سورة آل عمران | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 76 من المصحف
** فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ فَالّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لاُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلاُدْخِلَنّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَاباً مّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثّوَابِ
يقول تعالى: {فاستجاب لهم ربهم} أي فأجابهم ربهم, كما قال الشاعر: وداع دعا:
يا من يجيب إلى الندىفلم يستجبه عند ذاك مجيب
قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار, عن سلمة رجل من آل أم سلمة, قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء. فأنزل الله تعالى: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} إلى آخر الاَية. وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا, وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة. ثم قال: صحيح على شرط البخاري, ولم يخرجاه, وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت: آخر آية نزلت هذه الاَية {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض} إلى آخرها, رواه ابن مردويه, ومعنى الاَية أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره فاستجاب لهم ربهم عقب ذلك بفاء التعقيب, كما قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان * فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} وقوله تعالى: {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} هذا تفسير للإجابة, أي قال لهم مجيباً لهم أنه لا يضيع عمل عامل لديه, بل يوفى كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى, وقوله {بعضكم من بعض} أي جميعكم في ثوابي سواء, {فالذين هاجرو} أي تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والإخوان والخلان والجيران, {وأخرجوا من ديارهم} أي ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم, ولهذا قال {وأوذوا في سبيلي} أي إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده, كما قال تعالى: {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} وقال تعالى: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} وقوله تعالى: {وقاتلوا وقتلو} وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه, وقد ثبت في الصحيحين أن رجلاً قال: يا رسول الله, أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر, أيكفر الله عني خطاياي ؟ قال «نعم ثم قال: كيف قلت ؟ فأعاد عليه ما قال, فقال: نعم, إلا الدّين, قاله لي جبريل آنفاً» ولهذا قال تعالى: {لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار} أي تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن, وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقوله {ثواباً من عند الله} أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم, لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً, كما قال الشاعر:
إن يعذب يكن غراماً وإن يعــط جزيلاً فإنه لا يبالي
وقوله تعالى: {والله عنده حسن الثواب} أي عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحاً. قال ابن أبي حاتم: ذكر عن دحيم بن إبراهيم قال: قال الوليد بن مسلم, أخبرني حَريز بن عثمان أن شداد بن أوس كان يقول: يا أيها الناس, لا تتهموا الله في قضائه, فإنه لا يبغي على مؤمن, فإذا أنزل بأحدكم شي مما يحب, فليحمد الله, وإذا أنزل به شي مما يكره, فليصبر وليحتسب, فإن الله عنده حسن الثواب.
** لاَ يَغُرّنّكَ تَقَلّبُ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمّ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاٍ مّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لّلأبْرَارِ
يقول تعالى: لا تنظروا إلى ما هؤلاء الكفار مترفون فيه من النعمة والغبطة والسرور, فعما قليل يزول هذا كله عنهم ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة, فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجاً, وجميع ما هم فيه {متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} وهذه الاَية كقوله تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد}, وقال تعالى: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون}, وقال تعالى: {نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} وقال تعالى: {فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} أي قليلاً, وقال تعالى: {أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين} وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر أن مآلهم إلى النار, قال بعده {لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً من عند الله وما عند الله خير للأبرار} وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن نصر, حدثنا أبو طاهر سهل بن عبدالله, أنبأنا هشام بن عمار, أنبأنا سعيد بن يحيى, أنبأنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار, عن عبد الله بن عمرو بن العاص, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنما سموا الأبرار لأنهم بروا الاَباء والأبناء, كما أن لوالديك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق» كذا رواه ابن مردويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن جناب, حدثنا عيسى بن يونس عن عبد الله بن الوليد الوصافي, عن محارب بن دثار, عن ابن عمر, قال: إنما سماهم الله أبراراً لأنهم بروا الاَباء والأبناء, كما أن لوالديك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق, وهذا أشبه, والله أعلم. ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا هشام الدستوائي عن رجل عن الحسن, قال: الأبرار الذين لا يؤذون الذر. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش, عن خيثمة عن الأسود, قال: قال عبد الله يعني ابن مسعود: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا الموت خير لها, لئن كان براً لقد قال الله تعالى {وما عند الله خير للأبرار} وكذا رواه عبد الرزاق عن الأعمش عن الثوري به. وقرأ {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين} وقال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثنا إسحاق, حدثنا ابن أبي جعفر عن فرج بن فضالة, عن لقمان عن أبي الدرداء أنه كان يقول: ما من مؤمن إلا والموت خير له, وما من كافر إلا والموت خير له, ومن لم يصدقني فإن الله يقول {وما عند الله خير للأبرار} ويقول {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين}.
** وَإِنّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان, ويؤمنون بما أنزل على محمد مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة, وأنهم خاشعون لله أي مطيعون له, خاضعون متذللون بين يديه, {لا يشترون بآيات الله ثمناً قليل}, أي لا يكتمون ما بأيديهم من البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته, وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم, سواء كانوا هوداً أو نصارى, وقد قال تعالى في سورة القصص: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا} الاَية, وقد قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} الاَية. وقد قال تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}, وقال تعالى: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون}, وقال تعالى: {قل آمنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} وهذه الصفات توجد في اليهود, ولكن قليلاً كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود, ولم يبلغوا عشرة أنفس, وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق, كما قال تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} إلى قوله تعالى: {فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيه} الاَية, وهكذا قال ههنا {أولئك لهم أجرهم عند ربهم} الاَية, وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه, لما قرأ سورة {كهيعص} بحضرة النجاشي ملك الحبشة وعنده البطاركة والقساوسة, بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم, وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال «إن أخاً لكم بالحبشة قد مات, فصلوا عليه» فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه. وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حماد بن سلمة عن ثابت, عن أنس بن مالك, قال: لما توفي النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «استغفروا لأخيكم» فقال بعض الناس: يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة, فنزلت {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله} الاَية, ورواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم من طريق أخرى عن حماد بن سلمة, عن ثابت, عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم رواه ابن مردويه من طرق عن حميد, عن أنس بن مالك, بنحو ما تقدم ورواه أيضاً ابن جرير من حديث أبي بكر الهذلي عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, عن جابر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي «إن أخاكم أصحمة قد مات», فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى كما يصلي على الجنائز فكبر عليه أربعاً, فقال المنافقون: يصلي على علج مات بأرض الحبشة, فأنزل الله {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله} الاَية. وقال أبو داود: حدثنا محمد بن عمرو الرازي, حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق, حدثني يزيد بن رومان, عن عروة, عن عاشئة رضي الله عنها, قالت: لما مات النجاشي كنا نحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور. وقد روى الحافظ أبو عبد الله الحاكم في مستدركه: أنبأنا أبو العباس السياري بمرو, حدثنا عبد الله بن علي الغزال, حدثنا علي بن الحسن بن شقيق, حدثنا ابن المبارك, حدثنا مصعب بن ثابت عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه, قال: نزل بالنجاشي عدو من أرضهم, فجاءه المهاجرون فقالوا: إنا نحب أن نخرج إليهم حتى نقاتل معك وترى جرأتنا ونجزيك بما صنعت بنا, فقال: لا, دواء بنصرة الله عز وجل خير من دواء بنصرة الناس, قال: وفيه نزلت {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله} الاَية. ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد, ولم يخرجاه. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {وإن من أهل الكتاب} يعني مسلمة أهل الكتاب. وقال عباد بن منصور: سألت الحسن البصري عن قول الله {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله} الاَية, قال: هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم فاتبعوه, وعرفوا الإسلام فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين: للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد صلى الله عليه وسلم بالذي اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم, رواهما ابن أبي حاتم. وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين» فذكر منهم: ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي, وقوله تعالى: {لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلا} أي لا يكتمون ما بأيديهم من العلم كما فعله الطائفة المرذولة منهم, بل يبذلون ذلك مجاناً, ولهذا قال تعالى: {أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب}, قال مجاهد: {سريع الحساب} يعني سريع الإحصاء, رواه ابن أبي حاتم وغيره, وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} قال الحسن البصري رحمه الله: أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام, فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء, حتى يموتوا مسلمين, وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم, وكذا قال غير واحد من علماء السلف, وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات, وقيل: انتظار الصلاة بعد الصلاة, قاله ابن عباس وسهل بن حنيف ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم, وروى ابن أبي حاتم ههنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي من حديث مالك بن أنس عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة, عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره, وكثرة الخطا إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, فذلكم الرباط, فذلكم الرباط, فذلكم الرباط». وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد, حدثنا موسى بن إسحاق, حدثنا أبو جحيفة علي بن يزيد الكوفي, أنبأنا ابن أبي كريمة عن محمد بن يزيد, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, قال: أقبل عليّ أبو هريرة يوماً, فقال: أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الاَية: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} قلت: لا. قال: أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه, ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها, ثم يذكرون الله فيها, فعليهم أنزلت {اصبروا} أي على الصلوات الخمس, {وصابرو} أنفسكم وهواكم, {ورابطوا} في مساجدكم, {واتقوا الله} فيما عليكم, {لعلكم تفلحون}. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن منصور بن المبارك عن مصعب بن ثابت, عن داود بن صالح, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة بنحوه. وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب, حدثني ابن فضيل عن عبد الله بن سعيد المقبري, عن جده, عن شرحبيل, عن علي رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أدلكم على ما يكفر الذنوب والخطايا ؟ إسباغ الوضوء على المكاره, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, فذلكم الرباط», وقال ابن جرير أيضاً: حدثني موسى بن سهل الرملي, حدثنا يحيى بن واضح, حدثنا محمد بن مهاجر, حدثني يحيى بن يزيد عن زيد بن أبي أنيسة, عن شرحبيل, عن جابر بن عبد الله, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب» ؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال «إسباغ الوضوء في أماكنها, وكثرة الخطا إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, فذلكم الرباط», وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن علي, أنبأنا محمد بن عبد الله بن السلام البيروتي, أنبأنا محمد بن غالب الأنطاكي, أنبأنا عثمان بن عبدالرحمن, أنبأنا الوازع بن نافع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن أبي أيوب رضي الله عنه, قال: وقفه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «هل لكم إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الأجر ؟» قلنا: نعم يا رسول الله, وما هو ؟ قال «إسباغ الوضوء على المكاره, وكثرة الخطا إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة». قال: وهو قول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} فذلك هو الرباط في المساجد, وهذا حديث غريب من هذا الوجه جداً. وقال عبد الله بن المبارك عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير, حدثني داود بن صالح, قال: قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الاَية {اصبروا وصابروا ورابطوا ؟} قال: قلت: لا. قال: إنه لم يكن يا ابن أخي في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه, ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة, رواه ابن جرير, وقد تقدم سياق ابن مردويه له, وأنه من كلام أبي هريرة رضي الله عنه, والله أعلم, وقيل: المراد بالمرابطة ههنا مرابطة الغزو في نحور العدو وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين, وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك وذكر كثرة الثواب فيه, فروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها».
