سورة المطففين | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 588 من المصحف
( سورة المطففين )
الآيات ( 83 1 6 )
مقدمة تفسير سورة المطففين بسم الله الرحمن الرحيم سورة المطففين وهي
مدنية قال النسائي وبن ماجة 2223 أخبرنا محمد بن عقيل زاد بن ماجة وعبد الرحمن بن بشر قالا حدثنا علي بن الحسين بن واقد حدثني أبي عن يزيد وهو بن أبي سعيد النحوي مولى قريش عن عكرمة عن بن عباس قال لما قدم النبي المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى ( ويل للمطففين ) فحسنوا الكيل بعد ذلك وقال بن أبي حاتم حدثنا جعفر بن النضر بن حماد حدثنا محمد بن عبيد عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن هلال بن طلق قال بينما أنا أسير مع بن عمر فقلت من أحسن الناس هيئة وأوفاهم كيلا أهل مكة وأهل المدينة قال حق لهم أما سمعت الله تعالى يقول ( ويل للمطففين ) وقال بن جرير حدثنا أبو السائب حدثنا بن فضيل عن ضرار عن عبد الله المكتب عن رجل عن عبد الله قال قال له رجل يا أبا عبد الرحمن إن أهل المدينة ليوفون الكيل قال وما يمنعهم أن يوفوا الكيل وقد قال الله تعالى ( ويل للمطففين ) حتى بلغ ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) والمراد بالتطفيف ها هنا البخس في المكيال والميزان إما بالازدياد إن اقتضى من الناس وإما بالنقصان إن قضاهم ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخسار والهلاك وهو الويل بقوله تعالى ( الذين إذا اكتالوا على الناس ) أي من الناس ( يستوفون ) أي يأخذون حقهم بالوافي والزائد ( وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ) أي ينقصون والأحسن أن يجعل كالوا ووزنوا متعديا ويكون هم في محل نصب ومنهم من يجعلها ضميرا مؤكدا للمستتر في قوله كالوا ووزنوا ويحذف المفعول لدلالة الكلام عليه وكلاهما متقارب وقد أمر الله تعالى بالوفاء في الكيل والميزان فقال تعالى ( وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ) وقال تعالى ( وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها ) وقال تعالى ( وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) وأهلك الله قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال ثم قال تعالى متوعدا لهم ( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ) أي ما يخاف أولئك من البعث والقيام بين يدي من يعلم السرائر والضمائر في يوم عظيم الهول كثير الفزع جليل الخطب من خسر فيه أدخل نارا حامية وقوله تعالى ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) أي يقومون حفاة عراة غرلا في موقف صعب حرج ضيق ضنك على المجرم ويغشاهم من أمر الله تعالى ما تعجز القوى والحواس عنه قال الإمام مالك عن نافع عن بن عمر أن النبي قال يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه رواه البخاري 4938 من حديث مالك وعبد الله بن عون كلاهما عن نافع به ورواه مسلم 2862 من الطريقين أيضا وكذلك رواه أيوب بن يحيى وصالح بن كيسان وعبد الله وعبيد الله ابنا عمر ومحمد بن إسحاق عن نافع عن بن عمر به ولفظ الإمام أحمد 231 حدثنا يزيد أخبرنا بن إسحاق عن نافع عن بن عمر سمعت رسول الله يقول يوم يقوم الناس لرب العالمين لعظمة الرحمن عز وجل يوم القيامة حتى إن العرق ليلجم الرجال إلى أنصاف
آذانهم حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا إبراهيم بن إسحاق حدثنا بن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني سليم بن عامر حدثني المقداد يعني بن الأسود الكندي قال سمعت رسول الله يقول إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين قال فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق كقدر أعمالهم منهم من يأخذه إلى عقبيه ومنهم من ياخذه إلى ركبتيه ومنهم من يأخذه إلى حقويه ومنهم من يلجمه إلجاما رواه مسلم 2864 عن الحكم بن موسى عن يحيى بن حمزة والترمذي 2421 عن سويد عن بن المبارك كلاهما عن بن جابر به حديث آخر قال الإمام أحمد 5254 حدثنا الحسن بن سوار حدثنا الليث بن سعد عن معاوية بن صالح أن أبا عبد الرحمن حدثه عن أبي أمامة أن رسول الله قال تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل ويزاد في حرها كذا وكذا تغلي منها الهوام كما تغلي القدور يعرقون فيها على قدر خطاياهم منهم من يبلغ إلى كعبيه ومنهم من يبلغ إلى ساقيه ومنهم من يبلغ إلى وسطه ومنهم من يلجمه العرق انفرد به أحمد حديث آخر قال الإمام أحمد 4157 حدثنا حسن حدثنا بن لهيعة حدثنا أبو عشانة حي بن يؤمن أنه سمع عقبة بن عامر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول تدنو الشمس من الأرض فيعرق الناس فمن الناس من يبلغ عرقه عقبيه ومنهم من يبلغ إلى نصف الساق ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه ومنهم من يبلغ العجز ومنهم من يبلغ الخاصرة ومنهم من يبلغ منكبيه ومنهم من يبلغ وسط فيه وأشار بيده فألجمها فاه رأيت رسول الله يشير بيده هكذا ومنهم من يغطيه عرقه وضرب بيده إشارة انفرد به أحمد وفي حديث أنهم يقومون سبعين سنة لا يتكلمون وقيل يقومون ثلاثمائة سنة وقيل يقومون أربعين ألف سنة ويقضي بينهم في مقدار عشرة آلاف سنة كما في صحيح مسلم 987 عن أبي هريرة مرفوعا في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وقد قال بن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو عون الزيادي أخبرنا عبد السلام بن عجلان سمعت أبا يزيد المدني عن أبي هريرة قال قال رسول الله لبشير الغفاري كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه ثلاثمائة سنة لرب العالمين من أيام الدنيا لا ياتيهم فيه خبر من السماء ولا يؤمر فيهم بأمر قال بشير المستعان الله قال فإذا أويت إلى فراشك فتعوذ بالله من كرب يوم القيامة وسوء الحساب ورواه بن جرير من طريق عبد السلام به وفي سنن أبي داود 766 أن رسول الله كان يتعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة وعن بن مسعود يقومون أربعين سنة رافعي رؤوسهم إلى السماء لا يكلمهم احد قد ألجم العرق برهم وفاجرهم وعن بن عمر يقومون مائة سنة رواهما بن جرير وفي سنن أبي داود 766 والنسائي 8284 وبن ماجة 1356 من حديث زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح عن أزهر بن سعيد الحرازي عن عاصم بن حميد عن عائشة أن رسول الله كان يفتتح قيام الليل يكبر عشرا ويحمد عشرا ويسبح عشرا ويستغفر عشرا ويقول اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة
الآيات ( 83 7 17 )
يقول تعالى حقا ( إن كتاب الفجار لفي سجين ) أي أن مصيرهم ومأواهم لفي سجين فعيل من السجن وهو الضيق كما يقال فسيق وشريب وخمير وسكير ونحو ذلك ولهذا عظم أمره فقال تعالى ( وما أدراك ما سجين ) أي هو أمر عظيم وسجن مقيم وعذاب أليم ثم قد قال قائلون هي تحت الأرض السابعة وقد تقدم في حديث البراء بن عازب في حديثه
الطويل يقول الله عز وجل في روح الكافر اكتبوا كتابه في سجين وسجين هي تحت الأرض السابعة وقيل صخرة تحت السابعة خضراء وقيل بئر في جهنم قد روى بن جرير في ذلك حديثا غريبا منكرا لا يصح فقال حدثنا إسحاق بن وهب الواسطي حدثنا مسعود بن موسى بن مسكان الواسطي حدثنا نصر بن خزيمة الواسطي عن شعيب بن صفوان عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة عن النبي قال الفلق جب في جهنم مغطى وأما سجين فمفتوح والصحيح أن سجينا مأخوذ من السجن وهو الضيق فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق وكل ما تعالى منها اتسع فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها حتى ينتهي السفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين كما قال تعالى ( ثم رددناه اسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) وقال ها هنا ( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين ) وهو يجمع الضيق والسفول كما قال تعالى ( وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ) وقوله تعالى ( كتاب مرقوم ) ليس تفسيرا لقوله ( وما أدراك ما سجين ) وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين أي مرقوم مكتوب مفروغ منه لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد قاله محمد بن كعب القرظي ثم قال تعالى ( ويل يومئذ للمكذبين ) أي إذا صاروا يوم القيامة إلى ما أوعدهم الله من السجن والعذاب المهين وقد تقدم الكلام على قوله ويل بما أغنى عن إعادته وأن المراد من ذلك الهلاك والدمار كما يقال ويل لفلان وكما جاء في المسند 55 والسنن من رواية بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده قال قال رسول الله ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك الناس ويل له ويل له ثم قال تعالى مفسرا للمكذبين الفجار الكفرة ( الذين يكذبون بيوم الدين ) أي لا يصدقون بوقوعه ولا يعتقدون كونه ويستبعدون أمره قال الله تعالى ( وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ) أي معتد في أفعاله من تعاطي الحرام والمجاوزة في تناول المباح والأثيم في أقواله إن حدث كذب وإن وعد اخلف وإن خاصم فجر وقوله تعالى ( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) أي إذا سمع كلام الله تعالى من الرسول يكذب به ويظن به ظن السوء فيعتقد انه مفتعل مجموع من كتب الأوائل كما قال تعالى ( وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ) وقال تعالى ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) قال الله تعالى ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) أي ليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا إن هذا القرآن أساطير الأولين بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرين الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا ولهذا قال الله تعالى ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) والرين يعتري قلوب الكافرين والغيم للأبرار والغين للمقربين وقد روى بن جرير والترمذي 3334 والنسائي وبن ماجة 4244 من طرق عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي قال إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت فذلك قول الله تعالى ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) وقال الترمذي حسن صحيح ولفظ النسائي إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فهو الران الذي قال الله تعالى ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) وقال أحمد 2297 حدثنا صفوان بن عيسى أخبرنا بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه فإن زاد زادت حتى تعلو قلبه وذاك الران الذي ذكر الله في القرآن ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) وقال الحسن البصري هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت وكذا قال مجاهد بن جبير وقتادة وبن زيد وغيرهم وقوله تعالى ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) أي لهم يوم القيامة منزل ونزل سجين ثم هم يوم القيامة مع ذلك محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم قال الإمام أبو عبد الله الشافعي وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل
يومئذ وهذا الذي قاله الإمام الشافعي رحمه الله في غاية الحسن وهو استدلال بمفهوم هذه الآية كما دل عليه منطوق قوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار الآخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة وفي روضات الجنان الفاخرة وقد قال بن جرير حدثنا أبو معمر المقرئ حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله تعالى ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) قال يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون والكافرون ثم يحجب عنه الكافرون وينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية أو كلاما هذا معناه وقوله تعالى ( ثم إنهم لصالوا الجحيم ) أي ثم هم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن من أهل النيران ( ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ) أي يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ والتصغير والتحقير
الآيات ( 83 18 28 )
يقول تعالى حقا إن كتاب الأبرار وهم بخلاف الفجار ( لفي عليين ) أي مصيرهم إلى عليين وهو بخلاف سجين قال الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال سأل بن عباس كعبا وأنا حاضر عن سجين قال هي الأرض السابعة وفيها أرواح الكفار وسأله عن عليين فقال هي السماء السابعة وفيها أرواح المؤمنين وهكذا قال غير واحد إنها السماء السابعة وقال علي بن أبي طلحة عن بن عباس في قوله ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ) يعني الجنة وفي رواية العوفي عنه أعمالهم في السماء عند الله وكذا قال الضحاك وقال قتادة عليون ساق العرش اليمنى وقال غيره عليون عند سدرة المنتهى والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع ولهذا قال تعالى معظما أمره ومفخما شأنه ( وما أدراك ما عليون ) ثم قال تعالى مؤكدا لما كتب لهم ( كتاب مرقوم يشهده المقربون ) وهم الملائكة قاله قتادة وقال العوفي عن بن عباس يشهده من كل سماء مقربوها ثم قال تعالى ( إن الأبرار لفي نعيم ) أي يوم القيامة هم في نعيم مقيم وجنات فيها فضل عميم ( على الأرائك ) وهي السرر تحت الحجال ينظرون قيل معناه ينظرون في ملكهم وما أعطاهم الله من الخير والفضل الذي لا ينقضي ولا يبيد وقيل معناه ( على الأرائك ينظرون ) إلى الله عز وجل وهذا مقابل لما وصف به أولئك الفجار ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) فذكر عن هؤلاء أنهم يباحون النظر إلى الله عز وجل وهم على سررهم وفرشهم كما تقدم في حديث بن عمر إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه وإن أعلاهم لمن ينظر إلى الله عز وجل في اليوم مرتين وقوله تعالى ( تعرف في وجوههم نضرة النعيم ) أي تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم نضرة النعيم أي صفة الترافة والحشمة والسرور والدعة والرياسة مما هم فيه من النعيم العظيم وقوله تعالى ( يسقون من رحيق مختوم ) أي يسقون من خمر من الجنة والرحيق من أسماء الخمر قاله بن مسعود وبن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وبن زيد قال الإمام أحمد 313 حدثنا حسن حدثنا زهير عن سعد أبي المجاهد الطائي عن عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري أراه قد رفعه إلى النبي قال أيما مؤمن سقى مؤمنا شربة ماء على ضمإ سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم وأيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة وأيما مؤمن كسا مؤمنا ثوبا على عري كساه الله من خضر الجنة وقال بن مسعود في قوله ( ختامه مسك ) أي خلطه مسك وقال العوفي عن بن عباس طيب الله لهم الخمر فكان آخر شيء جعل فيها مسك ختم بمسك وكذا قال قتادة والضحاك وقال إبراهيم والحسن ختامه مسك أي عاقبته مسك وقال بن جرير حدثنا بن حميد حدثنا يحيى بن وضاح حدثنا أبو حمزة عن جابر عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي
الدرداء ( ختامه مسك ) قال شراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد طيبها وقال بن أبي نجيح عن مجاهد ( ختامه مسك ) قال طيبه مسك وقوله تعالى ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) أي وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون وليتباهى ويكاثر ويستبق إلى مثله المستبقون كقوله تعالى ( لمثل هذا فليعمل العاملون ) وقوله تعالى ( ومزاجه من تسنيم ) أي ومزاج هذا الرحيق الموصوف من تسنيم أي من شراب يقال له تسنيم وهو أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه قاله أبو صالح والضحاك ولهذا قال ( عينا يشرب بها المقربون ) أي يشربها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين مزجا قاله بن مسعود وبن عباس ومسروق وقتادة وغيرهم
الآيات ( 83 29 36 )
يخبر تعالى عن المجرمين أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين أي يستهزئون بهم ويحتقرونهم وإذا مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم أي محتقرين لهم ( وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ) أي وإذا انقلب أي رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم انقلبوا إليها فاكهين أي مهما طلبوا وجدوا ومع هذا ما شكروا نعمة الله عليهم بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحقرونهم ويحسدونهم ( وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ) أي لكونهم على غير دينهم قال الله تعالى ( وما أرسلوا عليهم حافظين ) اي وما بعث هؤلاء المجرمون حافظين على هؤلاء المؤمنين ما يصدر منهم من أعمالهم وأقوالهم ولا كلفوا بهم فلم اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم كما قال تعالى ( اخسؤا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ) ولهذا قال ها هنا ( فاليوم ) يعني يوم القيامة ( الذين آمنوا من الكفار يضحكون ) أي في مقابلة ما ضحك بهم أولئك ( على الأرائك ينظرون ) أي إلى الله عز وجل في مقابلة من زعم فيهم أنهم ضالون ليسوا بضالين بل هم من أولياء الله المقربين ينظرون إلى ربهم في دار كرامته وقوله تعالى ( هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ) أي هل جوزي الكفار على ماكانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والتنقيص أم لا يعني قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله 84
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 588
588 : تفسير الصفحة رقم 588 من القرآن الكريم( سورة المطففين )
الآيات ( 83 1 6 )
مقدمة تفسير سورة المطففين بسم الله الرحمن الرحيم سورة المطففين وهي
مدنية قال النسائي وبن ماجة 2223 أخبرنا محمد بن عقيل زاد بن ماجة وعبد الرحمن بن بشر قالا حدثنا علي بن الحسين بن واقد حدثني أبي عن يزيد وهو بن أبي سعيد النحوي مولى قريش عن عكرمة عن بن عباس قال لما قدم النبي المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى ( ويل للمطففين ) فحسنوا الكيل بعد ذلك وقال بن أبي حاتم حدثنا جعفر بن النضر بن حماد حدثنا محمد بن عبيد عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن هلال بن طلق قال بينما أنا أسير مع بن عمر فقلت من أحسن الناس هيئة وأوفاهم كيلا أهل مكة وأهل المدينة قال حق لهم أما سمعت الله تعالى يقول ( ويل للمطففين ) وقال بن جرير حدثنا أبو السائب حدثنا بن فضيل عن ضرار عن عبد الله المكتب عن رجل عن عبد الله قال قال له رجل يا أبا عبد الرحمن إن أهل المدينة ليوفون الكيل قال وما يمنعهم أن يوفوا الكيل وقد قال الله تعالى ( ويل للمطففين ) حتى بلغ ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) والمراد بالتطفيف ها هنا البخس في المكيال والميزان إما بالازدياد إن اقتضى من الناس وإما بالنقصان إن قضاهم ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخسار والهلاك وهو الويل بقوله تعالى ( الذين إذا اكتالوا على الناس ) أي من الناس ( يستوفون ) أي يأخذون حقهم بالوافي والزائد ( وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ) أي ينقصون والأحسن أن يجعل كالوا ووزنوا متعديا ويكون هم في محل نصب ومنهم من يجعلها ضميرا مؤكدا للمستتر في قوله كالوا ووزنوا ويحذف المفعول لدلالة الكلام عليه وكلاهما متقارب وقد أمر الله تعالى بالوفاء في الكيل والميزان فقال تعالى ( وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ) وقال تعالى ( وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها ) وقال تعالى ( وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) وأهلك الله قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال ثم قال تعالى متوعدا لهم ( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ) أي ما يخاف أولئك من البعث والقيام بين يدي من يعلم السرائر والضمائر في يوم عظيم الهول كثير الفزع جليل الخطب من خسر فيه أدخل نارا حامية وقوله تعالى ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) أي يقومون حفاة عراة غرلا في موقف صعب حرج ضيق ضنك على المجرم ويغشاهم من أمر الله تعالى ما تعجز القوى والحواس عنه قال الإمام مالك عن نافع عن بن عمر أن النبي قال يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه رواه البخاري 4938 من حديث مالك وعبد الله بن عون كلاهما عن نافع به ورواه مسلم 2862 من الطريقين أيضا وكذلك رواه أيوب بن يحيى وصالح بن كيسان وعبد الله وعبيد الله ابنا عمر ومحمد بن إسحاق عن نافع عن بن عمر به ولفظ الإمام أحمد 231 حدثنا يزيد أخبرنا بن إسحاق عن نافع عن بن عمر سمعت رسول الله يقول يوم يقوم الناس لرب العالمين لعظمة الرحمن عز وجل يوم القيامة حتى إن العرق ليلجم الرجال إلى أنصاف
آذانهم حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا إبراهيم بن إسحاق حدثنا بن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني سليم بن عامر حدثني المقداد يعني بن الأسود الكندي قال سمعت رسول الله يقول إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين قال فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق كقدر أعمالهم منهم من يأخذه إلى عقبيه ومنهم من ياخذه إلى ركبتيه ومنهم من يأخذه إلى حقويه ومنهم من يلجمه إلجاما رواه مسلم 2864 عن الحكم بن موسى عن يحيى بن حمزة والترمذي 2421 عن سويد عن بن المبارك كلاهما عن بن جابر به حديث آخر قال الإمام أحمد 5254 حدثنا الحسن بن سوار حدثنا الليث بن سعد عن معاوية بن صالح أن أبا عبد الرحمن حدثه عن أبي أمامة أن رسول الله قال تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل ويزاد في حرها كذا وكذا تغلي منها الهوام كما تغلي القدور يعرقون فيها على قدر خطاياهم منهم من يبلغ إلى كعبيه ومنهم من يبلغ إلى ساقيه ومنهم من يبلغ إلى وسطه ومنهم من يلجمه العرق انفرد به أحمد حديث آخر قال الإمام أحمد 4157 حدثنا حسن حدثنا بن لهيعة حدثنا أبو عشانة حي بن يؤمن أنه سمع عقبة بن عامر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول تدنو الشمس من الأرض فيعرق الناس فمن الناس من يبلغ عرقه عقبيه ومنهم من يبلغ إلى نصف الساق ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه ومنهم من يبلغ العجز ومنهم من يبلغ الخاصرة ومنهم من يبلغ منكبيه ومنهم من يبلغ وسط فيه وأشار بيده فألجمها فاه رأيت رسول الله يشير بيده هكذا ومنهم من يغطيه عرقه وضرب بيده إشارة انفرد به أحمد وفي حديث أنهم يقومون سبعين سنة لا يتكلمون وقيل يقومون ثلاثمائة سنة وقيل يقومون أربعين ألف سنة ويقضي بينهم في مقدار عشرة آلاف سنة كما في صحيح مسلم 987 عن أبي هريرة مرفوعا في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وقد قال بن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو عون الزيادي أخبرنا عبد السلام بن عجلان سمعت أبا يزيد المدني عن أبي هريرة قال قال رسول الله لبشير الغفاري كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه ثلاثمائة سنة لرب العالمين من أيام الدنيا لا ياتيهم فيه خبر من السماء ولا يؤمر فيهم بأمر قال بشير المستعان الله قال فإذا أويت إلى فراشك فتعوذ بالله من كرب يوم القيامة وسوء الحساب ورواه بن جرير من طريق عبد السلام به وفي سنن أبي داود 766 أن رسول الله كان يتعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة وعن بن مسعود يقومون أربعين سنة رافعي رؤوسهم إلى السماء لا يكلمهم احد قد ألجم العرق برهم وفاجرهم وعن بن عمر يقومون مائة سنة رواهما بن جرير وفي سنن أبي داود 766 والنسائي 8284 وبن ماجة 1356 من حديث زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح عن أزهر بن سعيد الحرازي عن عاصم بن حميد عن عائشة أن رسول الله كان يفتتح قيام الليل يكبر عشرا ويحمد عشرا ويسبح عشرا ويستغفر عشرا ويقول اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة
الآيات ( 83 7 17 )
يقول تعالى حقا ( إن كتاب الفجار لفي سجين ) أي أن مصيرهم ومأواهم لفي سجين فعيل من السجن وهو الضيق كما يقال فسيق وشريب وخمير وسكير ونحو ذلك ولهذا عظم أمره فقال تعالى ( وما أدراك ما سجين ) أي هو أمر عظيم وسجن مقيم وعذاب أليم ثم قد قال قائلون هي تحت الأرض السابعة وقد تقدم في حديث البراء بن عازب في حديثه
الطويل يقول الله عز وجل في روح الكافر اكتبوا كتابه في سجين وسجين هي تحت الأرض السابعة وقيل صخرة تحت السابعة خضراء وقيل بئر في جهنم قد روى بن جرير في ذلك حديثا غريبا منكرا لا يصح فقال حدثنا إسحاق بن وهب الواسطي حدثنا مسعود بن موسى بن مسكان الواسطي حدثنا نصر بن خزيمة الواسطي عن شعيب بن صفوان عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة عن النبي قال الفلق جب في جهنم مغطى وأما سجين فمفتوح والصحيح أن سجينا مأخوذ من السجن وهو الضيق فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق وكل ما تعالى منها اتسع فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها حتى ينتهي السفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين كما قال تعالى ( ثم رددناه اسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) وقال ها هنا ( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين ) وهو يجمع الضيق والسفول كما قال تعالى ( وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ) وقوله تعالى ( كتاب مرقوم ) ليس تفسيرا لقوله ( وما أدراك ما سجين ) وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين أي مرقوم مكتوب مفروغ منه لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد قاله محمد بن كعب القرظي ثم قال تعالى ( ويل يومئذ للمكذبين ) أي إذا صاروا يوم القيامة إلى ما أوعدهم الله من السجن والعذاب المهين وقد تقدم الكلام على قوله ويل بما أغنى عن إعادته وأن المراد من ذلك الهلاك والدمار كما يقال ويل لفلان وكما جاء في المسند 55 والسنن من رواية بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده قال قال رسول الله ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك الناس ويل له ويل له ثم قال تعالى مفسرا للمكذبين الفجار الكفرة ( الذين يكذبون بيوم الدين ) أي لا يصدقون بوقوعه ولا يعتقدون كونه ويستبعدون أمره قال الله تعالى ( وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ) أي معتد في أفعاله من تعاطي الحرام والمجاوزة في تناول المباح والأثيم في أقواله إن حدث كذب وإن وعد اخلف وإن خاصم فجر وقوله تعالى ( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) أي إذا سمع كلام الله تعالى من الرسول يكذب به ويظن به ظن السوء فيعتقد انه مفتعل مجموع من كتب الأوائل كما قال تعالى ( وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ) وقال تعالى ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) قال الله تعالى ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) أي ليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا إن هذا القرآن أساطير الأولين بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرين الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا ولهذا قال الله تعالى ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) والرين يعتري قلوب الكافرين والغيم للأبرار والغين للمقربين وقد روى بن جرير والترمذي 3334 والنسائي وبن ماجة 4244 من طرق عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي قال إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت فذلك قول الله تعالى ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) وقال الترمذي حسن صحيح ولفظ النسائي إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فهو الران الذي قال الله تعالى ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) وقال أحمد 2297 حدثنا صفوان بن عيسى أخبرنا بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه فإن زاد زادت حتى تعلو قلبه وذاك الران الذي ذكر الله في القرآن ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) وقال الحسن البصري هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت وكذا قال مجاهد بن جبير وقتادة وبن زيد وغيرهم وقوله تعالى ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) أي لهم يوم القيامة منزل ونزل سجين ثم هم يوم القيامة مع ذلك محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم قال الإمام أبو عبد الله الشافعي وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل
يومئذ وهذا الذي قاله الإمام الشافعي رحمه الله في غاية الحسن وهو استدلال بمفهوم هذه الآية كما دل عليه منطوق قوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار الآخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة وفي روضات الجنان الفاخرة وقد قال بن جرير حدثنا أبو معمر المقرئ حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله تعالى ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) قال يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون والكافرون ثم يحجب عنه الكافرون وينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية أو كلاما هذا معناه وقوله تعالى ( ثم إنهم لصالوا الجحيم ) أي ثم هم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن من أهل النيران ( ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ) أي يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ والتصغير والتحقير
الآيات ( 83 18 28 )
يقول تعالى حقا إن كتاب الأبرار وهم بخلاف الفجار ( لفي عليين ) أي مصيرهم إلى عليين وهو بخلاف سجين قال الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال سأل بن عباس كعبا وأنا حاضر عن سجين قال هي الأرض السابعة وفيها أرواح الكفار وسأله عن عليين فقال هي السماء السابعة وفيها أرواح المؤمنين وهكذا قال غير واحد إنها السماء السابعة وقال علي بن أبي طلحة عن بن عباس في قوله ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ) يعني الجنة وفي رواية العوفي عنه أعمالهم في السماء عند الله وكذا قال الضحاك وقال قتادة عليون ساق العرش اليمنى وقال غيره عليون عند سدرة المنتهى والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع ولهذا قال تعالى معظما أمره ومفخما شأنه ( وما أدراك ما عليون ) ثم قال تعالى مؤكدا لما كتب لهم ( كتاب مرقوم يشهده المقربون ) وهم الملائكة قاله قتادة وقال العوفي عن بن عباس يشهده من كل سماء مقربوها ثم قال تعالى ( إن الأبرار لفي نعيم ) أي يوم القيامة هم في نعيم مقيم وجنات فيها فضل عميم ( على الأرائك ) وهي السرر تحت الحجال ينظرون قيل معناه ينظرون في ملكهم وما أعطاهم الله من الخير والفضل الذي لا ينقضي ولا يبيد وقيل معناه ( على الأرائك ينظرون ) إلى الله عز وجل وهذا مقابل لما وصف به أولئك الفجار ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) فذكر عن هؤلاء أنهم يباحون النظر إلى الله عز وجل وهم على سررهم وفرشهم كما تقدم في حديث بن عمر إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه وإن أعلاهم لمن ينظر إلى الله عز وجل في اليوم مرتين وقوله تعالى ( تعرف في وجوههم نضرة النعيم ) أي تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم نضرة النعيم أي صفة الترافة والحشمة والسرور والدعة والرياسة مما هم فيه من النعيم العظيم وقوله تعالى ( يسقون من رحيق مختوم ) أي يسقون من خمر من الجنة والرحيق من أسماء الخمر قاله بن مسعود وبن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وبن زيد قال الإمام أحمد 313 حدثنا حسن حدثنا زهير عن سعد أبي المجاهد الطائي عن عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري أراه قد رفعه إلى النبي قال أيما مؤمن سقى مؤمنا شربة ماء على ضمإ سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم وأيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة وأيما مؤمن كسا مؤمنا ثوبا على عري كساه الله من خضر الجنة وقال بن مسعود في قوله ( ختامه مسك ) أي خلطه مسك وقال العوفي عن بن عباس طيب الله لهم الخمر فكان آخر شيء جعل فيها مسك ختم بمسك وكذا قال قتادة والضحاك وقال إبراهيم والحسن ختامه مسك أي عاقبته مسك وقال بن جرير حدثنا بن حميد حدثنا يحيى بن وضاح حدثنا أبو حمزة عن جابر عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي
الدرداء ( ختامه مسك ) قال شراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد طيبها وقال بن أبي نجيح عن مجاهد ( ختامه مسك ) قال طيبه مسك وقوله تعالى ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) أي وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون وليتباهى ويكاثر ويستبق إلى مثله المستبقون كقوله تعالى ( لمثل هذا فليعمل العاملون ) وقوله تعالى ( ومزاجه من تسنيم ) أي ومزاج هذا الرحيق الموصوف من تسنيم أي من شراب يقال له تسنيم وهو أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه قاله أبو صالح والضحاك ولهذا قال ( عينا يشرب بها المقربون ) أي يشربها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين مزجا قاله بن مسعود وبن عباس ومسروق وقتادة وغيرهم
الآيات ( 83 29 36 )
يخبر تعالى عن المجرمين أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين أي يستهزئون بهم ويحتقرونهم وإذا مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم أي محتقرين لهم ( وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ) أي وإذا انقلب أي رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم انقلبوا إليها فاكهين أي مهما طلبوا وجدوا ومع هذا ما شكروا نعمة الله عليهم بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحقرونهم ويحسدونهم ( وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ) أي لكونهم على غير دينهم قال الله تعالى ( وما أرسلوا عليهم حافظين ) اي وما بعث هؤلاء المجرمون حافظين على هؤلاء المؤمنين ما يصدر منهم من أعمالهم وأقوالهم ولا كلفوا بهم فلم اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم كما قال تعالى ( اخسؤا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ) ولهذا قال ها هنا ( فاليوم ) يعني يوم القيامة ( الذين آمنوا من الكفار يضحكون ) أي في مقابلة ما ضحك بهم أولئك ( على الأرائك ينظرون ) أي إلى الله عز وجل في مقابلة من زعم فيهم أنهم ضالون ليسوا بضالين بل هم من أولياء الله المقربين ينظرون إلى ربهم في دار كرامته وقوله تعالى ( هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ) أي هل جوزي الكفار على ماكانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والتنقيص أم لا يعني قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله 84
الصفحة رقم 588 من المصحف تحميل و استماع mp3