمن نزلت فـيه هذه الاَية, فقال بعضهم: نزلت فـي يهود بنـي إسرائيـل الذين كانوا حوالـي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
5803ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل الـمدينة إلـى الكلـمة السواء, وهم الذين حاجوا فـي إبراهيـم.
5804ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: ذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا الـيهود إلـى كلـمة السواء.
5805ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: بلغنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل الـمدينة إلـى ذلك, فأبوا علـيه, فجاهدهم, قال: دعاهم إلـى قول الله عزّ وجلّ: {قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلـى كَلِـمَةٍ سَوَاءٍ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَكُمْ}... الاَية.
وقال آخرون: بل نزلت فـي الوفد من نصارى نـجران. ذكر من قال ذلك:
5806ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلـى كَلِـمَةٍ سَوَاءٍ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَكُمْ}... الاَية, إلـى قوله: {فَقُولُوا اشْهَدُوا بأنّا مُسْلِـمُونَ} قال: فدعاهم إلـى النّصَف, وقطع عنهم الـحجة¹ يعنـي وفد نـجران.
5807ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: ثم دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعنـي الوفد من نصارى نـجران ـ فقال: {يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلـى كَلِـمَةٍ سَوَاءٍ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَكُمْ}... الاَية.
5808ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنا ابن زيد, قال: قال: يعنـي جل ثناؤه: {إنّ هَذا لَهُوَ القَصَصُ الـحَقّ} ـ فـي عِيسَى علـى ما قد بـيناه فـيـما مضى ـ قال: {فأبَوْ}, يعنـي الوفد من نـجران, فقال: ادعهم إلـى أيسر من هذا, {قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلـى كَلِـمَةٍ سَوَاءٍ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَكُمْ}. فقرأ حتـى بلغ: {أرْبـابـا مِنْ دُونِ اللّهِ} فأبوا أن يقبلوا هذا ولا الاَخر.
وإنـما قلنا: عنى بقوله: {يا أهْلَ الكِتابِ}: أهل الكتابـين, لأنهما جميعا من أهل الكتاب, ولـم يخصص جلّ ثناؤه بقوله: {يا أهْلَ الكِتابِ} بَعْضا دون بعض, فلـيس بأن يكون موجها ذلك إلـى أنه مقصود به أهل التوراة بأولـى منه, بأن يكون موجها إلـى أنه مقصود به أهل الإنـجيـل, ولا أهل الإنـجيـل بأولـى أن يكونوا مقصودين به دون غيرهم من أهل التوارة. وإذ لـم يكن أحد الفريقـين بذلك بأولـى من الاَخر, لأنه لا دلالة علـى أنه الـمخصوص بذلك من الاَخر, ولا أثر صحيح, فـالواجب أن يكون كل كتابـي معنـيا به, لأن إفراد العبـادة لله وحده, وإخلاص التوحيد له, واجب علـى كل مأمور منهيّ من خـلق الله, وأهل الكتاب يعمّ أهل التوراة وأهل الإنـجيـل, فكان معلوما بذلك أنه عنـي به الفريقان جميعا.
وأما تأويـل قوله: {تَعالَوْ} فإنه: أقبلوا وهلـمّوا, وإنـما هو تفـاعلوا من العلوّ, فكأن القائل لصاحبه: تعالـى إلـيّ, فإنه تفـاعل من العلوّ, كما يقال: تدان منـي من الدنوّ, وتقاربْ منـي من القرب. وقوله: {إلـى كَلِـمَةٍ سَوَاءٍ} فإنها الكلـمة العدل, و«السواء»: من نعت «الكلـمة».
