تفسير الطبري تفسير الصفحة 91 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 91
092
090
 الآية : 80
القول في تأويل قوله تعالى: {مّنْ يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلّىَ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً }..
وهذا إعذار من الله إلى خلقه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, يقول الله تعالى ذكره لهم: من يطع منكم أيها الناس محمدا, فقد أطاعني بطاعته إياه, فاسمعوا قوله, وأطيعوا أمره, فإنه مهما يأمركم به من شيء فمن أمري يأمركم, وما نهاكم عنه من شيء فمن نهيـي, فلا يقولن أحدكم: إنما محمد بشر مثلنا يريد أن يتفضل علينا! ثم قال جل ثناؤه لنبيه: ومن تولى عن طاعتك يا محمد, فأعرض عنه, فإنا لم نرسلك عليهم حفيظا, يعني حافظا لما يعملون محاسبا, بل إنما أرسلناك لتبين لهم ما نزل إليهم, وكفى بنا حافظين لأعمالهم ولهم عليها محاسبين. ونزلت هذه الاَية فيما ذكر قبل أن يؤمر بالجهاد. كما:
7979ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سألت ابن زيد عن قول الله: {فَمَا أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظ} قال: هذا أول ما بعثه, قال: {إنْ عَلَيْكَ إلاّ البَلاغُ}, قال: ثم جاء بعد هذا يأمره بجهادهم والغلظة حتى يسلموا.
الآية : 81
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيّتَ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه بقوله: {وَيَقُولُونَ طاعَةٌ} يعني: الفريق الذي أخبر الله عنهم أنهم لما كتب عليهم القتال, خشوا الناس كخشية الله وأشدّ خشية, يقولون لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر: أمرك طاعة, ولك منا طاعة فيما تأمرنا به وتنهانا عنه! {فَإذَا بَرزُوا مِنْ عِنْدِكَ} يقول: فإذا خرجوا من عندك يا محمد {بيّتَ طائفةٌ منهمْ غيرَ الذِي تقولُ} يعني بذلك جلّ ثناؤه: غيّر جماعة منهم ليلاً الذي تقول لهم. وكلّ عَمل عُمل ليلاً فقد بُيّت, ومن ذلك بَيّتَ العدوّ وهو الوقوع بهم ليلاً, ومنه قول عبيدة ابن همام:
أتَوْنِي فَلَمْ أرْضَ ما بَيّتُواوكانُوا أتَوْنِي بِشَيْءٍ نُكُرْ
لاِنْكِحَ أيّمَهُمْ مُنْذِراوَهلْ يُنْكِحُ العَبْدَ حُرّ لِحُرّ
يعني بقوله: «فلم أرض ما بيتوا ليلاً»: أي ما أبرموه ليلاً وعزموا عليه. ومنه قول النمر بن تولب العكليّ:
هَبّتْ لِتَعْذُلَنِي بلَيْلٍ اسْمَعِ!سَفَها تُبَيّتُكِ المَلامةُ فاهْجَعي!
يقول الله جلّ ثناؤه: {وَاللّه يَكْتُبُ ما يُبَيّتُونَ} يعني بذلك جلّ ثناؤه: والله يكتب ما يغيرون من قولك ليلاً في كتب أعمالهم التي تكتبها حفظته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
7980ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ} قال: يغيرون ما عهد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
7981ـ حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع, قال: حدثنا يوسف بن خالد, قال: حدثنا نافع بن مالك, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: {بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ} قال: غيّر أولئك ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم.
7982ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثني أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ} قال: غيّر أولئك ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم.
حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيّتُونَ} قال: هؤلاء المنافقون الذين يقولون إذا حضروا النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأمر قالوا: طاعة, فإذا خرجوا من عنده غيّرت طائفة منهم ما يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم. {وَاللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيّتُونَ} يقول: ما يقولون.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس: قوله: {وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ} قال: يغيّرون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7983ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: {وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ} وهم ناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنا بالله ورسوله ليأمنوا على دمائهم وأموالهم, فإذا برزوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خالفوا إلى غير ما قالوا عنده¹ فعابهم الله, فقال: {بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ} يقول: يغيّرون ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم.
7984ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ}: هم أهل النفاق.