(حديث آخر) روى مسلم عن سلمان الفارسي, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه, وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله, وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان».
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح, أخبرني أبو هانىء الخولاني أن عمرو بن مالك الجَنْبي أخبره أنه سمع فضالة بن عبيد يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله, فإنه يَنْمي له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر» وهكذا رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هانىء الخولاني وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضاً.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق, وحسن بن موسى وأبو سعيد قالوا: حدثنا ابن لهيعة, حدثنا مشرح بن هاعان, سمعت عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه يجري عليه عمله حتى يبعث ويأمن من الفتان» وروى الحارث بن محمد بن أبي أسامة في مسنده عن المقبري وهو عبد الله بن يزيد به إلى قوله «حتى يبعث» دون ذكر «الفتان» وابن لهيعة إذا صرح بالتحديث فهو حسن ولا سيما مع ما تقدم من الشواهد.
(حديث آخر) قال ابن ماجه في سننه: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا عبد الله بن وهب, أخبرني الليث عن زهرة بن معبد عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من مات مرابطاً في سبيل الله أجرى عليه عمله الصالح الذي كان يعمل, وأجرى عليه رزقه, وأمن من الفتان, وبعثه الله يوم القيامة آمناً من الفزع».) (طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا موسى, أنبأنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان, عن أبي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من مات مرابطاً وقي فتنة القبر, وأمن من الفزع الأكبر, وغدا عليه وريح برزقه من الجنة, وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة».
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى, حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن عمرو بن حلحلة الدؤلي, عن إسحاق بن عبد الله عن أم الدرداء ترفع الحديث, قالت: «من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام أجزأت عنه رباط سنة».
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا كهمس, حدثنا مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير, قال: قال عثمان رضي الله عنه وهو يخطب على منبره: إني محدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلاّ الضّن بكم, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها» وهكذا رواه أحمد أيضاً عن روح, عن كهمس, عن مصعب بن ثابت, عن عثمان, وقد رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار, عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه, عن مصعب بن ثابت, عن عبد الله بن الزبير, قال: خطب عثمان بن عفان الناس فقال: يا أيها الناس إني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم يمنعني أن أحدثكم به إلا الضن بكم وبصحابتكم, فليختر مختار لنفسه أو ليدع» سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من رابط ليلة في سبيل الله كانت كألف ليلة صيامها وقيامها».
(طريق أخرى) عن عثمان رضي الله عنه. قال الترمذي: حدثنا الحسن بن علي الخلال, حدثنا هشام بن عبد الملك, حدثنا الليث بن سعد, حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان, قال: سمعت عثمان وهو على المنبر يقول: إني كتمتكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية تفرقكم عني, ثم بدا لي أن أحدثكموه: ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل». ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه, قال محمد يعني البخاري أبو صالح مولى عثمان اسمه بركان, وذكر غير الترمذي أن اسمه الحارث, والله أعلم. وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة, وعنده زيادة في آخره فقال يعني عثمان: فليرابط امرؤ كيف شاء هل بلغت ؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
(حديث آخر) قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان, حدثنامحمد بن المنكدر, قال: مر سلمان الفارسي. بشرحبيل بن السمط, وهو في مرابَط له وقد شق عليه وعلى أصحابه, فقال: أفلا أحدثك يا ابن السمط بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: بلى, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «رباط يوم في سبيل الله أفضل ـ أو قال خير ـ من صيام شهر وقيامه, ومن مات فيه وقي فتنة القبر, ونمي له عمله إلى يوم القيامة» تفرد به الترمذي من هذا الوجه, وقال: هذا حديث حسن, وفي بعض النسخ زيادة وليس إسناده بمتصل, وابن المنكدر لم يدرك سلمان. (قلت): الظاهر أن محمد بن المنكدر سمعه من شرحبيل بن السمط, وقد رواه مسلم والنسائي من حديث مكحول وأبي عبيدة بن عقبة, كلاهما عن شرحبيل بن السمط وله صحبة عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان» وقد تقدم سياق مسلم بمفرده.
(حديث آخر) قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة, حدثنا محمد بن يعلى السلمي, حدثنا عمر بن صبيح عن عبد الرحمن بن عمرو, عن مكحول, عن أبي بن كعب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لرباط يوم في سبيل الله, من وراء عورة المسلمين محتسباً من شهر رمضان أعظم أجراً من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها, ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسباً من غير شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجراً ـ أراه قال ـ من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها, فإن رده الله تعالى إلى أهله سالماً لم تكتب عليه سيئة ألف سنة, وتكتب له الحسنات, ويجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة» هذا حديث غريب, بل منكر من هذا الوجه, وعمر بن صبيح متهم.
(حديث آخر) قال ابن ماجه: حدثنا عيسى بن يونس الرملي, حدثنا محمد بن شعيب بن شابور عن سعيد بن خالد بن أبي طويل, سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «حرس ليلة في سبيل الله خير من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة. السنة ثلثمائة وستون يوماً, واليوم كألف سنة» وهذا حديث غريب أيضاً, وسعيد بن خالد هذا ضعفه أبو زرعة وغير واحد من الأئمة, وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه, وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وقال الحاكم: روى عن أنس أحاديث موضوعة.
(حديث آخر) قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن الصباح, أنبأنا عبد العزيز بن محمد عن صالح بن محمد بن زائدة, عن عمر بن عبد العزيز, عن عقبة بن عامر الجهني, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحم الله حارس الحرس» فيه انقطاع بين عمر بن عبد العزيز وعقبة بن عامر, فإنه لم يدركه والله أعلم.
(حديث آخر) قال أبو داود: حدثنا أبو توبة, حدثنا معاوية يعني ابن سلام عن زيد ـ يعني ابن سلام ـ أنه سمع أبا سلام قال: حدثني السلولي أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلميوم حنين فأطنبوا السير حتى كانت عشية, فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله, إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا, فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين, فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال «تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله» ثم قال «من يحرسنا الليلة» ؟ قال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله, فقال «فاركب» فركب فرساً له, فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغز من قبلك الليلة» فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه, فركع ركعتين ثم قال «هل أحسستم فارسكم ؟» فقال رجل: يا رسول الله ما أحسسناه فثوب بالصلاة, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته قال «أبشروا فقد جاءكم فارسكم» فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب, فإذا هو قد جاء حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرتني, فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما, فنظرت فلم أرَ أحداً, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل نزلت الليلة ؟» قال: لا إلا مصلياً أو قاضي حاجة, فقال له «أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها». ورواه النسائي عن محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني عن أبي توبة وهو الربيع بن نافع به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا عبد الرحمن بن شريح, سمعت محمد بن شمير الرعيني يقول: سمعت أبا عامر التّجيبي, قال الإمام أحمد: وقال غير زيد أبا علي الجنبي يقول: سمعت أبا ريحانة يقول كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة, فأتينا ذات ليلة إلى شرف, فبتنا عليه, فأصابنا برد شديد حتى رأيت من يحفر في الأرض حفرة يدخل فيها ويلقي عليه الجحفة يعني الترس, فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس نادى «من يحرسنا في هذه الليلة فأدعو له بدعاء يكون له فيه فضل ؟» فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله فقال «ادن» فدنا, فقال «من أنت ؟» فتسمى له الأنصاري, ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء فأكثر منه. فقال أبو ريحانة: فلما سمعت ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: أنا رجل آخر, فقال «ادن», فدنوت فقال «من أنت ؟» قال: فقلت: أنا أبو ريحانة, فدعا بدعاء هو دون ما دعا للأنصاري, ثم قال «حرمت النار على عين دمعت ـ أو بكت ـ من خشية الله, وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله» وروى النسائي منه «حرمت النار» إلى آخره عن عصمة بن الفضل عن زيد بن الحباب به, وعن الحارث بن مسكين عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن شريح به, وأتم وقال في الروايتين عن أبي علي الجَنَبي.
(حديث آخر) قال الترمذي: حدثنا نصر بن علي الجهضمي, حدثنا بشر بن عمر, حدثنا شعيب بن رُزيق أبو شيبة عن عطاء الخراساني, عن عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس, قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله, وعين باتت تحرس في سبيل الله» ثم قال: حسن غريب, لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن رُزيق, قال وفي الباب عن عثمان وأبي ريحانة. (قلت) وقد تقدما, ولله الحمد والمنة.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان, حدثنا رشدين عن زَبّان, عن سهل بن معاذ, عن أبيه معاذ بن رضي الله عنه أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من حرس من وراء المسلمين متطوعاً لا بأجرة سلطان, لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم, فإن الله يقول {وإن منكم إلا وارده}» تفرد به أحمد رحمه الله.
(حديث آخر) ـ روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة, إن أعطي رضي, وإن لم يعط سخط, تعس وانتكس, وإذا شيك فلا انتقش, طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه, مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة, وإن كان في الساقة كان في الساقة, إن استأذن لم يؤذن له, وإن شفع لم يشفع». فهذا آخر ما تيسر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام, ولله الحمد على جزيل الإنعام, على تعاقب الأعوام والأيام. وقال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثنا مطرف بن عبد الله المدني, حدثنا مالك عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم, فكتب إليه عمر: أما بعد, فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل الله بعدها فرجاً, وإنه لن يغلب عسر يسرين, وإن الله تعالى يقول في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} وهكذا روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة, قال: أملى علي عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس, وودعته للخروج, وأنشدها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة, وفي رواية سنة سبع وسبعين ومائة.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنالعلمت أنك في العبادة تلعبمن كان يخضب خده بدموعهفنحورنا بدمائنا تتخضبأو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعبريح العبير لكم ونحن عبيرناوهج السنابك والغبار الأطيبولقد أتانا من مقال نبيناقول صحيح صادق لا يكذبلا يستوي وغبارَ خيل الله فيأنف امريء ودخانَ نار تلهبهذا كتاب الله ينطق بينناليس الشهيد بميت لا يكذب
قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام, فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني, ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث ؟ قال: قلت: نعم, قال فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا وأملى عليّ الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله, علمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله, فقال «هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر, وتصوم فلا تفطر ؟» فقال: يا رسول الله, أنا أضعف من أن أستطيع ذلك, ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم «فوالذي نفسي بيده لو طُوّقْتَ ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله, أَوَ ما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله, فيكتب له بذلك الحسنات» وقوله تعالى: {واتقوا الله} أي في جميع أموركم وأحوالكم, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن «اتق الله حيثما كنت, وأتبع السيئة الحسنة تمحها, وخالق الناس بخلق حسن» {لعلكم تفلحون} أي في الدنيا والاَخرة ـ وقال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في قول الله عز وجل {واتقوا الله لعلكم تفلحون} واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غداً إذا لقيتموني.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 76
76 : تفسير الصفحة رقم 76 من القرآن الكريم** فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ فَالّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لاُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلاُدْخِلَنّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَاباً مّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثّوَابِ
يقول تعالى: {فاستجاب لهم ربهم} أي فأجابهم ربهم, كما قال الشاعر: وداع دعا:
يا من يجيب إلى الندىفلم يستجبه عند ذاك مجيب
قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار, عن سلمة رجل من آل أم سلمة, قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء. فأنزل الله تعالى: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} إلى آخر الاَية. وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا, وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة. ثم قال: صحيح على شرط البخاري, ولم يخرجاه, وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت: آخر آية نزلت هذه الاَية {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض} إلى آخرها, رواه ابن مردويه, ومعنى الاَية أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره فاستجاب لهم ربهم عقب ذلك بفاء التعقيب, كما قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان * فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} وقوله تعالى: {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} هذا تفسير للإجابة, أي قال لهم مجيباً لهم أنه لا يضيع عمل عامل لديه, بل يوفى كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى, وقوله {بعضكم من بعض} أي جميعكم في ثوابي سواء, {فالذين هاجرو} أي تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والإخوان والخلان والجيران, {وأخرجوا من ديارهم} أي ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم, ولهذا قال {وأوذوا في سبيلي} أي إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده, كما قال تعالى: {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} وقال تعالى: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} وقوله تعالى: {وقاتلوا وقتلو} وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه, وقد ثبت في الصحيحين أن رجلاً قال: يا رسول الله, أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر, أيكفر الله عني خطاياي ؟ قال «نعم ثم قال: كيف قلت ؟ فأعاد عليه ما قال, فقال: نعم, إلا الدّين, قاله لي جبريل آنفاً» ولهذا قال تعالى: {لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار} أي تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن, وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقوله {ثواباً من عند الله} أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم, لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً, كما قال الشاعر:
إن يعذب يكن غراماً وإن يعــط جزيلاً فإنه لا يبالي
وقوله تعالى: {والله عنده حسن الثواب} أي عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحاً. قال ابن أبي حاتم: ذكر عن دحيم بن إبراهيم قال: قال الوليد بن مسلم, أخبرني حَريز بن عثمان أن شداد بن أوس كان يقول: يا أيها الناس, لا تتهموا الله في قضائه, فإنه لا يبغي على مؤمن, فإذا أنزل بأحدكم شي مما يحب, فليحمد الله, وإذا أنزل به شي مما يكره, فليصبر وليحتسب, فإن الله عنده حسن الثواب.
** لاَ يَغُرّنّكَ تَقَلّبُ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمّ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاٍ مّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لّلأبْرَارِ
يقول تعالى: لا تنظروا إلى ما هؤلاء الكفار مترفون فيه من النعمة والغبطة والسرور, فعما قليل يزول هذا كله عنهم ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة, فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجاً, وجميع ما هم فيه {متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} وهذه الاَية كقوله تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد}, وقال تعالى: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون}, وقال تعالى: {نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} وقال تعالى: {فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} أي قليلاً, وقال تعالى: {أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين} وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر أن مآلهم إلى النار, قال بعده {لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً من عند الله وما عند الله خير للأبرار} وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن نصر, حدثنا أبو طاهر سهل بن عبدالله, أنبأنا هشام بن عمار, أنبأنا سعيد بن يحيى, أنبأنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار, عن عبد الله بن عمرو بن العاص, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنما سموا الأبرار لأنهم بروا الاَباء والأبناء, كما أن لوالديك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق» كذا رواه ابن مردويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن جناب, حدثنا عيسى بن يونس عن عبد الله بن الوليد الوصافي, عن محارب بن دثار, عن ابن عمر, قال: إنما سماهم الله أبراراً لأنهم بروا الاَباء والأبناء, كما أن لوالديك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق, وهذا أشبه, والله أعلم. ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا هشام الدستوائي عن رجل عن الحسن, قال: الأبرار الذين لا يؤذون الذر. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش, عن خيثمة عن الأسود, قال: قال عبد الله يعني ابن مسعود: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا الموت خير لها, لئن كان براً لقد قال الله تعالى {وما عند الله خير للأبرار} وكذا رواه عبد الرزاق عن الأعمش عن الثوري به. وقرأ {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين} وقال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثنا إسحاق, حدثنا ابن أبي جعفر عن فرج بن فضالة, عن لقمان عن أبي الدرداء أنه كان يقول: ما من مؤمن إلا والموت خير له, وما من كافر إلا والموت خير له, ومن لم يصدقني فإن الله يقول {وما عند الله خير للأبرار} ويقول {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين}.
** وَإِنّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان, ويؤمنون بما أنزل على محمد مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة, وأنهم خاشعون لله أي مطيعون له, خاضعون متذللون بين يديه, {لا يشترون بآيات الله ثمناً قليل}, أي لا يكتمون ما بأيديهم من البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته, وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم, سواء كانوا هوداً أو نصارى, وقد قال تعالى في سورة القصص: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا} الاَية, وقد قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} الاَية. وقد قال تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}, وقال تعالى: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون}, وقال تعالى: {قل آمنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} وهذه الصفات توجد في اليهود, ولكن قليلاً كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود, ولم يبلغوا عشرة أنفس, وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق, كما قال تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} إلى قوله تعالى: {فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيه} الاَية, وهكذا قال ههنا {أولئك لهم أجرهم عند ربهم} الاَية, وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه, لما قرأ سورة {كهيعص} بحضرة النجاشي ملك الحبشة وعنده البطاركة والقساوسة, بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم, وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال «إن أخاً لكم بالحبشة قد مات, فصلوا عليه» فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه. وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حماد بن سلمة عن ثابت, عن أنس بن مالك, قال: لما توفي النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «استغفروا لأخيكم» فقال بعض الناس: يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة, فنزلت {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله} الاَية, ورواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم من طريق أخرى عن حماد بن سلمة, عن ثابت, عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم رواه ابن مردويه من طرق عن حميد, عن أنس بن مالك, بنحو ما تقدم ورواه أيضاً ابن جرير من حديث أبي بكر الهذلي عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, عن جابر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي «إن أخاكم أصحمة قد مات», فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى كما يصلي على الجنائز فكبر عليه أربعاً, فقال المنافقون: يصلي على علج مات بأرض الحبشة, فأنزل الله {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله} الاَية. وقال أبو داود: حدثنا محمد بن عمرو الرازي, حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق, حدثني يزيد بن رومان, عن عروة, عن عاشئة رضي الله عنها, قالت: لما مات النجاشي كنا نحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور. وقد روى الحافظ أبو عبد الله الحاكم في مستدركه: أنبأنا أبو العباس السياري بمرو, حدثنا عبد الله بن علي الغزال, حدثنا علي بن الحسن بن شقيق, حدثنا ابن المبارك, حدثنا مصعب بن ثابت عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه, قال: نزل بالنجاشي عدو من أرضهم, فجاءه المهاجرون فقالوا: إنا نحب أن نخرج إليهم حتى نقاتل معك وترى جرأتنا ونجزيك بما صنعت بنا, فقال: لا, دواء بنصرة الله عز وجل خير من دواء بنصرة الناس, قال: وفيه نزلت {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله} الاَية. ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد, ولم يخرجاه. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {وإن من أهل الكتاب} يعني مسلمة أهل الكتاب. وقال عباد بن منصور: سألت الحسن البصري عن قول الله {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله} الاَية, قال: هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم فاتبعوه, وعرفوا الإسلام فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين: للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد صلى الله عليه وسلم بالذي اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم, رواهما ابن أبي حاتم. وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين» فذكر منهم: ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي, وقوله تعالى: {لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلا} أي لا يكتمون ما بأيديهم من العلم كما فعله الطائفة المرذولة منهم, بل يبذلون ذلك مجاناً, ولهذا قال تعالى: {أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب}, قال مجاهد: {سريع الحساب} يعني سريع الإحصاء, رواه ابن أبي حاتم وغيره, وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} قال الحسن البصري رحمه الله: أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام, فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء, حتى يموتوا مسلمين, وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم, وكذا قال غير واحد من علماء السلف, وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات, وقيل: انتظار الصلاة بعد الصلاة, قاله ابن عباس وسهل بن حنيف ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم, وروى ابن أبي حاتم ههنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي من حديث مالك بن أنس عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة, عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره, وكثرة الخطا إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, فذلكم الرباط, فذلكم الرباط, فذلكم الرباط». وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد, حدثنا موسى بن إسحاق, حدثنا أبو جحيفة علي بن يزيد الكوفي, أنبأنا ابن أبي كريمة عن محمد بن يزيد, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, قال: أقبل عليّ أبو هريرة يوماً, فقال: أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الاَية: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} قلت: لا. قال: أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه, ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها, ثم يذكرون الله فيها, فعليهم أنزلت {اصبروا} أي على الصلوات الخمس, {وصابرو} أنفسكم وهواكم, {ورابطوا} في مساجدكم, {واتقوا الله} فيما عليكم, {لعلكم تفلحون}. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن منصور بن المبارك عن مصعب بن ثابت, عن داود بن صالح, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة بنحوه. وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب, حدثني ابن فضيل عن عبد الله بن سعيد المقبري, عن جده, عن شرحبيل, عن علي رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أدلكم على ما يكفر الذنوب والخطايا ؟ إسباغ الوضوء على المكاره, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, فذلكم الرباط», وقال ابن جرير أيضاً: حدثني موسى بن سهل الرملي, حدثنا يحيى بن واضح, حدثنا محمد بن مهاجر, حدثني يحيى بن يزيد عن زيد بن أبي أنيسة, عن شرحبيل, عن جابر بن عبد الله, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب» ؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال «إسباغ الوضوء في أماكنها, وكثرة الخطا إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, فذلكم الرباط», وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن علي, أنبأنا محمد بن عبد الله بن السلام البيروتي, أنبأنا محمد بن غالب الأنطاكي, أنبأنا عثمان بن عبدالرحمن, أنبأنا الوازع بن نافع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن أبي أيوب رضي الله عنه, قال: وقفه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «هل لكم إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الأجر ؟» قلنا: نعم يا رسول الله, وما هو ؟ قال «إسباغ الوضوء على المكاره, وكثرة الخطا إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة». قال: وهو قول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} فذلك هو الرباط في المساجد, وهذا حديث غريب من هذا الوجه جداً. وقال عبد الله بن المبارك عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير, حدثني داود بن صالح, قال: قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الاَية {اصبروا وصابروا ورابطوا ؟} قال: قلت: لا. قال: إنه لم يكن يا ابن أخي في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه, ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة, رواه ابن جرير, وقد تقدم سياق ابن مردويه له, وأنه من كلام أبي هريرة رضي الله عنه, والله أعلم, وقيل: المراد بالمرابطة ههنا مرابطة الغزو في نحور العدو وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين, وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك وذكر كثرة الثواب فيه, فروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها».