وقد اختلف أهل العربـية فـي وجه إتبـاع سواء فـي الإعراب لكلـمة, وهو اسم لا صفة, فقال بعض نـحويـي البصرة: جرّ سواء لأنها من صفة الكلـمة: وهي العدل, وأراد مستوية. قال: ولو أراد استواء كان النصب, وإن شاء أن يجعلها علـى الاستواء ويجرّ جاز, ويجعله من صفة الكلـمة مثل الـخـلق, لأن الـخـلق هو الـمخـلوق, والـخـلق قد يكون صفة واسما, ويجعل الاستواء مثل الـمستوى, قال عزّ وجلّ: {الّذِي جَعَلْناهُ للنّاسِ سَوَاء العاكِفُ فِـيهِ وَالبـادِ} لأن السواء للاَخر وهو اسم لـيس بصفة, فـيجري علـى الأول وذلك إذا أراد به الاستواء, فإن أراد به مستويا جاز أن يجري علـى الأول, والرفع فـي ذا الـمعنى جيد, لأنها لا تغيّر عن حالها, ولا تثنى, ولا تـجمع, ولا تؤنث, فأشبهت الأسماء التـي هي مثل عدل ورضا وجنب, وما أشبه ذلك. وقال: {أنْ نَـجْعَلَهُمْ كالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِـحاتِ سَوَاءً مَـحْياهُمْ وَمَـماتُهُمْ} فـالسواء للـمـحيا والـمـمات بهذا الـمبتدإ. وإن شئت أجريته علـى الأوّل وجعلته صفة مقدمة, كأنها من سبب الأوّل فجرت علـيه, وذلك إذا جعلته فـي معنى مستوي, والرفع وجه الكلام كما فسرت لك.
وقال بعض نـحويـي الكوفة: «سواء» مصدر وضع موضع الفعل, يعنـي موضع متساوية ومتساو, فمرّة يأتـي عن الفعل, ومرّة علـى الـمصدر, وقد يقال فـي سواء بـمعنى عدل: سِوًى وسُوًى, كما قال جلّ ثناؤه: {مَكانا سُوًى} و«سِوًى» يراد به عدل ونصف بـيننا وبـينك. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ ذلك «إلـى كلـمة عدل بـيننا وبـينكم».
وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل قوله: {إلـى كَلِـمَةٍ سَوَاءٍ بَـيْنَنا وَبَـيْنَكُم} بأن السواء: هو العدل, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5809ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلـى كَلِـمَةٍ سَوَاءٍ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَكُمْ}: عدل بـيننا وبـينكم {ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّهَ}... الاَية.
5810ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, فـي قوله: {قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلـى كَلِـمَةٍ سَواءٍ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَكُمْ ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئ} بـمثله.
وقال آخرون: هو قول لا إلَه إلا الله. ذكر من قال ذلك:
5811ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: قال أبو العالـية: كلـمة السواء: لا إلَه إلاّ الله.
وأما قوله: {ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّهَ} فإنّ «أنْ» فـي موضع خفض علـى معنى: تعالوا إلـى أن لا نعبد إلا الله, وقد بـينا معنى العبـادة فـي كلام العرب فـيـما مضى, ودللنا علـى الصحيح من معانـيه بـما أغنى عن إعادته.
وأما قوله: {وَلا يَتّـخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبـاب} فإنّ اتـخاذ بعضهم بعضا, هو ما كان بطاعة الأتبـاع الرؤساء فـيـما أمروهم به من معاصي الله وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله, كما قال جل ثناؤه: {اتّـخَذُوا أحْبـارَهُمْ وَرُهْبَـانَهُمْ أرْبـابـا مِنْ دُونِ اللّهِ وَالـمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَـمَ وَما أُمِرُوا إلاّ لِـيَعْبُدُوا إلها وَاحِد}. كما:
5812ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: {وَلا يَتّـخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبـابـا مِنْ دُونِ اللّهِ} يقول: لا يطع بعضنا بعضا فـي معصية الله, ويقال: إن تلك الربوبـية أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم فـي غير عبـادة, وإن لـم يُصَلّوا لهم.
وقال آخرون: اتـخاذ بعضهم بعضا أربـابـا: سجود بعضهم لبعض. ذكر من قال ذلك:
5813ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا حفص بن عمر, عن الـحكم بن أبـان, عن عكرمة فـي قوله: {وَلاَ يَتّـخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبـابـا مِنْ دُونِ اللّهِ} قال: سجود بعضهم لبعض.
وأما قوله: {فَإنْ تَوَلّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بأنّا مُسْلِـمُونَ} فإنه يعنـي: فإن تولـى الذين تدعونهم إلـى الكلـمة السواء عنها وكفروا, فقولوا أنتـم أيها الـمؤمنون لهم: اشهدوا علـينا بأنا بـما تولـيتـم عنه من توحيد الله وإخلاص العبودية له, وأنه الإلَه الذي لا شريك له مسلـمون, يعنـي خاضعون لله به متذللون له بـالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا, وقد بـينا معنى الإسلام فـيـما مضى, ودللنا علـيه بـما أغنى عن إعادته.
