تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 91 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 91

91 : تفسير الصفحة رقم 91 من القرآن الكريم

** مّنْ يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلّىَ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً * وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيّتَ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً
يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن من أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله, وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله, ومن عصاني فقد عصى الله, ومن أطاع الأمير فقد أطاعني, ومن عصى الأمير فقد عصاني» وهذا الحديث ثابت في الصحيحين عن الأعمش به. وقوله: {ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظ} أي ما عليك منه إن عليك إلا البلاغ فمن اتبعك سعد ونجا, وكان لك من الأجر نظير ما حصل له, ومن تولى عنك خاب وخسر وليس عليك من أمره شيء, كما جاء في الحديث «من يطع الله ورسوله فقد رشد, ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه».
وقوله: {ويقولون طاعة} يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة {فإذا برزوا من عندك} أي خرجوا وتواروا عنك {بيت طائفة منهم غير الذي تقول} أي استسروا ليلاً فيما بينهم بغير ما أظهروه لك, فقال تعالى: {والله يكتب ما يبيتون} أي يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد, والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم, وما يتفقون عليه ليلاً من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم وعصيانه وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة, وسيجزيهم على ذلك, كما قال تعالى: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعن} الاَية, وقوله: {فأعرض عنهم} أي اصفح عنهم واحلم عليهم ولا تؤاخذهم, ولا تكشف أمورهم للناس, ولا تخف منهم أيضاً {وتوكل على الله وكفى بالله وكيل} أي كفى به ولياً وناصراً ومعيناً لمن توكل عليه وأناب إليه.

** أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً * وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَىَ أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ إِلاّ قَلِيلاً
يقول تعالى آمراً لهم بتدبر القرآن وناهياً لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة, ومخبراً لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب, ولا تعارض لأنه تنزيل من حكيم حميد فهو حق من حق, ولهذا قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفاله}, ثم قال: {ولو كان من عند غير الله} أي لو كان مفتعلاً مختلقاً, كما يقوله من يقول من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم لوجدوا فيه اختلافاً, أي اضطراباً وتضاداً كثيراً, أي وهذا سالم من الاختلاف, فهو من عند الله, كما قال تعالى مخبراً عن الراسخين في العلم حيث قالوا {آمنا به كل من عند ربن} أي محكمه ومتشابهه حق, فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا, والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا, ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين, قال الإمام أحمد: حدثنا أنس بن عياض, حدثنا أبو حازم, حدثنا عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده قال: لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم, أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب من أبوابه, فكرهنا أن نفرق بينهم, فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً حتى احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول: «مهلاً يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم, باختلافهم على أنبيائهم, وضربهم الكتب بعضها ببعض, إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً, إنما نزل يصدق بعضه بعضاً, فما عرفتم منه فاعملوا به, وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه» وهكذا رواه أيضاً عن أبي معاوية, عن داود بن أبي هند, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده, قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر, فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب, فقال لهم: «مالكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض, بهذا هلك من كان قبلكم» قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده, ورواه ابن ماجه من حديث داود بن أبي هند به نحوه.
وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا حماد بن زيد عن أبي عمران الجوني, قال: كتب إلى عبد الله بن رباح يحدث عن عبد الله بن عمرو, قال: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً, فإنا لجلوس إذ اختلف اثنان في آية, فارتفعت أصواتهما, فقال: «إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب». ورواه مسلم والنسائي من حديث حماد بن زيد به.