وأما رفع «طاعة» فإنه بالمتروك الذي دلّ عليه الظاهر من القول, وهو: أمرك طاعة, أو منا طاعة. وأما قوله: {بَيّتَ طائِفَةٌ} فإن التاء من بيّت تحركها بالفتح عامة قراء المدينة والعراق وسائر القراء, لأنها لام فعل. وكان بعض قراء العراق يسكنها ثم يدغمها في الطاء لمقاربتها في المخرج.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك, ترك الإدغام, لأنها ـ أعني التاء والطاء من حرفين مختلفين¹ وإذا كان كذلك كان ترك الإدغام أفصح اللغتين عند العرب, واللغة الأخرى جائزة ـ أعني الإدغام في ذلك محكية.
القول في تأويل قوله تعالى: {فأعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ على اللّهِ وكَفَى باللّهِ وَكِيل}.
يقول جلّ ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم: فأعرض يا محمد عن هؤلاء المنافقين الذين يقولون لك فيما تأمرهم: أمرك طاعة, فإذا برزوا من عندك خالفوا ما أمرتهم به وغيّروه إلى ما نهيتهم عنه, وخلّهم وما هم عليه من الضلالة, وارض لهم بي منتقما منهم, وتوكل أنت يا محمد على الله. يقول: أي وحسبك بالله وكيلاً: أي فيما يأمرك, ووليّا لها, ودافعا عنك وناصرا.
الآية : 82
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {أفَلا يَتَدَبّرُونَ القُرآنَ} أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم يا محمد كتاب الله, فيعلموا حجة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك, وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم, لاتساق معانيه وائتلاف أحكامه وتأييد بعضه بعضا بالتصديق, وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق¹ فإن ذلك لو كان من عند غَير الله لاختلفت أحكامه وتناقضت معانيه وأبان بعضه عن فساد بعض. كما:
7985ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {أفَلا يَتَدَبّرُونَ القُرآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غيرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافا كَثِير}: أي قول الله لا يختلف, وهو حقّ ليس فيه باطل, وإن قول الناس يختلف.
7986ـ حدثني يونس,قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: إن القرآن لا يكذّب بعضه بعضا, ولا ينقض بعضه بعضا, ما جهل الناس من أمره فإنما هو من تقصير عقولهم وجهالتهم. وقرأ: {وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غيرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافا كَثِير} قال: فحقّ على المؤمن أن يقول: كلّ من عند الله, ويؤمن بالمتشابه, ولا يضرب بعضه ببعض¹ وإذا جهل أمرا ولم يعرف أن يقول: الذي قال الله حقّ, ويعرف أن الله تعالى لم يقل قولاً وينقضه, ينبغي أن يؤمن بحقية ما جاء من الله.
7987ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, قوله: {أفلا يَتدبّرون القرآن} قال: يتدبرون النظر فيه.
الآية : 83
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَىَ أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ إِلاّ قَلِيلاً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِه} وإذا جاء هذه الطائفة المبيتة غير الذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من الأمن. فالهاء والميم في قوله: {وَإذَا جاءَهُمْ} من ذكر الطائفة المبيتة. يقول جلّ ثناؤه: وإذا جاءهم خبر عن سرية للمسلمين غازية بأنهم قد أمنوا من عدوّهم بغلبتهم إياهم {أو الخَوْفِ} يقول: أو تخّوفهم من عدوّهم بإصابة عدوّهم منهم {أذَاعُوا بِهِ} يقول: أفشوه وبثوه في الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أمراء سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم. والهاء في قوله: {أذَاعُوا بِهِ} من ذكر الأمر وتأويله: أذاعوا بالأمر من الأمن أو الخوف الذي جاءهم, يقال: منه أذاع فلان بهذا الخبر وأذاعه, ومنه قول أبي الأسود:
أذَاعَ بِه في النّاسِ حتى كأنّهُبعَلْياءَ نارٌ أُوقِدَتْ بثَقُوبِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
7988ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ} يقول: سارعوا به وأفشوه.
7989ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ} يقول: إذا جاءهم أمر أنهم قد أمنوا من عدوّهم, أو أنهم خائفون منهم, أذاعوا بالحديث حتى يبلغ عدوّهم أمرهم.
7990ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: {وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ} يقول: أفشوه وشنعوا به.
7991ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: {وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ} قال: هذا في الأخبار إذا غزت سرية من المسلمين خُبّر الناس عنها, فقالوا: أصاب المسلمون من عدوّهم كذا وكذا, وأصاب العدوّ من المسلمين كذا وكذا. فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يخبرهم به. قال ابن جريج: قال ابن عباس: قوله {أذَعُوا بِهِ} قال: أعلنوه وأفشوه.
