سورة آل عمران | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 75 من المصحف
** وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وّيُحِبّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم, وأن ينوهوا بذكره في الناس, ليكونوا على أهبة من أمره, فإذا ارسله الله تابعوه, فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والاَخرة بالدون الطفيف, والخط الدنيوي السخيف, فبئست الصفقة صفقتهم, وبئست البيعة بيعتهم, وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم, ويسلك بهم مسالكهم, فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع, الدال على العمل الصالح, ولا يكتموا منه شيئاً, فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم, أنه قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» وقوله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا}, يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا, كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم «من ادعى دعوة كاذبة ليتكثر بها, لم يزده الله إلا قلة»., وفي الصحيح أيضاً «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور», وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج عن ابن جريج, أخبرني ابن أبي مليكة أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان قال: اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرىء منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون, فقال ابن عباس: وما لكم وهذه, إنما نزلت هذه في أهل الكتاب, ثم تلا ابن عباس {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون * لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} الاَية. وقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أرود أن قد أخبروه بما سألهم عنه, واستحمدوا بذلك إليه, وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه, وهكذا رواه البخاري في التفسير, ومسلم والترمذي والنسائي في تفسيريهما, وابن أبي حاتم, وابن جرير, والحاكم في مستدركه وابن مردويه كلهم من حديث عبد الملك بن جريج بنحوه, ورواه البخاري أيضاً من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن علقمة بن وقاص, أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس, فذكره وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم, أنبأنا محمد بن جعفر حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه, وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا, وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا, فنزلت {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} الاَية, وكذا رواه مسلم من حديث ابن أبي مريم بنحوه. وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم, قال: كان أبو سعيد ورافع بن خديج وزيد بن ثابت عند مروان فقال: يا أبا سعيد رأيت قوله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا}, ونحن نفرح بما أتينا ونحب أن نحمد بما لم نفعل ؟ فقال أبو سعيد: إن هذا ليس من ذاك, إنما ذاك أن ناساً من المنافقين كانوا يتخلفون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً, فإن كان فيهم نكبة فرحوا بتخلفهم, وإن كان لهم نصر من الله وفتح حلفوا لهم ليرضوهم ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح, فقال مروان: أين هذا من هذا ؟ فقال أبو سعيد: وهذا يعلم هذا ؟ فقال مروان: أكذلك يا زيد ؟ قال: نعم صدق أبو سعيد, ثم قال أبو سعيد: وهذا يعلم ذاك ـ يعني رافع بن خديج, ولكنه يخشى إن أخبرك أن تنزع قلائصه في الصدقة, فلما خرجوا قال زيد لأبي سعيد الخدري: ألا تحمدني على ما شهدت لك, فقال أبو سعيد: شهدت الحق فقال زيد: أولا تحمدني على ما شهدت الحق ؟ ثم رواه من حديث مالك عن زيد بن أسلم, عن رافع بن خديج: أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مروان بن الحكم وهو أمير المدينة, فقال مروان: يا رافع في أي شيء نزلت هذه الاَية ؟ فذكره كما تقدم عن أبي سعيد رضي الله عنهم, وكان مروان يبعث بعد ذلك يسأل ابن عباس كما تقدم, فقال له ما ذكرناه ولا منافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء, لأن الاَية عامة في جميع ما ذكر, والله أعلم, وقد روى ابن مردويه أيضاً من حديث محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة عن الزهري, عن محمد بن ثابت الأنصاري, أن ثابت بن قيس الأنصاري قال: يا رسول الله, والله لقد خشيت أن أكون هلكت, قال«لم» ؟ قال نهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد, ونهى الله عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جَهْوَري الصوت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا ترضى أن تعيش حميداً, وتقتل شهيداً, وتدخل الجنة ؟» فقال: بلى يا رسول الله. فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مسيلمة الكذاب, وقوله تعالى: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} يقرأ بالتاء على مخاطبة المفرد, وبالياء على الإخبار عنهم أي لا يحسبون أنهم ناجون من العذاب بل لا بد لهم منه ولهذا قال تعالى: {ولهم عذاب أليم} ثم قال تعالى {ولله ملك السموات والأرض, والله على كل شيء قديرا} أي هو مالك كل شيء, والقادر على كل شيء, فلا يعجزه شيء, فهابوه ولا تخالفوه, واحذورا غضبه ونقمته فإنه العظيم الذي لا أعظم منه, والقدير الذي لا أقدر منه.
** إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لاَيَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ * الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ * رَبّنَآ إِنّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رّبّنَآ إِنّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبّكُمْ فَآمَنّا رَبّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتّنَا عَلَىَ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ قال الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري, حدثنا يحيى الحماني, حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: أتت قريش اليهود, فقالوا: بم جاءكم موسى ؟ قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين, وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى ؟ قالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص, ويحيي الموتى, فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً, فدعا ربه, فنزلت هذه الاَية {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب} فليتفكروا فيها, وهذا مشكل فإن هذه الاَية مدنية, وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة, والله أعلم, ومعنى الاَية أن الله تعالى يقول: {إن في خلق السموات والأرض} أي هذه في ارتفاعها واتساعها, وهذه في انخفاضها و كثافتها واتضاعها, وما فيهما من الاَيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات, وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات, وزروع وثمار, وحيوان ومعادن, ومنافع مختلفة الألوان والروائح والطعوم والخواص, {واختلاف الليل والنهار} أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر, فتارة يطول هذا ويقصر هذا, ثم يعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا, ويقصر الذي كان طويلا. وكل ذلك تقدير العزيز العليم , ولهذا قال تعالى {لاَيات لأولي الألباب} أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها, وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون, الذين قال الله فيهم {وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} ثم وصف تعالى أولي الألباب, فقال: {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم}. كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «صلّ قائماً, فإن لم تستطع فقاعداً, فإن لم تستطع فعلى جنبك» أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم, {ويتفكرون في خلق السموات والأرض} أي يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه وحكمته واختياره ورحمته. وقال الشيخ أبو سليمان الداراني: إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة, رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل والاعتبار وعن الحسن البصري أنه قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة, وقال الفضيل قال الحسن: الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك, وقال سفيان بن عيينة: الفكرة نور يدخل قلبك وربما تمثل بهذا البيت:
إذا المرء كانت له فكرةففي كل شيء له عبرة
وعن عيسى عليه السلام أنه قال: طوبى لمن كان قيله تذكراً وصمته تفكراً, ونظره عبراً, قال لقمان الحكيم: إن طول الوحدة ألهم للفكرة, وطول الفكرة دليل على طرق باب الجنة, وقال وهب بن منبه ما طالت فكرة امرىء إلا فهم ولا فهم امرؤ قط إلا علم, ولا علم امرؤ قط إلا عمل. وقال عمر بن عبد العزيز: الكلام بذكر الله عز وجل حسن, والفكرة في نعم الله أفضل العبادة. وقال مغيث الأسود: زوروا القبور كل يوم تفكركم, وشاهدوا الموقف بقلوبكم, وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار, وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها. وكان يبكي عند ذلك حتى يرفع صريعاً من بين أصحابه قد ذهب عقله. وقال عبد الله بن المبارك: مر رجل براهب عند مقبرة ومزبلة, فناداه فقال: يا راهب, إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر: كنز الرجال, وكنز الأموال. وعن ابن عمر: أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين, فيقول: أين أهلك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: {كل شيء هالك إلا وجهه} وعن ابن عباس أنه قال: ركعتان مقتصدتان في تفكر, خير من قيام ليلة والقلب ساه. وقال الحسن البصري: يا ابن آدم, كل في ثلث بطنك, واشرب في ثلثه, ودع ثلثه الاَخر تتنفس للفكرة. وقال بعض الحكماء: من نظر إلى الدنيا بغير العبرة, انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة. وقال بشر بن الحارث الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه. وقال الحسن عن عامر بن عبد قيس, قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر. وعن عيسى عليه السلام أنه قال: يا ابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت, وكن في الدنيا ضيفاً, واتخذ المساجد بيتاً, وعلم عينيك البكاء, وجسدك الصبر, وقلبك الفكر, ولا تهتم برزق غد. وعن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه, أنه بكى يوماً بين أصحابه, فسئل عن ذلك, فقال: فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها, فاعتبرت منها بها ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها, ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادكر. وقال ابن أبي الدنيا: أنشدني الحسين بن عبد الرحمن:
نزهة المؤمن الفكرلذة المؤمن العبرنحمد الله وحدهنحن كل على خطررب لاه وعمرهقد تقضى وما شعررب عيش قد كان فوق المنى مونق الزهرفي خرير من العيون وظل من الشجروسرور من النبات وطيب من الثمرغيرته وأهلهسرعة الدهر بالغيرنحمد الله وحدهإن في ذا لمعتبرإن في ذا لعبرة للبيب إن اعتبر
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته, فقال {وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} ومدح عباده المؤمنين {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض} قائلين {ربنا ما خلقت هذا باطلا} أي ما خلقت هذا الخلق عبثاً, بل بالحق لتجزي الذين أساؤوا بما عملوا, وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل, فقالوا {سبحانك} أي عن أن تخلق شيئاً باطلاً {فقنا عذاب النار} أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل, يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث. قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وقيضنا لأعمال ترضى بها عنا. ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم, وتجيرنا به من عذابك الأليم. ثم قالوا {ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته} أي أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع {وما للظالمين من أنصار} أي يوم القيامة لا مجير لهم منك. ولا محيد لهم عما أردت بهم {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان} أي داعياً يدعو إلى الإيمان, وهو الرسول صلى الله عليه وسلم {أن آمنوا بربكم فآمنا} أي يقول آمنوا بربكم فآمنا, أي فاستجبنا له واتبعناه, أي بإيماننا واتباعنا نبيك, {ربنا فاغفر لنا ذنوبنا} أي استرها, {وكفر عنا سيئاتنا} فيما بيننا وبينك, {وتوفنا مع الأبرار} أي ألحقنا بالصالحين, {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} قيل: معناه على الإيمان برسلك, وقيل: معناه على ألسنة رسلك. وهذا أظهر ـ وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان, حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن محمد, عن أبي عقال, عن أنس بن مالك, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عسقلان أحد العروسين يبعث الله منها يوم القيامة سبعين ألفاً لا حساب عليهم, ويبعث منها خمسين ألفاً شهداء وفودا إلى الله, وبها صفوف الشهداء رؤوسهم مقطعة في أيديهم تثج أوداجهم دماً, يقولون {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد} فيقول الله: صدق عبيدي اغسلوهم بنهر البيضة. فيخرجون منه نقاء بيضاً. فيسرحون في الجنة حيث شاؤوا» وهذا الحديث يعد من غرائب المسند, ومنهم من يجعله موضوعاً, والله أعلم. {ولا تخزنا يوم القيامة} أي على رؤوس الخلائق, {إنك لا تخلف الميعاد} أي لا بد من الميعاد الذي أخبرت عنه رسلك وهو القيام يوم القيامة بين يديك, وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحارث بن سُريج, حدثنا المعتبر, حدثنا الفضل بن عيسى, حدثنا محمد بن المنكدر أن جابر بن عبد الله حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «العار والتخزية تبلغ من ابن آدم في القيامة في المقام بين يدي الله عز وجل ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار» حديث غريب. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الاَيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده, فقال البخاري رحمه الله: حدثنا سعيد بن أبي مريم, حدثنا محمد بن جعفر, أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن كريب, عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: بت عند خالتي ميمونة, فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد, فلما كان ثلث الليل الاَخر قعد فنظر إلى السماء, فقال {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب} الاَيات, ثم قام فتوضأ واستن, فصلى إحدى عشرة ركعة, ثم أذن بلال فصلى ركعتين, ثم خرج فصلى بالناس الصبح. وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن إسحاق الصنعاني, عن ابن أبي مريم به. ثم رواه البخاري من طرق عن مالك, عن مخرمة بن سليمان, عن كريب أن ابن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته, قال: فاضطجعت في عرض الوسادة, واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها, فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل أو قبله أو بعده بقليل, استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من منامه فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده, ثم قرأ العشر الاَيات الخواتيم من سورة آل عمران, ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها, فأحسن وضوءه, ثم قام يصلي. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فقمت فصنعت مثل ما صنع, ثم ذهبت فقمت إلى جنبه, فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي, وأخذ بأذني اليمنى يفتلها, فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين, ثم أوتر, ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن, فقام فصلى ركعتين خفيفتين, ثم خرج فصلى الصبح. وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن مالك به. ورواه مسلم أيضاً وأبو داود من وجوه أخر عن مخرمة بن سليمان به.
(طريق أخرى) لهذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن علي, حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرّة, أنبأنا خلاد بن يحيى, أنبأنا يونس بن أبي إسحاق, عن المنهال بن عمرو, عن علي بن عبد الله بن عباس, عن عبد الله بن عباس, قال: أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ صلاته. قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العشاء الاَخرة حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيره, قام فمر بي, فقال: من هذا ؟ عبد الله ؟ قلت: نعم, قال: فمه قلت أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة. قال: «فالحق الحق فلما أن دخل قال: افرشنّ عبد الله ؟ فأتى بوسادة من مسوح. قال: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها حتى سمعت غطيطه, ثم استوى على فراشه قاعداً, قال: فرفع رأسه إلى السماء فقال «سبحان الملك القدوس» ثلاث مرات ثم تلا هذه الاَيات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها. وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه حديثاً في ذلك أيضاً.
(طريق أخرى) رواها ابن مردويه من حديث عاصم بن بهدلة عن بعض أصحابه, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعدما مضى ليل, فنظر إلى السماء وتلا هذه الاَية {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب} إلى آخر السورة ثم قال «اللهم اجعل في قلبي نوراً, وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً, وعن يميني نوراً, وعن شمالي نوراً, ومن بين يدي نوراً, ومن خلفي نوراً, ومن فوقي نوراً, ومن تحتي نوراً وأعظم لي نوراً يوم القيامة» وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح من رواية كريب عن ابن عباس رضي الله عنه, ثم روى ابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: أتت قريش اليهود, فقالوا: بم جاءكم موسى من الاَيات ؟ قالوا: عصاه ويده البيضاء للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم ؟ قالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى, فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً, فدعا ربه عز وجل, فنزلت {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب} قال: فليتفكروا فيها, لفظ ابن مردويه. وقد تقدم هذا الحديث من رواية الطبراني في أول الاَية, وهذا يقتضي أن تكون هذه الاَيات مكية, والمشهور أنها مدنية, ودليله الحديث الاَخر. قال ابن مردويه: حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل, حدثنا أحمد بن علي الحراني, حدثنا شجاع بن أشرس, حدثنا حشرج بن نباتة الواسطي أبو مكرم عن الكلبي وهو أبو جَناب, عن عطاء قال: انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها, فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب, فقالت: ياعبيد ما يمنعك من زيارتنا ؟ قال: قول الشاعر: زر غباً تزدد حباً. فقال ابن عمر: ذرينا أخبرينا بأعجب شيء رأيتِهِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبكت وقالت: كل أمره كان عجباً, أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي, ثم قال «ذريني أتعبد لربي عز وجل» قالت: فقلت والله إني لأحب قربك, وإني أحب أن تَعَبّد لربك, فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء, ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته, ثم سجد فبكى حتى بل الأرض, ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح. قالت: فقال: يارسول الله, ما يبكيك وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر ؟ فقال: «ويحك يا بلال, وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل علي في هذه الليلة {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب}» ثم قال «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» وقد رواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون عن أبي جناب الكلبي عن عطاء. قال: دخلت أنا وعبد الله بن عمر وعبيد بن عمير على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي في خدرها, فسلمنا عليها, فقالت: من هؤلاء ؟ قال: فقلنا: هذا عبد الله بن عمر وعبيد بن عمير. قالت: يا عبيد بن عمير. ما يمنعك من زيارتنا, قال: ما قال الأول: زر غباً تزدد حباً. قالت إنا لنحب زيارتك وغشيانك. قال عبد الله بن عمر: دعينا من بطالتكما هذه, أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فبكت ثم قالت: كل أمره كان عجباً, أتاني في ليلتي حتى دخل معي في فراشي, حتى لصق جلده بجلدي, ثم قال: «يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي». قالت: إني لأحب قربك وأحب هواك. قالت: فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صب الماء, ثم قام فقرأ القرآن, ثم بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت حقويه, قالت: ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه, ثم بكى حتى رأيت دموعه بلغت حجره, قالت: ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده, قالت: ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر, ثم قال: الصلاة يا رسول الله, فلما رآه بلال يبكي قال: يا رسول الله, تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال «يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ ومالي لا أبكي وقد نزل عليّ الليلة {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب} إلى قوله {سبحانك فقنا عذاب النار} ـ ثم ـ «قال ويل لمن قرأ هذه الاَيات ثم لم يتفكر فيها» وهكذا رواه أبي حاتم ابن حبان في صحيحه عن عمران بن موسى, عن عثمان بن أبي شيبة, عن يحيى بن زكريا, عن إبراهيم بن سويد النخعي, عن عبد الملك بن أبي سليمان, عن عطاء, قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فذكر نحوه. وهكذا رواه عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار عن شجاع بن أشرس به. ثم قال: حدثني الحسن بن عبد العزيز: سمعت سنيداً يذكر عن سفيان هو الثوري رفعه, قال «من قرأ آخر آل عمران فلم يتفكر فيها ويله» يعد بأصابعه عشراً ـ قال الحسن بن عبد العزيز: فأخبرني عبيد بن السائب قال: قيل للأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن ؟ قال: يقرؤهن وهو يعقلهن. قال ابن أبي الدنيا: وحدثني قاسم بن هاشم, حدثنا علي بن عياش, حدثنا عبد الرحمن بن سليمان قال: سألت الأوزاعي عن أدنى ما يتعلق به المتعلق من الفكر فيهن وما ينجيه من هذا الويل ؟ فأطرق هنية ثم قال: يقرؤهن وهو يعقلهن.
(حديث آخر) فيه غرابة. قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الرحمن بن بشير بن نمير, حدثنا إسحاق بن إبراهيم البستي (ح) قال: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد, حدثنا أحمد بن عمرو قال: أنبأنا هشام بن عمار, أنبأنا سليمان بن موسى الزهري, أنبأنا مظاهر بن أسلم المخزومي, أنبأنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة. مظاهر بن أسلم ضعيف.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 75
75 : تفسير الصفحة رقم 75 من القرآن الكريم** وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وّيُحِبّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم, وأن ينوهوا بذكره في الناس, ليكونوا على أهبة من أمره, فإذا ارسله الله تابعوه, فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والاَخرة بالدون الطفيف, والخط الدنيوي السخيف, فبئست الصفقة صفقتهم, وبئست البيعة بيعتهم, وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم, ويسلك بهم مسالكهم, فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع, الدال على العمل الصالح, ولا يكتموا منه شيئاً, فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم, أنه قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» وقوله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا}, يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا, كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم «من ادعى دعوة كاذبة ليتكثر بها, لم يزده الله إلا قلة»., وفي الصحيح أيضاً «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور», وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج عن ابن جريج, أخبرني ابن أبي مليكة أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان قال: اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرىء منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون, فقال ابن عباس: وما لكم وهذه, إنما نزلت هذه في أهل الكتاب, ثم تلا ابن عباس {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون * لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} الاَية. وقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أرود أن قد أخبروه بما سألهم عنه, واستحمدوا بذلك إليه, وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه, وهكذا رواه البخاري في التفسير, ومسلم والترمذي والنسائي في تفسيريهما, وابن أبي حاتم, وابن جرير, والحاكم في مستدركه وابن مردويه كلهم من حديث عبد الملك بن جريج بنحوه, ورواه البخاري أيضاً من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن علقمة بن وقاص, أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس, فذكره وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم, أنبأنا محمد بن جعفر حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه, وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا, وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا, فنزلت {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} الاَية, وكذا رواه مسلم من حديث ابن أبي مريم بنحوه. وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم, قال: كان أبو سعيد ورافع بن خديج وزيد بن ثابت عند مروان فقال: يا أبا سعيد رأيت قوله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا}, ونحن نفرح بما أتينا ونحب أن نحمد بما لم نفعل ؟ فقال أبو سعيد: إن هذا ليس من ذاك, إنما ذاك أن ناساً من المنافقين كانوا يتخلفون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً, فإن كان فيهم نكبة فرحوا بتخلفهم, وإن كان لهم نصر من الله وفتح حلفوا لهم ليرضوهم ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح, فقال مروان: أين هذا من هذا ؟ فقال أبو سعيد: وهذا يعلم هذا ؟ فقال مروان: أكذلك يا زيد ؟ قال: نعم صدق أبو سعيد, ثم قال أبو سعيد: وهذا يعلم ذاك ـ يعني رافع بن خديج, ولكنه يخشى إن أخبرك أن تنزع قلائصه في الصدقة, فلما خرجوا قال زيد لأبي سعيد الخدري: ألا تحمدني على ما شهدت لك, فقال أبو سعيد: شهدت الحق فقال زيد: أولا تحمدني على ما شهدت الحق ؟ ثم رواه من حديث مالك عن زيد بن أسلم, عن رافع بن خديج: أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مروان بن الحكم وهو أمير المدينة, فقال مروان: يا رافع في أي شيء نزلت هذه الاَية ؟ فذكره كما تقدم عن أبي سعيد رضي الله عنهم, وكان مروان يبعث بعد ذلك يسأل ابن عباس كما تقدم, فقال له ما ذكرناه ولا منافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء, لأن الاَية عامة في جميع ما ذكر, والله أعلم, وقد روى ابن مردويه أيضاً من حديث محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة عن الزهري, عن محمد بن ثابت الأنصاري, أن ثابت بن قيس الأنصاري قال: يا رسول الله, والله لقد خشيت أن أكون هلكت, قال«لم» ؟ قال نهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد, ونهى الله عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جَهْوَري الصوت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا ترضى أن تعيش حميداً, وتقتل شهيداً, وتدخل الجنة ؟» فقال: بلى يا رسول الله. فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مسيلمة الكذاب, وقوله تعالى: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} يقرأ بالتاء على مخاطبة المفرد, وبالياء على الإخبار عنهم أي لا يحسبون أنهم ناجون من العذاب بل لا بد لهم منه ولهذا قال تعالى: {ولهم عذاب أليم} ثم قال تعالى {ولله ملك السموات والأرض, والله على كل شيء قديرا} أي هو مالك كل شيء, والقادر على كل شيء, فلا يعجزه شيء, فهابوه ولا تخالفوه, واحذورا غضبه ونقمته فإنه العظيم الذي لا أعظم منه, والقدير الذي لا أقدر منه.
** إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لاَيَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ * الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ * رَبّنَآ إِنّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رّبّنَآ إِنّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبّكُمْ فَآمَنّا رَبّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتّنَا عَلَىَ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ قال الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري, حدثنا يحيى الحماني, حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: أتت قريش اليهود, فقالوا: بم جاءكم موسى ؟ قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين, وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى ؟ قالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص, ويحيي الموتى, فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً, فدعا ربه, فنزلت هذه الاَية {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب} فليتفكروا فيها, وهذا مشكل فإن هذه الاَية مدنية, وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة, والله أعلم, ومعنى الاَية أن الله تعالى يقول: {إن في خلق السموات والأرض} أي هذه في ارتفاعها واتساعها, وهذه في انخفاضها و كثافتها واتضاعها, وما فيهما من الاَيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات, وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات, وزروع وثمار, وحيوان ومعادن, ومنافع مختلفة الألوان والروائح والطعوم والخواص, {واختلاف الليل والنهار} أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر, فتارة يطول هذا ويقصر هذا, ثم يعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا, ويقصر الذي كان طويلا. وكل ذلك تقدير العزيز العليم , ولهذا قال تعالى {لاَيات لأولي الألباب} أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها, وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون, الذين قال الله فيهم {وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} ثم وصف تعالى أولي الألباب, فقال: {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم}. كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «صلّ قائماً, فإن لم تستطع فقاعداً, فإن لم تستطع فعلى جنبك» أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم, {ويتفكرون في خلق السموات والأرض} أي يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه وحكمته واختياره ورحمته. وقال الشيخ أبو سليمان الداراني: إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة, رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل والاعتبار وعن الحسن البصري أنه قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة, وقال الفضيل قال الحسن: الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك, وقال سفيان بن عيينة: الفكرة نور يدخل قلبك وربما تمثل بهذا البيت:
إذا المرء كانت له فكرةففي كل شيء له عبرة
وعن عيسى عليه السلام أنه قال: طوبى لمن كان قيله تذكراً وصمته تفكراً, ونظره عبراً, قال لقمان الحكيم: إن طول الوحدة ألهم للفكرة, وطول الفكرة دليل على طرق باب الجنة, وقال وهب بن منبه ما طالت فكرة امرىء إلا فهم ولا فهم امرؤ قط إلا علم, ولا علم امرؤ قط إلا عمل. وقال عمر بن عبد العزيز: الكلام بذكر الله عز وجل حسن, والفكرة في نعم الله أفضل العبادة. وقال مغيث الأسود: زوروا القبور كل يوم تفكركم, وشاهدوا الموقف بقلوبكم, وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار, وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها. وكان يبكي عند ذلك حتى يرفع صريعاً من بين أصحابه قد ذهب عقله. وقال عبد الله بن المبارك: مر رجل براهب عند مقبرة ومزبلة, فناداه فقال: يا راهب, إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر: كنز الرجال, وكنز الأموال. وعن ابن عمر: أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين, فيقول: أين أهلك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: {كل شيء هالك إلا وجهه} وعن ابن عباس أنه قال: ركعتان مقتصدتان في تفكر, خير من قيام ليلة والقلب ساه. وقال الحسن البصري: يا ابن آدم, كل في ثلث بطنك, واشرب في ثلثه, ودع ثلثه الاَخر تتنفس للفكرة. وقال بعض الحكماء: من نظر إلى الدنيا بغير العبرة, انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة. وقال بشر بن الحارث الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه. وقال الحسن عن عامر بن عبد قيس, قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر. وعن عيسى عليه السلام أنه قال: يا ابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت, وكن في الدنيا ضيفاً, واتخذ المساجد بيتاً, وعلم عينيك البكاء, وجسدك الصبر, وقلبك الفكر, ولا تهتم برزق غد. وعن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه, أنه بكى يوماً بين أصحابه, فسئل عن ذلك, فقال: فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها, فاعتبرت منها بها ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها, ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادكر. وقال ابن أبي الدنيا: أنشدني الحسين بن عبد الرحمن:
نزهة المؤمن الفكرلذة المؤمن العبرنحمد الله وحدهنحن كل على خطررب لاه وعمرهقد تقضى وما شعررب عيش قد كان فوق المنى مونق الزهرفي خرير من العيون وظل من الشجروسرور من النبات وطيب من الثمرغيرته وأهلهسرعة الدهر بالغيرنحمد الله وحدهإن في ذا لمعتبرإن في ذا لعبرة للبيب إن اعتبر