الآية : 65
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجّونَ فِيَ إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
قال أبو جعفر: يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {يا أهْلَ الكِتابِ}: يا أهل التوراة والإنـجيـل {لِـمَ تُـحاجّونَ} لـم تـجادلون {فِـي إبْرَاهِيـمَ} وتـخاصمون فـيه, يعنـي فـي إبراهيـم خـلـيـل الرحمن صلوات الله علـيه. وكان حجاجهم فـيه: ادّعاء كل فريق من أهل هذين الكتابـين أنه كان منهم, وأنه كان يدين دين أهل نـحلته, فعابهم الله عزّ وجل بـادّعائهم ذلك, ودلّ علـى مناقضتهم ودعواهم, فقال: وكيف تدّعون أنه كان علـى ملتكم ودينكم, ودينكم إما يهودية أو نصرانـية, والـيهودي منكم يزعم أن دينه إقامة التوراة والعمل بـما فـيها, والنصرانـيّ منكم يزعم أن دينه إقامة الإنـجيـل وما فـيه, وهذان كتابـان لـم ينزلا إلا بعد حين من مَهْلك إبراهيـم ووفـاته, فكيف يكون منكم؟ فماوجه اختصامكم فـيه وادعائكم أنه منكم, والأمر فـيه علـى ما قد علـمتـم, وقـيـل: نزلت هذه الاَية فـي اختصام الـيهود والنصارى فـي إبراهيـم, وادّعاء كل فريق منهم أنه كان منهم. ذكر من قال ذلك:
5814ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: اجتـمعت نصارى نـجران وأحبـار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتنازعوا عنده, فقالت الأحبـار: ما كان إبراهيـم إلا يهوديا, وقالت النصارى: ما كان إبراهيـم إلا نصرانـيا. فأنزل الله عزّ وجلّ فـيهم: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تُـحاجّونَ فِـي إبْرَاهِيـمَ وَما أُنْزِلَتِ التّوْرَاةُ وَالإنْـجِيـلُ إلاّ مِنْ بَعْدِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ}؟ قالت النصارى: كان نصرانـيا, وقالت الـيهود: كان يهوديا, فأخبرهم الله أن التوراة والإنـجيـل ما أنزلا إلا من بعده, وبعده كانت الـيهودية والنصرانـية.
5815ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تُـحاجّونَ فِـي إبْرَاهِيـمَ} يقول: لـم تـحاجون فـي إبراهيـم, وتزعمون أنه كان يهوديا أو نصرانـيا, وما أنزلت التوراة والإنـجيـل إلا من بعده, فكانت الـيهودية بعد التوراة, وكانت النصرانـية بعد الإنـجيـل أفلا تعقلون.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية فـي دعوى الـيهود إبراهيـم أنه منهم. ذكر من قال ذلك:
5816ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل الـمدينة إلـى كلـمة السواء, وهم الذين حاجوا فـي إبراهيـم, وزعموا أنه مات يهوديا. فأكذبهم الله عزّ وجلّ, ونفـاهم منه, فقال: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تُـحاجّونَ فِـي إبْرَاهِيـمَ وَما أُنْزِلَتْ التّوْرَاةُ وَالإنْـجِيـلُ إلاّ مِنْ بَعْدِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ}.
5817ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
5818ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تُـحاجّونَ فِـي إبْراهِيـمَ} قال: الـيهود والنصارى برأه الله عزّ وجلّ منهم حين ادّعَتْ كل أمة أنه منهم, وألـحق به الـمؤمنـين من كان من أهل الـحنـيفـية.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
وأما قوله: {أفَلا تَعْقِلُونَ} فإنه يعنـي: أفلا تعقلون: تفقهون خطأ قـيـلكم إن إبراهيـم كان يهوديا أو نصرانـيا, وقد علـمتـم أن الـيهودية والنصرانـية حدثت من بعد مهلكه بحين؟.