7992ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {أذَاعُوا بِهِ} قال: نشروه. قال: والذين أذاعوا به قوم, إما منافقون, وإما آخرون ضعفاء.
7993ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أفْشَوْه وشنعوا به, وهم أهل النفاق.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: ولو ردّوه: الأمر الذي نالهم من عدوّهم والمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإلى أولي أمرهم, يعني: وإلى أمرائهم, وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم من الخبر, حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ذوو أمرهم هم الذين يقولون الخبر عن ذلك, بعد أن ثبتت عندهم صحته أو بُطُوله, فيصححوه إن كان صحيحا, أو يبطلوه إن كان باطلاً. {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} يقول: لعلم حقيقة ذلك الخبر الذي جاءهم به الذين يبحثون عنه, ويستخرجونه منهم, يعني: أولي الأمر. والهاء والميم في قوله: {مِنْهُمْ} من ذكر أولي الأمر. يقول: لعلم ذلك من أولي الأمر من يستنبطه. وكل مستخرج شيئا كان مستترا عن أبصار العيون أو عن معارف القلوب, فهو له مستنبط, يقال: استنبطت الركية: إذا استخرجت ماءها, ونَبَطتها أنبطها, والنبط: الماء المستنبط من الأرض, ومنه قول الشاعر:
قَرِيبٌ ثراهُ ما يَنالُ عَدُوّهُلَهُ نَبَطا آبي الهَوَانِ قَطُوبُ
يعني بالنبط: الماء المستنبط.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
7994ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ} يقول: ولو سكتوا وردّوا الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وإلى أولى أمرهم حتى يتكلم هو به, {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} يعني عن الأخبار, وهم الذين ينقّرون عن الأخبار.
7995ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ} يقول: إلى علمائهم, {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} لعلمه الذين يَفْحصُون عنه, ويهمهم ذلك.
7996ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: {وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ} حتى يكون هو الذي يخبرهم, {وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ}: أولي الفقه في الدين والعقل.
7997ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن أبي جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: {وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}: يتتبعونه ويتحسسونه.
7998ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: أخبرنا ليث, عن مجاهد: {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} قال: الذين يسألون عنه ويتحسسونه.
7999ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: {يَسْتَنْبِطُونَهُ} قال: قولهم: ما كان؟ ماذا سمعتم؟
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن أبي جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: {الّذِينَ يسْتَنبِطونَهُ} قال: يتحسسونه.
8000ـ حدثني محمد بن سيعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: حدثني أبي, عن أبيه عن ابن عباس: {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} يقول: لعلمه الذين يتحسسونه منهم.
8001ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} قال: يتتبعونه.
8002ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ أذَاعُوا بِه}... حتى بلغ: {وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ} قال: الولاة الذين يكونون في الحرب عليهم الذين يتفكرون فينظرون لما جاءهم من الخبر أصدق أم كذب؟ أباطل فيبطلونه, أو حقّ فيحقونه؟ قال: وهذا في الحرب, وقرأ: {أذَاعُوا بِهِ وَلَوْ} فعلوا غير هذا و{رَدّوهُ} إلى الله و{إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ}... الاَية.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيل}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ولولا إنعام الله عليكم أيها المؤمنون بفضله وتوفيقه ورحمته, فأنقذكم مما ابتلى هؤلاء المنافقين به, الذين يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر: طاعة, فإذا برزوا من عنده بيّت طائفة منهم غير الذي تقول, لكنتم مثلهم, فاتبعتم الشيطان إلا قليلاً, كما اتبعه الذين وصف صفتهم. وخاطب بقوله تعالى ذكره: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ} الذين خاطبهم بقوله جلّ ثناؤه: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فانْفِرُوا ثُباتٍ أوِ انْفِرُوا جَمِيع}.
ثم اختلف أهل التأويل في القليل الذي استثناهم في هذه الاَية, من هم, ومن أيّ شيء من الصفات استثناهم؟ فقال بعضهم: هم المستنبطون من أولي الأمر, استثناهم من قوله: {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ونفي عنهم أن يعلموا بالاستنباط ما يعلم به غيرهم من المستنبطين من الخبر الوارد عليهم من الأمن أو الخوف. ذكر من قال ذلك:
8003ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: إنما هو لعلمه الذين يستنبطونه منهم, إلا قليلاً منهم, ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان.
8004ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيل} يقول: لاتبعتم الشيطان كلكم. وأما قوله: {إلاّ قَلِيل} فهو كقوله: {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} إلا قليلاً.
حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد, عن قتادة: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيل} قال: يقول: لاتبعتم الشيطان كلكم¹ وأما {إلاّ قَلِيل} فهو كقوله: {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ... إلاّ قَلِيل}.
8005ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج نحوه, يعني نحو قول قتادة, وقال: لعلموه إلا قليلاً.
وقال آخرون: بل هم الطائفة الذين وصفهم الله أنهم يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة, فإذا برزوا من عنده بيتوا غير الذي قالوا. ومعنى الكلام: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به, إلا قليلاً منهم. ذكر من قال ذلك:
8006ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ} فانقطع الكلام, وقوله: {إلاّ قَلِيل} فهو في أوّل الاَية يخبر عن المنافقين, قال: {وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذَاعُوا بِهِ} إلا قليلاً, يعني بالقليل المؤمنين, يقول الحَمْدُ لله الّذِي أنْزَلَ الكِتَابَ عدلاً قِيما, ولم يجعل له عوجا.
8007ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: هذه الاَية مقدمة ومؤخرة, إنما هي: أذاعوا به إلا قليلاً منهم, ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير.
وقال آخرون: بل ذلك استثناء من قوله: {لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ} وقالوا: الذين استثنوا هم قوم لم يكونوا همّوا بما كان الاَخرون همّوا به من اتباع الشيطان, فعرّف الله الذين أنقذهم من ذلك موقع نعمته منهم, واستثنى الاَخرين الذين لم يكن منهم في ذلك ما كان من الاَخرين. ذكر من قال ذلك:
8008ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان, قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيل} قال: هم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم, كانوا حدثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان, إلا طائفة منهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعا. قالوا: وقوله: {إلاّ قَلِيل} خرج مخرج الاستثناء في اللفظ, وهو دليل على الجميع والإحاطة, وأنه لولا فضل الله عليهم ورحمته لم ينج أحد من الضلالة, فجعل قوله: {إلاّ قَليل} دليلاً على الإحاطة. واستشهدوا على ذلك بقول الطرماح بن حكيم في مدح يزيد بن المهلب:
أشمّ كثيرُ يَدِيّ النّوالِقليلُ المَثالِبِ والقادِحَهْ
قالوا: فظاهر هذا القول وصف الممدوح بأن فيه المثالب والمعايب, ومعلوم أن معناه: أنه لا مثالب فيه ولا معايب¹ لأن من وصف رجلاً بأن فيه معايب وإن وصف الذي فيه المعايب بالقلة, فإنما ذمه ولم يمدحه, ولكن ذلك على ما وصفنا من نفي جميع المعايب عنه. قالوا: فكذلك قوله: {لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيل} إنما معناه: لاتبعتم جميعكم الشيطان.
وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي قول من قال: عنى باستثناء القليل من الإذاعة¹ وقال: معنى الكلام: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلاً, ولو ردّوه إلى الرسول.
وإنما قلنا: إن ذلك أولى بالصواب لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد الأقوال التي ذكرنا, وغير جائز أن يكون من قول: {لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ} لأن من تفضل الله عليه بفضله ورحمته فغير جائز أن يكون من تباع الشيطان, وغير جائز أن نحمل معاني كتاب الله على غير الأغلب المفهوم بالظاهر من الخطاب في كلام العرب, ولنا إلى حمل ذلك على الأغلب من كلام العرب سبيل فنوجّهه إلى المعنى الذي وجهه إليه القائلون: معنى ذلك: لاتبعتم الشيطان جميعا, ثم زعم أن قوله: {إلاّ قَلِيل} دليل على الإحاطة بالجميع. هذا مع خروجه من تأويل أهل التأويل لا وجه له, وكذلك لا وجه لتوجيه ذلك إلى الاستثناء من قوله: {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} لأن علم ذلك إذا ردّ إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم, فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولو الأمر منهم بعد وضوحه لهم, استوى في علم ذلك كل مستنبط حقيقة, فلا وجه لاستثناء بعض المستنبطين منهم وخصوص بعضهم بعلمه مع استواء جميعهم في علمه. وإذ كان لا قول في ذلك إلا ما قلنا, ودخل هذه الأقوال الثلاثة ما بينا من الخلل, فبّين أن الصحيح من القول في ذلك هو الرابع, وهو القول الذي قضينا له بالصواب من الاستثناء من الإذاعة.
الآية : 84
القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَحَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفّ بَأْسَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدّ بَأْساً وَأَشَدّ تَنكِيلاً }..