(حديث آخر) روى مسلم عن سلمان الفارسي, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه, وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله, وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان».
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح, أخبرني أبو هانىء الخولاني أن عمرو بن مالك الجَنْبي أخبره أنه سمع فضالة بن عبيد يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله, فإنه يَنْمي له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر» وهكذا رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هانىء الخولاني وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضاً.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق, وحسن بن موسى وأبو سعيد قالوا: حدثنا ابن لهيعة, حدثنا مشرح بن هاعان, سمعت عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه يجري عليه عمله حتى يبعث ويأمن من الفتان» وروى الحارث بن محمد بن أبي أسامة في مسنده عن المقبري وهو عبد الله بن يزيد به إلى قوله «حتى يبعث» دون ذكر «الفتان» وابن لهيعة إذا صرح بالتحديث فهو حسن ولا سيما مع ما تقدم من الشواهد.
(حديث آخر) قال ابن ماجه في سننه: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا عبد الله بن وهب, أخبرني الليث عن زهرة بن معبد عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من مات مرابطاً في سبيل الله أجرى عليه عمله الصالح الذي كان يعمل, وأجرى عليه رزقه, وأمن من الفتان, وبعثه الله يوم القيامة آمناً من الفزع».) (طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا موسى, أنبأنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان, عن أبي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من مات مرابطاً وقي فتنة القبر, وأمن من الفزع الأكبر, وغدا عليه وريح برزقه من الجنة, وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة».
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى, حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن عمرو بن حلحلة الدؤلي, عن إسحاق بن عبد الله عن أم الدرداء ترفع الحديث, قالت: «من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام أجزأت عنه رباط سنة».
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا كهمس, حدثنا مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير, قال: قال عثمان رضي الله عنه وهو يخطب على منبره: إني محدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلاّ الضّن بكم, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها» وهكذا رواه أحمد أيضاً عن روح, عن كهمس, عن مصعب بن ثابت, عن عثمان, وقد رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار, عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه, عن مصعب بن ثابت, عن عبد الله بن الزبير, قال: خطب عثمان بن عفان الناس فقال: يا أيها الناس إني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم يمنعني أن أحدثكم به إلا الضن بكم وبصحابتكم, فليختر مختار لنفسه أو ليدع» سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من رابط ليلة في سبيل الله كانت كألف ليلة صيامها وقيامها».
(طريق أخرى) عن عثمان رضي الله عنه. قال الترمذي: حدثنا الحسن بن علي الخلال, حدثنا هشام بن عبد الملك, حدثنا الليث بن سعد, حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان, قال: سمعت عثمان وهو على المنبر يقول: إني كتمتكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية تفرقكم عني, ثم بدا لي أن أحدثكموه: ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل». ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه, قال محمد يعني البخاري أبو صالح مولى عثمان اسمه بركان, وذكر غير الترمذي أن اسمه الحارث, والله أعلم. وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة, وعنده زيادة في آخره فقال يعني عثمان: فليرابط امرؤ كيف شاء هل بلغت ؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
(حديث آخر) قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان, حدثنامحمد بن المنكدر, قال: مر سلمان الفارسي. بشرحبيل بن السمط, وهو في مرابَط له وقد شق عليه وعلى أصحابه, فقال: أفلا أحدثك يا ابن السمط بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: بلى, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «رباط يوم في سبيل الله أفضل ـ أو قال خير ـ من صيام شهر وقيامه, ومن مات فيه وقي فتنة القبر, ونمي له عمله إلى يوم القيامة» تفرد به الترمذي من هذا الوجه, وقال: هذا حديث حسن, وفي بعض النسخ زيادة وليس إسناده بمتصل, وابن المنكدر لم يدرك سلمان. (قلت): الظاهر أن محمد بن المنكدر سمعه من شرحبيل بن السمط, وقد رواه مسلم والنسائي من حديث مكحول وأبي عبيدة بن عقبة, كلاهما عن شرحبيل بن السمط وله صحبة عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان» وقد تقدم سياق مسلم بمفرده.
(حديث آخر) قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة, حدثنا محمد بن يعلى السلمي, حدثنا عمر بن صبيح عن عبد الرحمن بن عمرو, عن مكحول, عن أبي بن كعب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لرباط يوم في سبيل الله, من وراء عورة المسلمين محتسباً من شهر رمضان أعظم أجراً من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها, ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسباً من غير شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجراً ـ أراه قال ـ من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها, فإن رده الله تعالى إلى أهله سالماً لم تكتب عليه سيئة ألف سنة, وتكتب له الحسنات, ويجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة» هذا حديث غريب, بل منكر من هذا الوجه, وعمر بن صبيح متهم.
(حديث آخر) قال ابن ماجه: حدثنا عيسى بن يونس الرملي, حدثنا محمد بن شعيب بن شابور عن سعيد بن خالد بن أبي طويل, سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «حرس ليلة في سبيل الله خير من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة. السنة ثلثمائة وستون يوماً, واليوم كألف سنة» وهذا حديث غريب أيضاً, وسعيد بن خالد هذا ضعفه أبو زرعة وغير واحد من الأئمة, وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه, وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وقال الحاكم: روى عن أنس أحاديث موضوعة.
(حديث آخر) قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن الصباح, أنبأنا عبد العزيز بن محمد عن صالح بن محمد بن زائدة, عن عمر بن عبد العزيز, عن عقبة بن عامر الجهني, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحم الله حارس الحرس» فيه انقطاع بين عمر بن عبد العزيز وعقبة بن عامر, فإنه لم يدركه والله أعلم.