الآية : 66
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{هَأَنْتُمْ هَؤُلآءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {ها أَنْتُـمْ} هؤلاء القوم الذين خاصمتـم وجادلتـم فـيـما لكم به علـم من أمر دينكم الذي وجدتـموه فـي كتبكم, وأتتكم به رسل الله من عنده, وفـي غير ذلك مـما أوتـيتـموه, وثبتت عندكم صحته, فلـم تـحاجون: يقول: فلـم تـجادلون وتـخاصمون فـيـما لـيس لكم به علـم, يعنـي الذي لا علـم لكم به من أمر إبراهيـم ودينه, ولـم تـجدوه فـي كتب الله, ولا أتتكم به أنبـياؤكم, ولا شاهدتـموه فتعلـموه. كما:
5819ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {ها أنْتُـمْ هَؤُلاءِ حَاججْتُـمْ فِـيـما لَكُمْ بِهِ عِلْـمٌ فَلِـمَ تُـحَاجّونَ فِـيـما لَـيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْـمٌ}: أما الذي لهم به علـم: فما حرم علـيهم وما أمروا به, وأما الذي لـيس لهم به علـم: فشأن إبراهيـم.
5820ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {ها أنْتُـمْ هَؤُلاءِ حاجَجْتُـمْ فِـيـما لَكُمْ بِهِ عِلْـمٌ} يقول: فـيـما شهدتـم ورأيتـم وعاينتـم, {فَلِـمَ تُـحاجّونَ فِـيـما لَـيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلـمٌ} فـيـما لـم تشاهدوا ولـم تروا ولـم تعاينوا, والله يعلـم وأنتـم لا تعلـمون.
5821ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
وقوله: {وَاللّهُ يَعْلَـمُ وأنْتُـمْ لا تَعْلَـمُونَ} يقول: والله يعلـم ما غاب عنكم فلـم تشاهدوه ولـم تروه ولـم تأتكم به رسله من أمر إبراهيـم وغيره من الأمور, ومـما تـجادلون فـيه, لأنه لا يغيب عنه شيء, ولا يعزب عنه علـم شيء فـي السموات ولا فـي الأرض, وأنتـم لا تعلـمون من ذلك إلا ما عاينتـم فشاهدتـم, أو أدركتـم علـمه بـالإخبـار والسماع.
الآية : 67
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
وهذا تكذيب من الله عزّ وجلّ دعوى الذين جادلوا فـي إبراهيـم وملته من الـيهود والنصارى, وادعوا أنه كان علـى ملتهم, وتبرئة لهم منه, وأنهم لدينه مخالفون, وقضاء منه عزّ وجلّ لأهل الإسلام, ولأمة مـحمد صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل دينه, وعلـى منهاجه وشرائعه دون سائر أهل الـملل والأديان غيرهم. يقول الله عزّ وجلّ {ما كانَ إبْرَاهِيـمُ يَهُودِيّا وَلا نَصْرَانِـيّا وَلَكِنْ كانَ حَنِـيفـا مُسْلِـما وَما كانَ مِنَ الـمُشْرِكِينَ} الذين يعبدون الأصنام والأوثان, أو مخـلوقا دون خالقه, الذي هو إلَه الـخـلق وبـارئهم, {وَلَكِنْ كانَ حَنِـيف} يعنـي: متبعا أمر الله وطاعته, مستقـيـما علـى مـحجة الهدى التـي أمر بلزومها, {مُسْلِـم} يعنـي: خاشعا لله بقلبه, متذللاً له بجوارحه, مذعنا لـما فرض علـيه وألزمه من أحكامه.
وقد بـينا اختلاف أهل التأويـل فـي معنى الـحنـيف فـيـما مضى, ودللنا علـى القول الذي هو أولـى بـالصحة من أقوالهم بـما أغنى عن إعادته.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك من التأويـل, قال أهل التأويـل: ذكر من قال ذلك:
5822ـ حدثنـي إسحاق بن شاهين الواسطي, قال: حدثنا خالد بن عبد الله, عن داود, عن عامر, قال: قالت الـيهود: إبراهيـم علـى ديننا, وقالت النصارى: هو علـى ديننا, فأنزل الله عزّ وجلّ: {ما كانَ إبْرَاهِيـمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِـيّ}... الاَية. فأكذبهم الله, وأدحض حجتهم, يعنـي الـيهود الذين ادّعوا أن إبراهيـم مات يهوديا.
