تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 589 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 589

589 : تفسير الصفحة رقم 589 من القرآن الكريم

 ( سورة الانشقاق )

الآيات ( 84 1 15 )
مقدمة تفسير سورة المطففين ولله الحمد والمنة تفسير سورة الانشقاق قال مالك 1205 عن عبد الله بن يزيد عن أبي سلمة أن أبا هريرة قرأ بهم ( إذا السماء انشقت ) فسجد فيها فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله سجد فيها رواه مسلم 578 والنسائي 2161 من طريق مالك به وقال البخاري 766 حدثنا أبو النعمان حدثنا معتمر عن أبيه عن بكر عن أبي رافع قال صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ ( إذا السماء انشقت ) فسجد فقلت له فقال سجدت خلف أبي القاسم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه ورواه أيضا 1078 عن مسدد عن معتمر به ثم رواه 768 عن مسدد عن يزيد بن زريع عن التيمي عن بكر عن أبي رافع فذكره وأخرجه مسلم 578 وأبو داود 1408 والنسائي 2162 من طرق عن سليمان بن طرخان التيمي به وقد رواه مسلم 578 وأهل السنن من حديث سفيان بن عيينة زاد النسائي وسفيان الثوري كلاهما عن أيوب بن موسى عن عطاء بن ميناء عن أبي هريرة قال سجدنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في ( إذا السماء انشقت ) و ( اقرأ بسم ربك الذي
خلق بسم الله الرحمن الرحيم )
يقول تعالى ( إذا السماء انشقت ) وذلك يوم القيامة ( وأذنت لربها ) أي استمعت لربها وأطاعت أمره فيما أمرها به من الانشقاق وذلك يوم القيامة ( وحقت ) أي وحق لها أن تطيع أمره لأنه العظيم الذي لا يمانع ولا يغالب بل قد قهر كل شيء وذل له كل شيء ثم قال ( وإذا الأرض مدت ) أي بسطت وفرشت ووسعت قال بن جرير حدثنا بن عبد الأعلى حدثنا بن ثور عن معمر عن الزهري عن علي بن الحسين أن النبي قال إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه فأكون أول من يدعى وجبريل عن يمين الرحمن والله ما رآه قبلها فأقول يارب إن هذا أخبرني أنك ارسلته إلي فيقول الله عز وجل صدق ثم أشفع فأقول يارب عبادك عبدوك في أطراف الأرض قال وهو المقام المحمود وقوله تعالى ( وألقت ما فيها وتخلت ) أي ألقت ما في بطنها من الأموات وتخلت منهم قاله مجاهد وسعيد وقتادة ( وأذنت لربها وحقت ) كما تقدم وقوله ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا ) أي إنك ساع إلى ربك سعيا وعامل عملا ( فملاقيه ) ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أو شر ويشهد لذلك ما رواه أبو داود الطيالسي 1755 عن الحسن بن أبي جعفر عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله قال جبريل يا محمد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب ما شئت فانك مفارقه وأعمل ما شئت فإنك ملاقيه ومن الناس من يعيد الضمير على قوله ربك أي فملاق ربك ومعناه فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك وعلى هذا فكلا القولين متلازم قال العوفي عن بن عباس ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا ) يقول تعمل عملا تلقى الله به خيرا كان أو شرا وقال قتادة ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا ) إن كدحك يا بن آدم لضعيف فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ولا قوة إلا بالله ثم قال تعالى ( فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) أي سهلا بلا تعسير أي لا يحقق عليه جميع دقائق أعماله فإن من حوسب كذلك هلك لا محالة وقال الإمام أحمد 647 حدثنا إسماعيل أخبرنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله من نوقش الحساب عذب قالت فقلت أفليس قال الله تعالى ( فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) قال ليس ذاك بالحساب ولكن ذلك العرض من نوقش الحساب يوم القيامة عذب وهكذا رواه البخاري 4939 ومسلم 2876 والترمذي 3337 والنسائي وبن جرير من حديث أيوب السختياني به وقال بن جرير حدثنا بن وكيع حدثنا روح بن عبادة حدثنا أبو عامر الخزاز عن بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله إنه ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا معذبا فقلت أليس الله يقول ( فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) قال ذاك العرض إنه من نوقش الحساب عذب وقال بيده على إصبعه كأنه ينكت وقد رواه أيضا عن عمرو بن علي عن بن أبي عدي عن أبي يونس القشيري عن بن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة فذكر الحديث أخرجاه من طريق أبي يونس القشيري واسمه حاتم بن أبي صغيرة به قال بن جرير حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا مسلم عن الحريش بن الخريت أخي الزبير عن بن أبي مليكة عن عائشة قالت من نوقش الحساب أو من حوسب عذب قال ثم قالت إنما الحساب اليسير عرض على الله تعالى وهو يراهم وقال أحمد 648 حدثنا إسماعيل حدثنا محمد بن إسحاق حدثني عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول في بعض صلاته اللهم حاسبني حسابا يسيرا فلما انصرف قلت يا رسول الله ما الحساب اليسير قال أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه إنه من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك صحيح على شرط مسلم وقوله تعالى ( وينقلب إلى أهله مسرورا ) أي ويرجع ألى أهله في الجنة قاله قتادة والضحاك ( مسرورا ) أي فرحا مغتبطا بما أعطاه الله عز وجل وقد روى الطبراني عن ثوبان مولى رسول الله أنه قال إنكم تعملون أعمالا لا تعرف ويوشك الغائب أن يثوب إلى أهله فمسرور أو مكظوم وقوله تعالى ( وأما من أوتي كتابه وراء ظهره ) أي بشماله من وراء ظهره تثنى يده إلى ورائه ويعطى كتابه بها كذلك ( فسوف يدعو ثبورا ) أي خسارا وهلاكا ( ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا ) أي فرحا لا يفكر في العواقب ولا يخاف مما أمامه فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن الطويل ( إنه ظن أن لن يحور ) أي كان يعتقد أنه لا يرجع إلى الله ولا يعيده بعد موته قاله بن عباس وقتادة وغيرهما والحور هو الرجوع قال الله ( بلى إن ربه كان به بصيرا ) يعني بلى سيعيده الله كما بدأه ويجازيه على أعماله خيرها وشرها فإنه كان به بصيرا أي عليما خبيرا
الآيات ( 84 16 25 )
روي عن علي وبن عباس وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وشداد بن أوس وبن عمر ومحمد بن علي بن الحسين ومكحول وبكر بن عبد الله المزني وبكير بن الأشج ومالك وبن أبي ذئب وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون أنهم قالوا الشفق الحمرة وقال عبد الرزاق عن معمر عن بن خثيم عن بن لبيبة عن أبي هريرة قال الشفق البياض فالشفق هو حمرة الأفق إما قبل طلوع الشمس كما قاله مجاهد وإما بعد غروبها كما هو معروف عند أهل اللغة قال الخليل بن أحمد الشفق الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الاخرة فإذا ذهب قيل غاب الشفق وقال الجوهري الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قريب من العتمة وكذا قال عكرمة الشفق الذي يكون بين المغرب والعشاء وفي صحيح مسلم 612 عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله أنه قال وقت المغرب ما لم يغب الشفق ففي هذا كله دليل على أن الشفق هو كما قاله الجوهري والخليل ولكن صح عن مجاهد أنه قال في هذه الآية ( فلا أقسم بالشفق ) هو النهار كله وفي رواية عنه أيضا أنه قال الشفق الشمس رواهما بن أبي حاتم وإنما حمله على هذا قرنه بقوله تعالى ( والليل وما وسق ) أي جمع كأنه أقسم بالضياء والظلام وقال بن جرير أقسم الله بالنهار مدبرا وبالليل مقبلا وقال بن جرير وقال آخرون الشفق اسم للحمرة والبياض وقالوا هو من الأضداد قال بن عباس ومجاهد والحسن وقتادة ( وما وسق ) وما جمع قال قتادة وما جمع من نجم ودابة واستشهد بن عباس بقول الشاعر
مستوسقات لو يجدن سائقا
وقد قال عكرمة ( والليل وما وسق ) يقول ما ساق من ظلمة إذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه وقوله تعالى ( والقمر إذا اتسق ) قال بن عباس إذا اجتمع واستوى وكذا قال عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير ومسروق وأبو صالح والضحاك وبن زيد ( والقمر إذا اتسق ) إذا استوى وقال الحسن إذا اجتمع إذا امتلأ وقال قتادة إذا استدار ومعنى كلامهم أنه إذا تكامل نوره وأبدر جعله مقابلا لليل وما وسق وقوله تعالى ( لتركبن طبقا عن طبق ) قال البخاري 4940 أخبرنا سعيد بن النضر أخبرنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن مجاهد قال قال بن عباس ( لتركبن طبقا عن طبق ) حالا بعد حال قال هذا نبيكم هكذا رواه البخاري بهذا اللفظ وهو محتمل أن يكون بن عباس أسند هذا التفسير عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كأنه قال سمعت هذا من نبيكم فيكون
قوله نبيكم مرفوعا على الفاعلية من قال وهو الأظهر والله أعلم كما قال أنس لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه سمعته من نبيكم وقال بن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن مجاهد أن بن عباس كان يقول ( لتركبن طبقا عن طبق ) قال يعني نبيكم يقول حالا بعد حال هذا لفظه وقال علي بن أبي طلحة عن بن عباس طبقا عن طبق حالا بعد حال وكذا قال عكرمة ومرة والطيب ومجاهد والحسن والضحاك ومسروق وأبو صالح ويحتمل أن يكون المراد ( لتركبن طبقا عن طبق ) حالا بعد حال قال هذا يعني المراد بهذا نبيكم فيكون مرفوعا على أن هذا ونبيكم يكونان مبتدأ وخبرا والله اعلم ولعل هذا قد يكون هو المتبادر إلى كثير من الرواة كما قال أبو داود الطيالسي وغندر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن بن عباس ( لتركبن طبقا عن طبق ) قال محمد ويؤيد هذا المعنى قراءة عمر وبن مسعود وبن عباس وعامة أهل مكة والكوفة ( لتركبن ) بفتح التاء والباء وقال بن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن إسماعيل عن الشعبي ( لتركبن طبقا عن طبق ) قال لتركبن يا محمد سماء بعد سماء وهكذا روي عن بن مسعود ومسروق وأبي العالية ( طبقا عن طبق ) سماء بعد سماء قلت يعنون ليلة الإسراء وقال أبو إسحاق والسدي عن رجل عن بن عباس ( طبقا عن طبق ) منزلا على منزل وكذا رواه العوفي عن بن عباس مثله وزاد ويقال أمرا بعد أمر وحالا بعد حال وقال السدي نفسه ( لتركبن طبقا عن طبق ) أعمال من قبلكم منزلا بعد منزل قلت كأنه أراد معنى الحديث الصحيح لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن وهذا محتمل وقال بن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة حدثنا بن جابر أنه سمع مكحولا يقول في قول الله ( لتركبن طبقا عن طبق ) قال في كل عشرين سنة تحدثون أمرا لم تكونوا عليه وقال الأعمش حدثنا إبراهيم قال قال عبد الله ( لتركبن طبقا عن طبق ) قال