(حديث آخر) قال أبو داود: حدثنا أبو توبة, حدثنا معاوية يعني ابن سلام عن زيد ـ يعني ابن سلام ـ أنه سمع أبا سلام قال: حدثني السلولي أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلميوم حنين فأطنبوا السير حتى كانت عشية, فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله, إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا, فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين, فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال «تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله» ثم قال «من يحرسنا الليلة» ؟ قال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله, فقال «فاركب» فركب فرساً له, فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغز من قبلك الليلة» فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه, فركع ركعتين ثم قال «هل أحسستم فارسكم ؟» فقال رجل: يا رسول الله ما أحسسناه فثوب بالصلاة, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته قال «أبشروا فقد جاءكم فارسكم» فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب, فإذا هو قد جاء حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرتني, فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما, فنظرت فلم أرَ أحداً, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل نزلت الليلة ؟» قال: لا إلا مصلياً أو قاضي حاجة, فقال له «أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها». ورواه النسائي عن محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني عن أبي توبة وهو الربيع بن نافع به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا عبد الرحمن بن شريح, سمعت محمد بن شمير الرعيني يقول: سمعت أبا عامر التّجيبي, قال الإمام أحمد: وقال غير زيد أبا علي الجنبي يقول: سمعت أبا ريحانة يقول كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة, فأتينا ذات ليلة إلى شرف, فبتنا عليه, فأصابنا برد شديد حتى رأيت من يحفر في الأرض حفرة يدخل فيها ويلقي عليه الجحفة يعني الترس, فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس نادى «من يحرسنا في هذه الليلة فأدعو له بدعاء يكون له فيه فضل ؟» فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله فقال «ادن» فدنا, فقال «من أنت ؟» فتسمى له الأنصاري, ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء فأكثر منه. فقال أبو ريحانة: فلما سمعت ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: أنا رجل آخر, فقال «ادن», فدنوت فقال «من أنت ؟» قال: فقلت: أنا أبو ريحانة, فدعا بدعاء هو دون ما دعا للأنصاري, ثم قال «حرمت النار على عين دمعت ـ أو بكت ـ من خشية الله, وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله» وروى النسائي منه «حرمت النار» إلى آخره عن عصمة بن الفضل عن زيد بن الحباب به, وعن الحارث بن مسكين عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن شريح به, وأتم وقال في الروايتين عن أبي علي الجَنَبي.
(حديث آخر) قال الترمذي: حدثنا نصر بن علي الجهضمي, حدثنا بشر بن عمر, حدثنا شعيب بن رُزيق أبو شيبة عن عطاء الخراساني, عن عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس, قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله, وعين باتت تحرس في سبيل الله» ثم قال: حسن غريب, لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن رُزيق, قال وفي الباب عن عثمان وأبي ريحانة. (قلت) وقد تقدما, ولله الحمد والمنة.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان, حدثنا رشدين عن زَبّان, عن سهل بن معاذ, عن أبيه معاذ بن رضي الله عنه أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من حرس من وراء المسلمين متطوعاً لا بأجرة سلطان, لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم, فإن الله يقول {وإن منكم إلا وارده}» تفرد به أحمد رحمه الله.
(حديث آخر) ـ روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة, إن أعطي رضي, وإن لم يعط سخط, تعس وانتكس, وإذا شيك فلا انتقش, طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه, مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة, وإن كان في الساقة كان في الساقة, إن استأذن لم يؤذن له, وإن شفع لم يشفع». فهذا آخر ما تيسر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام, ولله الحمد على جزيل الإنعام, على تعاقب الأعوام والأيام. وقال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثنا مطرف بن عبد الله المدني, حدثنا مالك عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم, فكتب إليه عمر: أما بعد, فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل الله بعدها فرجاً, وإنه لن يغلب عسر يسرين, وإن الله تعالى يقول في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} وهكذا روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة, قال: أملى علي عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس, وودعته للخروج, وأنشدها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة, وفي رواية سنة سبع وسبعين ومائة.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنالعلمت أنك في العبادة تلعبمن كان يخضب خده بدموعهفنحورنا بدمائنا تتخضبأو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعبريح العبير لكم ونحن عبيرناوهج السنابك والغبار الأطيبولقد أتانا من مقال نبيناقول صحيح صادق لا يكذبلا يستوي وغبارَ خيل الله فيأنف امريء ودخانَ نار تلهبهذا كتاب الله ينطق بينناليس الشهيد بميت لا يكذب
قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام, فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني, ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث ؟ قال: قلت: نعم, قال فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا وأملى عليّ الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله, علمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله, فقال «هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر, وتصوم فلا تفطر ؟» فقال: يا رسول الله, أنا أضعف من أن أستطيع ذلك, ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم «فوالذي نفسي بيده لو طُوّقْتَ ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله, أَوَ ما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله, فيكتب له بذلك الحسنات» وقوله تعالى: {واتقوا الله} أي في جميع أموركم وأحوالكم, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن «اتق الله حيثما كنت, وأتبع السيئة الحسنة تمحها, وخالق الناس بخلق حسن» {لعلكم تفلحون} أي في الدنيا والاَخرة ـ وقال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في قول الله عز وجل {واتقوا الله لعلكم تفلحون} واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غداً إذا لقيتموني.
الصفحة رقم 76 من المصحف تحميل و استماع mp3