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {فقَاتِلْ في سَبِيلِ الله لا تُكَلّفُ إلاّ نَفْسَكَ}: فجاهد يا محمد أعداء الله من أهل الشرك به في سبيل الله, يعني: في دينه الذي شرعه لك, وهو الإسلام, وقاتلهم فيه بنفسك. فأما قوله: {لا تُكَلّفُ إلاّ نَفْسَكَ} فإنه يعني: لا يكلفك الله فيما فرض عليك من جهاد عدوّه وعدوّك, إلا ما حملك من ذلك دون ما حمل غيرك منه: أي إنك إنما تتبع بما اكتسبته دون ما اكتسبه غيرك, وإنما عليك ما كلفته دون ما كلفه غيرك. ثم قال له: {وَحَرّضِ المُؤْمِنِينَ} يعني: وحضهم على قتال من أمرتك بقتالهم معك. {عَسَى اللّهُ أنْ يَكُفّ بَأْسَ الّذِينَ كَفَرُو} يقول: لعلّ الله أن يكفّ قتال من كفر بالله وجحد وحدانيته, وأنكر رسالتك عنك وعنهم ونكايتهم. وقد بينا فيما مضى أن «عسى» من الله واجبة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. {واللّهُ أشَدّ بَأْسا وأشَدّ تَنْكِيل} يقول: والله أشدّ نكاية في عدوّه من أهل الكفر به منهم فيك يا محمد وفي أصحابك, فلا تنكُلَنّ عن قتالهم, فإني راصدهم بالبأس والنكاية والتنكيل والعقوبة, لأوهن كيدهم وأضعف بأسهم وأعلي الحقّ عليهم. والتنكيل مصدر من قول القائل: نكلت بفلان, فأنا أنكّل به تنكيلاً: أذا أوجعته عقوبة. كما:
8009ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وأشَدّ تَنْكِيل}: أي عقوبة.
الآية : 85
القول في تأويل قوله تعالى: {مّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيّئَةً يَكُنْ لّهُ كِفْلٌ مّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ مّقِيتاً }..
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْه} من يَصِرْ يا محمد شفعا لوتر أصحابك, فيشفعهم في جهاد عدوّهم وقتالهم في سبيل الله¹ وهو الشفاعة الحسنة {يَكُنْ له نَصِيبٌ مِنْه} يقوله: يكن له من شفاعته تلك نصيب, وهو الحظّ من ثواب الله, وجزيل كرامته. {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيّئَةً} يقول: ومن يشفع وتر أهل الكفر بالله على المؤمنين به, فيقاتلهم معهم, وذلك هو الشفاعة السيئة {يَكُنْ له كِفْلٌ مِنْه} يعني: بالكفل النصيب والحظّ من الوزر والإثم. وهو مأخوذ من كِفْل البعير والمركب, وهو الكساء أو الشيء يهيأ عليه شبيه بالسرج على الدابة, يقال منه: جاء فلان مكتفلاً: إذا جاء على مركب قد وُطّىءَ له على ما بينا لركوبه. وقد قيل: إنه عنى بقوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْه}... الاَية, شفاعة الناس بعضهم لبعض. وغير مستنكر أن تكون الاَية نزلت فيما ذكرنا, ثم عمّ بذلك كل شافع بخير أو شرّ.
وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك لأنه في سياق الاَية التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بحضّ المؤمنين على القتال, فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, والوعيد لمن أبى إجابته أشبه منه من الحثّ على شفاعة الناس بعضهم لبعض التي لم يجر لها ذكر قبل ولا لها ذكر بعد. ذكر من قال ذلك في شفاعة الناس بعضهم لبعض:
8010ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيّئَةً} قال: شفاعة بعض الناس لبعض.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
8011ـ حُدثت عن ابن مهدي, عن حماد بن سلمة, عن حميد, عن الحسن, قال: من يُشَفّع شفاعة حسنة كان له فيها أجران, ولأن الله يقول: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْه} ولم يقل: يُشَفّع.
8012ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن الحسن, قال: من يشفع شفاعة حسنة كتب له أجرها ما جرت منفعتها.
8013ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سئل ابن زيد, عن قول الله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْه} قال: الشفاعة الصالحة التي يشفع فيها وعمل بها هي بينك وبينه هما فيها شريكان. {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْه} قال: هما شريكان فيها كما كان أهلها شريكين. ذكر من قال ذلك: الكفل النصيب:
8014ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْه}: أي حظّ منها. {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْه} والكفل: هو الإثم.
8015ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْه} أما الكفل: فالحظّ.