السماء تتشقق ثم تحمر ثم تكون لونا بعد لون قال الثوري عن قيس بن وهب عن مرة عن بن مسعود ( طبقا عن طبق ) قال السماء مرة كالدهان ومرة تنشق وروى البزار من طريق جابر الجعفي عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود ( لتركبن طبقا عن طبق ) يا محمد يعني حالا بعد حال ثم قال ورواه جابر عن مجاهد عن بن عباس وقال سعيد بن جبير ( لتركبن طبقا عن طبق ) قال قوم كانوا في الدنيا خسيس أمرهم فارتفعوا في الآخرة وآخرون كانوا أشرافا في الدنيا فاتضعوا في الآخرة وقال عكرمة ( طبقا عن طبق ) حالا بعد حال فطيما بعد ما كان رضيعا وشيخا بعد ما كان شابا وقال الحسن البصري ( طبقا عن طبق ) يقول حالا بعد حال رخاء بعد شدة وشدة بعد رخاء وغنى بعد فقر وفقرا بعد غنى وصحة بعد سقم وسقما بعد صحة وقال بن أبي حاتم ذكر عن عبد الله بن زاهر حدثني أبي عن عمرو بن شمر عن جابر هو الجعفي عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله يقول إن بن آدم لفي غفلة مما خلق له إن الله تعالى إذا أراد خلقه قال للملك أكتب رزقه أكتب أجله أكتب أثره أكتب شقيا أو سعيدا ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله إليه ملكا آخر فيحفظه حتى يدرك ثم يرتفع ذلك الملك ثم يوكل الله به ملكين يكتبان حسناته وسيئاته فإذا حضره الموت ارتفع ذانك الملكان وجاءه ملك الموت فقبض روحه فإذا دخل قبره رد الروح في جسده ثم ارتفع ملك الموت وجاء ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فانتشطا كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه واحدا سائقا وآخر شهيدا ثم قال الله تعالى ( لقد كنت في غفلة من هذا ) قال رسول الله ( لتركبن طبقا عن طبق ) قال حالا بعد حال ثم قال النبي إن قدامكم لأمرا عظيما لا تقدرونه فاستعينوا بالله العظيم هذا حديث منكر وإسناده فيه ضعفاء ولكن معناه صحيح والله سبحانه وتعالى أعلم ثم قال بن جرير بعد ما حكى أقوال الناس في هذه الاية من القراء والمفسرين والصواب من التأويل قول من قال لتركبن أنت يا محمد حالا بعد حال وأمرا بعد أمر من الشدائد والمراد بذلك وإن كان الخطاب موجها إلى رسول الله
جميع الناس وأنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأحواله أهوالا وقوله تعالى ( فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ) أي فماذا يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر وما لهم إذا قرئت عليهم أيات الله وكلامه وهو هذا القرآن لا يسجدون إعظاما وإكراما واحتراما وقوله تعالى ( بل الذين كفروا يكذبون ) أي من سجيتهم التكذيب والعناد والمخالفة للحق ( والله أعلم بما يوعون ) قال مجاهد وقتادة يكتمون في صدورهم ( فبشرهم بعذاب أليم ) أي فأخبرهم يا محمد بأن الله عز وجل قد أعد لهم عذابا أليما وقوله تعالى ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) هذا استثناء منقطع يعني لكن الذين آمنوا أي بقلوبهم وعملوا الصالحات أي بجوارحهم ( لهم أجر أي ) في الدار الآخرة ( غير ممنون ) قال بن عباس غير منقوص وقال مجاهد والضحاك غير محسوب وحاصل قولهما أنه غير مقطوع كما قال تعالى ( عطاء غير مجذوذ ) وقال السدي قال بعضهم غير ممنون غير منقوص وقال بعضهم غير ممنون عليهم وهذا القول الأخير عن بعضهم قد أنكره غير واحد فإن الله عز وجل له المنة على أهل الجنة في كل حال وآن ولحظة وإنما دخلوها بفضله ورحمته لا بأعمالهم فله عليهم المنة دائما سرمدا والحمد لله وحده أبدا ولهذا يلهمون تسبيحه وتحميده كما يلهمون النفس وأخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين