سورة آل عمران | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 61 من المصحف
** أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىَ وَعِيسَىَ وَالنّبِيّونَ مِن رّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
يقول تعالى منكراً على من أراد ديناً سوى دين الله الذي أنزل به كتبه, وأرسل به رسله, وهو عبادة الله وحده لا شريك له, الذي {له أسلم من في السموات والأرض} أي استسلم له من فيهما طوعاً وكرهاً, كما قال تعالى: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكره} الاَية, وقال تعالى: {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون * ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله, والكافر مستسلم لله كرهاً, فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع, وقد ورد حديث في تفسير هذه الاَية على معنى آخر فيه غرابة, فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن النضر العسكري, حدثنا سعيد بن حفص النفيلي, حدثنا محمد بن محصن العكاشي, حدثنا الأوزاعي, عن عطاء بن أبي رباح, عن النبي صلى الله عليه وسلم {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكره}, «أما من في السموات فالملائكة, وأما من في الأرض فمن ولد على الإسلام, وأما كرهاً فمن أتي به من سبايا الأمم في السلاسل والأغلال يقادون إلى الجنة وهم كارهون». وقد ورد في الصحيح «عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل» وسيأتي له شاهد من وجه آخر, ولكن المعنى الأول للاَية أقوى, وقد قال وكيع في تفسيره, حدثنا سفيان عن منصور, عن مجاهد {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكره} قال: هو كقوله {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} وقال أيضاً: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن مجاهد, عن ابن عباس {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكره} قال: حين أخذ الميثاق, {وإليه يرجعون} أي يوم المعاد فيجازي كلاً بعمله ثم قال تعالى: {قل آمنا بالله وما أنزل علين} يعني القرآن, {وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب} أي من الصحف والوحي, {والأسباط} وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل ـ وهو يعقوب ـ الاثني عشر, {وما أوتي موسى وعيسى} يعني بذلك التوراة والإنجيل, {والنبيون من ربهم} وهذا يعم جميع الأنبياء جملة {لا نفرق بين أحد منهم} يعني: بل نؤمن بجميعهم {ونحن له مسلمون} فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل, وبكل كتاب أنزل, لا يكفرون بشيء من ذلك, بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله, وبكل نبي بعثه الله.
ثم قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} الاَية, أي من سلك طريقاً سوى ما شرعه الله, فلن يقبل منه {وهو في الاَخرة من الخاسرين} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم, حدثنا عباد بن راشد, حدثنا الحسن, حدثنا أبو هريرة إذ ذاك ونحن بالمدينة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تجى الأعمال يوم القيامة, فتجى الصلاة فتقول: يا رب, أنا الصلاة¹ فيقول إنك على خير¹ وتجي الصدقة فتقول: يا رب, أنا الصدقة فيقول إنك على خير, ثم يجي الصيام فيقول: يا رب, أنا الصيام, فيقول: إنك على خير, ثم تجى الأعمال كل ذلك يقول الله تعالى: إنك على خير, ثم يجى الإسلام فيقول: يا رب, أنت السلام وأنا الإسلام, فيقول الله تعالى: إنك على خير, بك اليوم آخذ وبك أعطى, قال الله في كتابه {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الاَخرة من الخاسرين} تفرد به أحمد, قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد: عباد بن راشد ثقة, ولكن الحسن لم يسمع من أبي هريرة.
** كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوَاْ أَنّ الرّسُولَ حَقّ وَجَآءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ * أُوْلَـَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنّ الله غَفُورٌ رّحِيمٌ
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع البصري حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا داود بن ابي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك, ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا لي رسول الله هل لي من توبة ؟ فنزلت {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ـ إلى قوله ـ فإن الله غفور رحيم} فأرسل إليه قومه فأسلم, وهكذا رواه النسائي والحاكم وابن حبان من طريق داود بن أبي هند به, وقال الحاكم: صحيح الإسناد, ولم يخرجاه, وقال عبد الرزاق: أنبأنا جعفر بن سليمان, حدثنا حميد الأعرج, عن مجاهد, قال: جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم, ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه, فأنزل الله فيه {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ـ إلى قوله ـ غفور رحيم} قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه, فقال الحارث: إنك ـ والله ما علمت ـ لصدوق, وإن رسول الله لأصدق منك, وإن الله لأصدق الثلاثة, قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه, فقوله تعالى: {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات} أي قامت عليهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به الرسول, ووضح لهم الأمر ثم ارتدوا إلى ظلمة الشرك, فكيف يستحق هؤلاء الهداية بعدما تلبسوا به من العماية, ولهذا قال تعالى: {والله لا يهدي القوم الظالمين}. ثم قال تعالى {أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} أي يلعنهم الله, ويلعنهم خلقه, {خالدين فيه} أي في اللعنة, {لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون} أي لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف عنهم ساعة واحدة ثم قال تعالى: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه أن من تاب إليه, تاب عليه.
** إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الضّآلّونَ * إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَىَ بِهِ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ
يقول تعالى متوعداً ومهدداً لمن كفر بعد إيمانه, ثم ازداد كفراً, أي استمر عليه إلى الممات, ومخبراً بأنهم لن تقبل لهم توبة عند الممات, كما قال تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت} الاَية, ولهذا قال ههنا {لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون} أي الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغي, قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع, حدثنا يزيد بن زريع حدثنا داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس, أن قوماً أسلموا ثم ارتدوا ثم أسلموا ثم ارتدوا, فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم, فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت هذه الاَية: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم} وهكذا رواه, وإسناده جيد, ثم قال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} أي من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدا. ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهباً فيما يراه قربة, كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان وكان يقري الضيف ويفك العاني ويطعم الطعام: هل ينفعه ذلك ؟ فقال «لا, إنه لم يقل يوماً من الدهر: ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وكذلك لو افتدى بملء الأرض ذهباً ما قبل منه, كما قال تعالى: {ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة} وقال {لا بيع فيه ولا خلال}, وقال {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم}. ولهذا قال تعالى ههنا: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} فعطف {ولو افتدى} به على الأول, فدل على أنه غيره, وما ذكرناه أحسن من أن يقال: أن الواو زائدة, والله أعلم, ويقتضي ذلك أن لا ينقذه من عذاب الله شيء ولو كان قد أنفق مثل الأرض ذهباً, ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهباً, بوزن جبالها وتلالها وترابها ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها, وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج, حدثني شعبة عن أبي عمران الجوني, عن أنس بن مالك, أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء, أكنت مفتدياً به ؟ قال: فيقول: نعم, فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك, قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئاً, فأبيت إلا أن تشرك» وهكذا أخرجه البخاري ومسلم,
(طريق أخرى) وقال الإمام أحمد: حدثنا روح, حدثنا حماد عن ثابت, عن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له: يا ابن آدم, كيف وجدت منزلك ؟ فيقول: أي رب خير منزل, فيقول: سل وتمن, فيقول: ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرار, لما يرى من فضل الشهادة, ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له: يا ابن آدم, كيف وجدت منزلك ؟ فيقول: يا رب شر منزل, فيقول له: تفتدى مني بطلاع الأرض ذهباً ؟ فيقول: أي رب نعم, فيقول: كذبت, قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل, فيرد إلى النار», ولهذا قال {أولئك لهم عذاب أليم ومالهم من ناصرين} أي وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله ولا يجيرهم من أليم عقابه.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 61
61 : تفسير الصفحة رقم 61 من القرآن الكريم** أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىَ وَعِيسَىَ وَالنّبِيّونَ مِن رّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
يقول تعالى منكراً على من أراد ديناً سوى دين الله الذي أنزل به كتبه, وأرسل به رسله, وهو عبادة الله وحده لا شريك له, الذي {له أسلم من في السموات والأرض} أي استسلم له من فيهما طوعاً وكرهاً, كما قال تعالى: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكره} الاَية, وقال تعالى: {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون * ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله, والكافر مستسلم لله كرهاً, فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع, وقد ورد حديث في تفسير هذه الاَية على معنى آخر فيه غرابة, فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن النضر العسكري, حدثنا سعيد بن حفص النفيلي, حدثنا محمد بن محصن العكاشي, حدثنا الأوزاعي, عن عطاء بن أبي رباح, عن النبي صلى الله عليه وسلم {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكره}, «أما من في السموات فالملائكة, وأما من في الأرض فمن ولد على الإسلام, وأما كرهاً فمن أتي به من سبايا الأمم في السلاسل والأغلال يقادون إلى الجنة وهم كارهون». وقد ورد في الصحيح «عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل» وسيأتي له شاهد من وجه آخر, ولكن المعنى الأول للاَية أقوى, وقد قال وكيع في تفسيره, حدثنا سفيان عن منصور, عن مجاهد {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكره} قال: هو كقوله {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} وقال أيضاً: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن مجاهد, عن ابن عباس {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكره} قال: حين أخذ الميثاق, {وإليه يرجعون} أي يوم المعاد فيجازي كلاً بعمله ثم قال تعالى: {قل آمنا بالله وما أنزل علين} يعني القرآن, {وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب} أي من الصحف والوحي, {والأسباط} وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل ـ وهو يعقوب ـ الاثني عشر, {وما أوتي موسى وعيسى} يعني بذلك التوراة والإنجيل, {والنبيون من ربهم} وهذا يعم جميع الأنبياء جملة {لا نفرق بين أحد منهم} يعني: بل نؤمن بجميعهم {ونحن له مسلمون} فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل, وبكل كتاب أنزل, لا يكفرون بشيء من ذلك, بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله, وبكل نبي بعثه الله.
ثم قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} الاَية, أي من سلك طريقاً سوى ما شرعه الله, فلن يقبل منه {وهو في الاَخرة من الخاسرين} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم, حدثنا عباد بن راشد, حدثنا الحسن, حدثنا أبو هريرة إذ ذاك ونحن بالمدينة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تجى الأعمال يوم القيامة, فتجى الصلاة فتقول: يا رب, أنا الصلاة¹ فيقول إنك على خير¹ وتجي الصدقة فتقول: يا رب, أنا الصدقة فيقول إنك على خير, ثم يجي الصيام فيقول: يا رب, أنا الصيام, فيقول: إنك على خير, ثم تجى الأعمال كل ذلك يقول الله تعالى: إنك على خير, ثم يجى الإسلام فيقول: يا رب, أنت السلام وأنا الإسلام, فيقول الله تعالى: إنك على خير, بك اليوم آخذ وبك أعطى, قال الله في كتابه {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الاَخرة من الخاسرين} تفرد به أحمد, قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد: عباد بن راشد ثقة, ولكن الحسن لم يسمع من أبي هريرة.
** كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوَاْ أَنّ الرّسُولَ حَقّ وَجَآءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ * أُوْلَـَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنّ الله غَفُورٌ رّحِيمٌ
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع البصري حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا داود بن ابي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك, ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا لي رسول الله هل لي من توبة ؟ فنزلت {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ـ إلى قوله ـ فإن الله غفور رحيم} فأرسل إليه قومه فأسلم, وهكذا رواه النسائي والحاكم وابن حبان من طريق داود بن أبي هند به, وقال الحاكم: صحيح الإسناد, ولم يخرجاه, وقال عبد الرزاق: أنبأنا جعفر بن سليمان, حدثنا حميد الأعرج, عن مجاهد, قال: جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم, ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه, فأنزل الله فيه {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ـ إلى قوله ـ غفور رحيم} قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه, فقال الحارث: إنك ـ والله ما علمت ـ لصدوق, وإن رسول الله لأصدق منك, وإن الله لأصدق الثلاثة, قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه, فقوله تعالى: {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات} أي قامت عليهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به الرسول, ووضح لهم الأمر ثم ارتدوا إلى ظلمة الشرك, فكيف يستحق هؤلاء الهداية بعدما تلبسوا به من العماية, ولهذا قال تعالى: {والله لا يهدي القوم الظالمين}. ثم قال تعالى {أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} أي يلعنهم الله, ويلعنهم خلقه, {خالدين فيه} أي في اللعنة, {لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون} أي لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف عنهم ساعة واحدة ثم قال تعالى: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه أن من تاب إليه, تاب عليه.
** إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الضّآلّونَ * إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَىَ بِهِ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ
يقول تعالى متوعداً ومهدداً لمن كفر بعد إيمانه, ثم ازداد كفراً, أي استمر عليه إلى الممات, ومخبراً بأنهم لن تقبل لهم توبة عند الممات, كما قال تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت} الاَية, ولهذا قال ههنا {لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون} أي الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغي, قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع, حدثنا يزيد بن زريع حدثنا داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس, أن قوماً أسلموا ثم ارتدوا ثم أسلموا ثم ارتدوا, فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم, فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت هذه الاَية: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم} وهكذا رواه, وإسناده جيد, ثم قال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} أي من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدا. ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهباً فيما يراه قربة, كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان وكان يقري الضيف ويفك العاني ويطعم الطعام: هل ينفعه ذلك ؟ فقال «لا, إنه لم يقل يوماً من الدهر: ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وكذلك لو افتدى بملء الأرض ذهباً ما قبل منه, كما قال تعالى: {ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة} وقال {لا بيع فيه ولا خلال}, وقال {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم}. ولهذا قال تعالى ههنا: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} فعطف {ولو افتدى} به على الأول, فدل على أنه غيره, وما ذكرناه أحسن من أن يقال: أن الواو زائدة, والله أعلم, ويقتضي ذلك أن لا ينقذه من عذاب الله شيء ولو كان قد أنفق مثل الأرض ذهباً, ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهباً, بوزن جبالها وتلالها وترابها ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها, وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج, حدثني شعبة عن أبي عمران الجوني, عن أنس بن مالك, أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء, أكنت مفتدياً به ؟ قال: فيقول: نعم, فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك, قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئاً, فأبيت إلا أن تشرك» وهكذا أخرجه البخاري ومسلم,
(طريق أخرى) وقال الإمام أحمد: حدثنا روح, حدثنا حماد عن ثابت, عن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له: يا ابن آدم, كيف وجدت منزلك ؟ فيقول: أي رب خير منزل, فيقول: سل وتمن, فيقول: ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرار, لما يرى من فضل الشهادة, ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له: يا ابن آدم, كيف وجدت منزلك ؟ فيقول: يا رب شر منزل, فيقول له: تفتدى مني بطلاع الأرض ذهباً ؟ فيقول: أي رب نعم, فيقول: كذبت, قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل, فيرد إلى النار», ولهذا قال {أولئك لهم عذاب أليم ومالهم من ناصرين} أي وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله ولا يجيرهم من أليم عقابه.
الصفحة رقم 61 من المصحف تحميل و استماع mp3