5823ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
5824ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي يعقوب بن عبد الرحمن الزهري عن موسى بن عقبة, عن سالـم بن عبد الله ـ لا أراه إلا يحدّثه عن أبـيه ـ: أن زيد بن عمرو بن نفـيـل خرج إلـى الشام يسأل عن الدين, ويتبعه, فلقـي عالـما من الـيهود, فسأله عن دينه, وقال: إنـي لعلـي أن أدين دينكم, فأخبرنـي عن دينكم! فقال له الـيهودي: إنك لن تكون علـى ديننا حتـى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفرّ إلا من غضب الله, ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا, وأنا لا أستطيع, فهل تدلنـي علـى دين لـيس فـيه هذا؟ قال: ما أعلـمه إلا أن تكون حنـيفـا, قال: وما الـحنـيف؟ قال: دين إبراهيـم, لـم يك يهوديا وَلاَ نَصرانـيا, وكان لا يعبد إلا الله. فخرج من عنده, فلقـي عالـما من النصارى, فسأله عن دينه, فقال: إنـي لعلـي أن أدين دينكم, فأخبرنـي عن دينكم! قال: إنك لن تكون علـى ديننا حتـى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: لا أحتـمل من لعنة الله شيئا, ولا من غضب الله شيئا أبدا, وأنا لا أستطيع, فهل تدلنـي علـى دين لـيس فـيه هذا؟ فقال له نـحوا مـما قاله الـيهودي: لا أعلـمه إلا أن تكون حنـيفـا. فخرج من عنده, وقد رضي الذي أخبراه والذي اتفقا علـيه من شأن إبراهيـم, فلـم يزل رافعا يديه إلـى الله وقال: اللهمّ إنـي أشهدك أنـي علـى دين إبراهيـم.
الآية : 68
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِنّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ وَهَـَذَا النّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ }
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: {إنّ أوْلَـى النّاسِ بإبْرَاهِيـمَ} إن أحقّ الناس بإبراهيـم ونصرته وولايته, {للّذِينَ اتّبَعُوهُ} يعنـي الذين سلكوا طريقه ومنهاجه, فوحدوا الله مخـلصين له الدين, وسنوا سننه, وشرعوا شرائعه وكانوا لله حنفـاء مسلـمين غير مشركين به. {وَهَذَا النّبِـيّ} يعنـي مـحمدا صلى الله عليه وسلم. {والذينَ آمَنُو}. يعنـي والذين صدّقوا مـحمدا, وبـما جاءهم به من عند الله. {وَاللّهُ وَلِـيّ الـمُؤْمِنِـينَ} يقول: والله ناصر الـمؤمنـين بـمـحمد الـمصدقـين له فـي نبوّته, وفـيـما جاءهم به من عنده علـى من خالفهم من أهل الـملل والأديان.
وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل: ذكر من قال ذلك:
5825ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {إنّ أوْلَـى النّاسِ بإبْرَاهِيـمَ للّذِينَ اتّبَعُوهُ} يقول: الذين اتبعوه علـى ملته وسنته ومنهاجه وفطرته, {وَهَذَا النّبـيّ} وهو نبـيّ الله مـحمد. {وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} وهم الـمؤمنون الذين صدّقوا نبـيّ الله واتبعوه, كان مـحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه من الـمؤمنـين أولـى الناس بإبراهيـم.
5826ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
5827ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى وجابر بن الكردي والـحسن بن أبـي يحيـى الـمقدسي, قالوا: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـيه, عن أبـي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله بن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ لِكُلّ نَبِـيّ وُلاةً مِنَ النّبِـيّـينَ, وَإنّ وَلِـيّـي مِنْهُمْ أبـي وَخَـلِـيـلُ رَبّـي», ثم قرأ: {إنّ أوْلَـى النّاسِ بإبْرَاهِيـمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ وَهذَا النّبِـيّ وَالّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلـيّ الـمؤْمِنِـينَ}.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا أبو نعيـم الفضل بن دكين, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـيه, عن أبـي الضحى, عن عبد الله, أراه قال عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فذكر نـحوه.
5828ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: يقول الله سبحانه: {إنّ أوْلَـى النّاسِ بإبْرَاهِيـمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ} وهم الـمؤمنون.