وقوله: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به} إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها, وقد لا يكون لها صحة. وقد قال مسلم في مقدمة صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا علي بن حفص, حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن, عن حفص بن عاصم, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع» وكذا رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه عن محمد بن الحسين بن أشكاب, عن علي بن حفص عن شعبة مسنداً, ورواه مسلم أيضاً من حديث معاذ بن هشام العنبري وعبد الرحمن بن مهدي, وأخرجه أبو داود أيضاً من حديث حفص بن عمرو النمري, ثلاثتهم عن شعبة, عن خبيب, عن حفص بن عاصم به مرسلاً, وفي الصحيحين, عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, نهى عن قيل وقال, أي الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت, ولا تدبر, ولا تبين. وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بئس مطية الرجل زعموا». وفي الصحيح «من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» ولنذكر ههنا حديث عمر بن الخطاب المتفق على صحته حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, طلق نساءه, فجاء من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك, فلم يصبر حتى استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم, فاستفهمه أطلقت نساءك فقال «لا» فقلت: الله أكبر وذكر الحديث بطوله. وعند مسلم فقلت: أطلقتهن ؟ فقال «لا» فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي, لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه, ونزلت هذه الاَية {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر, ومعنى يستنبطونه أي يستخرجونه من معادنه, يقال: استنبط الرجل العين إذا حفرها واستخرجها من قعورها. وقوله: {لا تبعتم الشيطان إلا قليلل}, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المؤمنين. وقال عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة: {لا تبعتم الشيطان إلا قليل} يعني كلكم, واستشهد من نصر هذا القول بقول الطرماح بن حكيم في مدح يزيد بن المهلب:)
أشم نديّ كثير النواديقليل المثالب والقادحة
يعني لا مثالب له ولا قادحة فيه.

** فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَحَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفّ بَأْسَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدّ بَأْساً وَأَشَدّ تَنكِيلاً * مّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيّئَةً يَكُنْ لّهُ كِفْلٌ مّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ مّقِيتاً * وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدّوهَآ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ حَسِيباً * اللّهُ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ لَيَجْمَعَنّكُمْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً
يأمر تعالى عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يباشر القتال بنفسه, ومن نكل عنه فلا عليه منه, ولهذا قال {لا تكلف إلا نفسك} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عمرو بن نبيح, حدثنا حكام, حدثنا الجراح الكندي عن أبي إسحاق, قال: سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل فيكون ممن قال الله فيه: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} ؟ قال: قد قال الله تعالى لنبيه: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين}. ورواه الإمام أحمد عن سليمان بن داود, عن أبي بكر بن عياش, عن أبي إسحاق, قال: قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين, أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال: لا, إن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك} إنما ذلك في النفقة وكذا رواه ابن مردويه من طريق أبي بكر بن عياش وعلي بن صالح, عن أبي إسحاق, عن البراء به. ثم قال ابن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد, حدثنا أحمد بن النضر العسكري, حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجرمي, حدثنا محمد بن حمير, حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق, عن البراء, قال: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين} الاَية, قال لأصحابه: «وقد أمرني ربي بالقتال فقاتلوا» حديث غريب.
وقوله: {وحرض المؤمنين} أي على القتال ورغبهم فيه وشجعهم عليه, كما قال لهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهو يسوي الصفوف: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك, فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آمن بالله ورسوله, وأقام الصلاة وآتى الزكاة, وصام رمضان, كان حقاً على الله أن يدخله الجنة, هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها». قالوا: يا رسول الله أفلا نبشر الناس بذلك ؟ فقال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبييل الله, بين كل درجتين كما بين السماء والأرض, فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة, وأعلى الجنة, وفوقه عرش الرحمن, ومنه تفجر أنهار الجنة» وري من حديث عبادة ومعاذ وأبي الدرداء, نحو ذلك. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا سعيد, من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً, وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ونبياً, وجبت له الجنة», قال: فعجب لها أبو سعيد, فقال: أعدها عليّ يا رسول الله, ففعل, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأخرى يرفع الله العبد بها مائة درجة في الجنة, ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض». قال: وما هي يا رسول الله ؟ قال: «الجهاد في سبيل الله», رواه مسلم. وقوله: {عسى الله أن يكف بأس الذين كفرو} أي بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء. ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله, ومقاومتهم ومصابرتهم. وقوله تعالى: {والله أشد بأساً وأشد تنكيل} أي هو قادر عليهم في الدنيا والاَخرة كما قال تعالى: {ذلك ولو يشاء الله لا نتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض} الاَية.