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته, فقال {وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} ومدح عباده المؤمنين {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض} قائلين {ربنا ما خلقت هذا باطلا} أي ما خلقت هذا الخلق عبثاً, بل بالحق لتجزي الذين أساؤوا بما عملوا, وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل, فقالوا {سبحانك} أي عن أن تخلق شيئاً باطلاً {فقنا عذاب النار} أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل, يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث. قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وقيضنا لأعمال ترضى بها عنا. ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم, وتجيرنا به من عذابك الأليم. ثم قالوا {ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته} أي أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع {وما للظالمين من أنصار} أي يوم القيامة لا مجير لهم منك. ولا محيد لهم عما أردت بهم {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان} أي داعياً يدعو إلى الإيمان, وهو الرسول صلى الله عليه وسلم {أن آمنوا بربكم فآمنا} أي يقول آمنوا بربكم فآمنا, أي فاستجبنا له واتبعناه, أي بإيماننا واتباعنا نبيك, {ربنا فاغفر لنا ذنوبنا} أي استرها, {وكفر عنا سيئاتنا} فيما بيننا وبينك, {وتوفنا مع الأبرار} أي ألحقنا بالصالحين, {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} قيل: معناه على الإيمان برسلك, وقيل: معناه على ألسنة رسلك. وهذا أظهر ـ وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان, حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن محمد, عن أبي عقال, عن أنس بن مالك, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عسقلان أحد العروسين يبعث الله منها يوم القيامة سبعين ألفاً لا حساب عليهم, ويبعث منها خمسين ألفاً شهداء وفودا إلى الله, وبها صفوف الشهداء رؤوسهم مقطعة في أيديهم تثج أوداجهم دماً, يقولون {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد} فيقول الله: صدق عبيدي اغسلوهم بنهر البيضة. فيخرجون منه نقاء بيضاً. فيسرحون في الجنة حيث شاؤوا» وهذا الحديث يعد من غرائب المسند, ومنهم من يجعله موضوعاً, والله أعلم. {ولا تخزنا يوم القيامة} أي على رؤوس الخلائق, {إنك لا تخلف الميعاد} أي لا بد من الميعاد الذي أخبرت عنه رسلك وهو القيام يوم القيامة بين يديك, وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحارث بن سُريج, حدثنا المعتبر, حدثنا الفضل بن عيسى, حدثنا محمد بن المنكدر أن جابر بن عبد الله حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «العار والتخزية تبلغ من ابن آدم في القيامة في المقام بين يدي الله عز وجل ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار» حديث غريب. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الاَيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده, فقال البخاري رحمه الله: حدثنا سعيد بن أبي مريم, حدثنا محمد بن جعفر, أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن كريب, عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: بت عند خالتي ميمونة, فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد, فلما كان ثلث الليل الاَخر قعد فنظر إلى السماء, فقال {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب} الاَيات, ثم قام فتوضأ واستن, فصلى إحدى عشرة ركعة, ثم أذن بلال فصلى ركعتين, ثم خرج فصلى بالناس الصبح. وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن إسحاق الصنعاني, عن ابن أبي مريم به. ثم رواه البخاري من طرق عن مالك, عن مخرمة بن سليمان, عن كريب أن ابن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته, قال: فاضطجعت في عرض الوسادة, واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها, فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل أو قبله أو بعده بقليل, استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من منامه فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده, ثم قرأ العشر الاَيات الخواتيم من سورة آل عمران, ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها, فأحسن وضوءه, ثم قام يصلي. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فقمت فصنعت مثل ما صنع, ثم ذهبت فقمت إلى جنبه, فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي, وأخذ بأذني اليمنى يفتلها, فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين, ثم أوتر, ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن, فقام فصلى ركعتين خفيفتين, ثم خرج فصلى الصبح. وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن مالك به. ورواه مسلم أيضاً وأبو داود من وجوه أخر عن مخرمة بن سليمان به.
(طريق أخرى) لهذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن علي, حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرّة, أنبأنا خلاد بن يحيى, أنبأنا يونس بن أبي إسحاق, عن المنهال بن عمرو, عن علي بن عبد الله بن عباس, عن عبد الله بن عباس, قال: أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ صلاته. قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العشاء الاَخرة حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيره, قام فمر بي, فقال: من هذا ؟ عبد الله ؟ قلت: نعم, قال: فمه قلت أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة. قال: «فالحق الحق فلما أن دخل قال: افرشنّ عبد الله ؟ فأتى بوسادة من مسوح. قال: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها حتى سمعت غطيطه, ثم استوى على فراشه قاعداً, قال: فرفع رأسه إلى السماء فقال «سبحان الملك القدوس» ثلاث مرات ثم تلا هذه الاَيات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها. وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه حديثاً في ذلك أيضاً.
(طريق أخرى) رواها ابن مردويه من حديث عاصم بن بهدلة عن بعض أصحابه, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعدما مضى ليل, فنظر إلى السماء وتلا هذه الاَية {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب} إلى آخر السورة ثم قال «اللهم اجعل في قلبي نوراً, وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً, وعن يميني نوراً, وعن شمالي نوراً, ومن بين يدي نوراً, ومن خلفي نوراً, ومن فوقي نوراً, ومن تحتي نوراً وأعظم لي نوراً يوم القيامة» وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح من رواية كريب عن ابن عباس رضي الله عنه, ثم روى ابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: أتت قريش اليهود, فقالوا: بم جاءكم موسى من الاَيات ؟ قالوا: عصاه ويده البيضاء للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم ؟ قالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى, فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً, فدعا ربه عز وجل, فنزلت {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب} قال: فليتفكروا فيها, لفظ ابن مردويه. وقد تقدم هذا الحديث من رواية الطبراني في أول الاَية, وهذا يقتضي أن تكون هذه الاَيات مكية, والمشهور أنها مدنية, ودليله الحديث الاَخر. قال ابن مردويه: حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل, حدثنا أحمد بن علي الحراني, حدثنا شجاع بن أشرس, حدثنا حشرج بن نباتة الواسطي أبو مكرم عن الكلبي وهو أبو جَناب, عن عطاء قال: انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها, فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب, فقالت: ياعبيد ما يمنعك من زيارتنا ؟ قال: قول الشاعر: زر غباً تزدد حباً. فقال ابن عمر: ذرينا أخبرينا بأعجب شيء رأيتِهِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبكت وقالت: كل أمره كان عجباً, أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي, ثم قال «ذريني أتعبد لربي عز وجل» قالت: فقلت والله إني لأحب قربك, وإني أحب أن تَعَبّد لربك, فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء, ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته, ثم سجد فبكى حتى بل الأرض, ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح. قالت: فقال: يارسول الله, ما يبكيك وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر ؟ فقال: «ويحك يا بلال, وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل علي في هذه الليلة {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب}» ثم قال «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» وقد رواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون عن أبي جناب الكلبي عن عطاء. قال: دخلت أنا وعبد الله بن عمر وعبيد بن عمير على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي في خدرها, فسلمنا عليها, فقالت: من هؤلاء ؟ قال: فقلنا: هذا عبد الله بن عمر وعبيد بن عمير. قالت: يا عبيد بن عمير. ما يمنعك من زيارتنا, قال: ما قال الأول: زر غباً تزدد حباً. قالت إنا لنحب زيارتك وغشيانك. قال عبد الله بن عمر: دعينا من بطالتكما هذه, أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فبكت ثم قالت: كل أمره كان عجباً, أتاني في ليلتي حتى دخل معي في فراشي, حتى لصق جلده بجلدي, ثم قال: «يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي». قالت: إني لأحب قربك وأحب هواك. قالت: فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صب الماء, ثم قام فقرأ القرآن, ثم بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت حقويه, قالت: ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه, ثم بكى حتى رأيت دموعه بلغت حجره, قالت: ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده, قالت: ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر, ثم قال: الصلاة يا رسول الله, فلما رآه بلال يبكي قال: يا رسول الله, تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال «يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ ومالي لا أبكي وقد نزل عليّ الليلة {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب} إلى قوله {سبحانك فقنا عذاب النار} ـ ثم ـ «قال ويل لمن قرأ هذه الاَيات ثم لم يتفكر فيها» وهكذا رواه أبي حاتم ابن حبان في صحيحه عن عمران بن موسى, عن عثمان بن أبي شيبة, عن يحيى بن زكريا, عن إبراهيم بن سويد النخعي, عن عبد الملك بن أبي سليمان, عن عطاء, قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فذكر نحوه. وهكذا رواه عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار عن شجاع بن أشرس به. ثم قال: حدثني الحسن بن عبد العزيز: سمعت سنيداً يذكر عن سفيان هو الثوري رفعه, قال «من قرأ آخر آل عمران فلم يتفكر فيها ويله» يعد بأصابعه عشراً ـ قال الحسن بن عبد العزيز: فأخبرني عبيد بن السائب قال: قيل للأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن ؟ قال: يقرؤهن وهو يعقلهن. قال ابن أبي الدنيا: وحدثني قاسم بن هاشم, حدثنا علي بن عياش, حدثنا عبد الرحمن بن سليمان قال: سألت الأوزاعي عن أدنى ما يتعلق به المتعلق من الفكر فيهن وما ينجيه من هذا الويل ؟ فأطرق هنية ثم قال: يقرؤهن وهو يعقلهن.
(حديث آخر) فيه غرابة. قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الرحمن بن بشير بن نمير, حدثنا إسحاق بن إبراهيم البستي (ح) قال: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد, حدثنا أحمد بن عمرو قال: أنبأنا هشام بن عمار, أنبأنا سليمان بن موسى الزهري, أنبأنا مظاهر بن أسلم المخزومي, أنبأنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة. مظاهر بن أسلم ضعيف.
الصفحة رقم 75 من المصحف تحميل و استماع mp3