الآية : 69
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَدّت طّآئِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلّونَكُمْ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَدّتْ}: تـمنت {طائِفَةٌ} يعنـي جماعة {مِنْ أهْلِ الكِتابِ} وهم أهل التوراة من الـيهود, وأهل الإنـجيـل من النصارى {لَوْ يُضِلّونَكُمْ} يقول: لو يصدّونكم أيها الـمؤمنون عن الإسلام, ويردّونكم عنه إلـى ما هم علـيه من الكفر, فـيهلكونكم بذلك. والإضلال فـي هذا الـموضع: الإهلاك من قول الله عزّ وجلّ: {وَقَالُوا أئِذَا ضَلَلْنا فِـي الأرْضِ أئِنّا لَفِـي خَـلْقٍ جَدِيدٍ} يعنـي: إذا هلكنا. ومنه قول الأخطل فـي هجاء جرير:
كُنْتَ القَذَى فِـي مَوْجٍ أكْدَرَ مُزْبِدٍقَذَفَ الأتِـيّ بِهِ فَضَلّ ضَلالا
يعنـي: هلك هلاكا, وقول نابغة بنـي ذبـيان:
حفآبَ مُضِلّوهُ بِعَيْنٍ جَلِـيّةٍوغُودِرَ بـالـجَوْلانِ حَزْمٌ وَنائِلُ
يعنـي مهلكوه.
{وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ}: وما يهلكون بـما يفعلونه من مـحاولتهم صدّكم عن دينكم أحدا غير أنفسهم, يعنـي بأنفسهم: أتبـاعهم وأشياعهم علـى ملتهم وأديانهم, وإنـما أهلكوا أنفسهم وأتبـاعهم بـما حاولوا من ذلك لاستـيجابهم من الله بفعلهم ذلك سخطه, واستـحقاقهم به غضبه ولعنته, لكفرهم بـالله, ونقضهم الـميثاق الذي أخذ الله علـيهم فـي كتابهم فـي اتبـاع مـحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه, والإقرار بنبوّته. ثم أخبر جلّ ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون, من مـحاولة صدّ الـمؤمنـين عن الهدى إلـى الضلالة, والردى علـى جهل منهم, بـما الله بهم مـحلّ من عقوبته, ومدّخر لهم من ألـيـم عذابه, فقال تعالـى ذكره: {وَما يَشْعُرُونَ} أنهم لا يضلون إلا أنفسهم بـمـحاولتهم إضلالكم أيها الـمؤمنون¹ ومعنى قوله: {وَما يَشْعُرُونَ}: وما يدرون ولا يعلـمون, وقد بـينا تأويـل ذلك بشواهده فـي غير هذا الـموضع فأغنى ذلك عن إعادته.
الآية : 70
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {يا أهْلَ الكِتابِ} من الـيهود والنصارى, {لِـمَ تَكْفُرُونَ} يقول: لِـمَ تَـجحدون {بِآياتِ اللّهِ} يعنـي: بـما فـي كتاب الله, الذي أنزله إلـيكم, علـى ألسن أنبـيائكم من آيه وأدلته, {وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ} أنه حقّ من عند ربكم. وإنـما هذا من الله عزّ وجلّ توبـيخ لأهل الكتابـين علـى كفرهم بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وجحودهم نبوّته, وهم يجدونه فـي كتبهم مع شهادتهم أن ما فـي كتبهم حقّ, وأنه من عند الله. كما:
5829ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ} يقول: تشهدون أن نعت مـحمد نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم فـي كتابكم, ثم تكفرون به وتنكرونه, ولا تؤمنون به وأنتـم تـجدونه مكتوبـا عندكم فـي التوراة والإنـجيـل, النبـيّ الأميّ الذي يؤمن بـالله وكلـماته.
5830ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وَأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ} يقول: تشهدون أن نعت مـحمد فـي كتابكم, ثم تكفرون به ولا تؤمنون به, وأنتـم تـجدونه عندكم فـي التوراة والإنـجيـل النبـيّ الأميّ.
5831ـ حدثنـي مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ} آيات الله: مـحمد, وأما تشهدون: فـيشهدون أنه الـحقّ يجدونه مكتوبـا عندهم.
5832ـ حدثنا (القاسم قال, حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قوله: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وَأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ} أن الدين عند الله الإسلام, لـيس لله دين غيره