وقوله: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منه} أي من يسعى في أمر فيترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك, {ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منه} اي يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته, كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم, أنه قال: «اشفعوا تؤجروا, ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء», وقال مجاهد بن جبر: نزلت هذه الاَية في شفاعات الناس بعضهم لبعض. وقال الحسن البصري: قال الله تعالى: {من يشفع} ولم يقل من يشفّع, وقوله: {وكان الله على كل شيء مقيت}. قال ابن عباس وعطاء وعطية وقتادة ومطر الوارق {مقيت} أي حفيظاً. وقال مجاهد: شهيداً, وفي رواية عنه: حسيباً. وقال سعيد بن جبير والسدي وابن زيد: قديراً. وقال عبد الله بن كثير: المقيت الواصب, وقال الضحاك المقيت الرزاق, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الرحيم بن مطرف, حدثنا عيسى بن يونس عن إسماعيل عن رجل. عن عبد الله بن رواحة, وسأله رجل عن قول الله تعالى: {وكان الله على كل شيء مقيت} قال: مقيت لكل إنسان بقدر عمله.
وقوله: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوه} أي إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم, أو ردوا عليه بمثل ما سلم, فالزيادة مندوبة, والمماثلة مفروضة, قال ابن جرير: حدثنا موسى بن سهل الرملي, حدثنا عبد الله بن السري الأنطاكي, حدثنا هشام بن لاحق عن عاصم الأحول, عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان الفارسي, قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله, فقال: «وعليك السلام ورحمة الله», ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله¹ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته»¹ ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته, فقال له: «وعليك», فقال له الرجل: يا نبي الله, بأبي أنت وأمي, أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت عليّ فقال: «إنك لم تدع لنا شيئاً, قال الله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوه} فرددناها عليك», وهكذا رواه ابن أبي حاتم معلقاً, فقال: ذكر عن أحمد بن الحسن الترمذي حدثنا عبد الله بن السري أبو محمد الأنطاكي, قال أبو الحسن, وكان رجلاً صالحاً: حدثنا هشام بن لاحق فذكره بإسناده مثله, ورواه أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن قانع, حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثنا أبي, حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان فذكره مثله, ولم أره في المسند, والله أعلم.
وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة, السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, إذ لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كثير أخو سليمان عن كثير, حدثنا جعفر بن سليمان بن عوف, عن أبي رجاء العطاردي, عن عمران بن حصين أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: السلام عليكم يا رسول الله فرد عليه ثم جلس فقال: «عشر», ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله يا رسول الله, فرد عليه ثم جلس, فقال: «عشرون», ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, فرد عليه, ثم جلس فقال: «ثلاثون», وكذا رواه أبو داود عن محمد بن كثير وأخرجه الترمذي والنسائي والبزار من حديثه, ثم قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حنيف, وقال البزار: قد روي هذا عن البني صلى الله عليه وسلم من وجوه هذا أحسنها إسناداً وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي, حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن الحسن بن صالح, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسياً, ذلك بأن الله يقول: فحيوا بأحسن منها أو ردوها, وقال قتادة: فحيوا بأحسن منها, يعني للمسلمين, أو ردوها يعني لأهل الذمة, وهذا التنزيل فيه نظر كما تقدم في الحديث من أن المراد أن يرد بأحسن مما حياه به, فإن بلغ المسلم غاية ما شرع في السلام, رد عليه مثل ما قال, فأما أهل الذمة فلا يبدؤون بالسلام ولا يزادون, بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم, فقل: وعليك» في صحيح مسلم عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه». وقال سفيان الثوري, عن رجل, عن الحسن البصري, قال: السلام تطوع والرد فريضة, وهذا الذي قال هو قول العلماء قاطبة, أن الرد واجب على من سلم عليه, فيأثم إن لم يفعل, لأنه خالف أمر الله في قوله: فحيوا بأحسن منها أو ردوها وقد جاء في الحديث الذي رواه (أبو داود بسنده إلى أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده, لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنواو ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم»).
وقوله: { الله لا إله إلا هو} إخبار بتوحيده وتفرده بالإلهية لجميع المخلوقات وتضمن قسماً لقوله: {ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} وهذه اللام موطئة للقسم, فقوله الله لا إله إلا هو خبر وقسم أنه سيجمع الأولين والاَخرين في صعيد واحد, فيجازي كل عامل بعمله, وقوله تعالى: {ومن أصدق من الله حديث} أي لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره ووعده ووعيده, فلا إله إلا هو ولا رب سواه.