8016ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْه} قال: حظّ منها, فبئس الحظّ.
8017ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الكفل والنصيب واحد. وقرأ: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}.
القول في تأويل قوله تعالى: {وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيت}.
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيت} فقال بعضهم: تأويله: وكان الله على كل شيء حفيظا وشهيدا. ذكر من قال ذلك:
8018ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس: {وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيت} يقول: حفيظا.
8019ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {مُقِيت} شهيدا.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل اسمه مجاهد, عن مجاهد, مثله.
8020ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: {مُقِيت} قال: شهيدا, حسيبا, حفيظا.
8021ـ حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم, قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك, قال: حدثنا أبي, عن خصيف, عن مجاهد أبي الحجاج: {وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيت} قال: المقيت: الحسيب.
وقال آخرون: معنى ذلك: القائم على كل شيء بالتدبير. ذكر من قال ذلك:
8022ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال عبد الله بن كثير: {وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيت} قال: المقيت: الواصب.
وقال آخرون: هو القدير. ذكر من قال ذلك:
8023ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيت} أما المقيت: فالقدير.
8024ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيت} قال: على كل شيء قديرا. المقيت: القدير.
قال أبو جعفر: والصواب من هذه الأقوال, قول من قال: معنى المقيت: القدير, وذلك أن ذلك فيما يذكر كذلك بلغة قريش, وينشد للزبير بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النّفسَ عنْهُوكُنْتُ على مَساءَتِهِ مُقيتا
أي قديرا. وقد قيل: إن منه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بالمَرْءِ إثْما أنْ يُضَيّعَ مَنْ يُقِيتُ» في رواية من رواها: «يُقيت»: يعني من هو تحت يديه في سلطانه من أهله وعياله, فيقدر له قوته. يقال منه: أقات فلان الشيء يقتيه إقاتة, وقاته يقوته قياتة وقُوتا, والقوت الاسم. وأما المُقِيتُ في بيت اليهودي الذي يقول فيه:
لَيْتَ شِعْرِي وأشْعُرَنّ إذَا مَاقَرّبُوها مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ
ألِيَ الفَضْلُ أمْ عَليّ إذَا حُوسِبْتُ إنّي على الحِسابِ مُقِيتُ
فإن معناه: فإني على الحساب موقوف, وهو من غير هذا المعنى.
الآية : 86
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدّوهَآ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ حَسِيباً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ}: إذا دعي لكم بطول الحياة والبقاء والسلامة. {فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْرُدّوه} يقول: فادعوا لمن دعا لكم بذلك بأحسن مما دعا لكم, {أوْرُدّوه} يقول: أوردّوا التحية.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة التحية التي هي أحسن مما حيا به المحيـى, والتي هي مثلها, فقال بعضهم: التي هي أحسن منها أن يقول المسلّم عليه إذا قيل: «السلام عليكم»: وعليكم السلام ورحمة الله, ويزيد على دعاء الداعي له¹ والردّ أن يقول: السلام عليكم مثلها, كما قيل له, أو يقول: وعليكم السلام, فيدعو للداعي له مثل الذي دعا له. ذكر من قال ذلك:
8025ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوه} يقول: إذا سلم عليك أحد, فقل أنت: «وعليك السلام ورحمة الله», أو تقطع إلى «السلام عليك», كما قال لك.
8026ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء, قوله: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوه} قال: في أهل الإسلام.
8027ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج فيما قرىء عليه, عن عطاء, قال: في أهل الإسلام.
8028ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن شريح, أنه كان يردّ: «السلام عليكم», كما يسلم عليه.
8029ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن ابن عون وإسماعيل بن أبي خالد, عن إبراهيم, أنه كان يردّ: السلام عليكم ورحمة الله.
8030ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن عطية, عن ابن عمر أنه كان يردّ: وعليكم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فحيوا بأحسن منها أهل الإسلام, أو ردّوها على أهل الكفر. ذكر من قال ذلك:
8031ـ حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد, قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن الحسن بن صالح, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: من سلم عليك من خلق الله, فاردد عليه وإن كان مجوسيّا, فإن الله يقول: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوه}.
8032ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا سالم بن نوح, قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, في قوله: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْه} للمسلمين, {أوْ رُدّوه} على أهل الكتاب.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْه} للمسلمين, {أوْ رُدّوه} على أهل الكتاب.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْه} يقول: حيوا أحسن منها: أي على المسلمين {أوْ رُدّوه} أي على أهل الكتاب.
8033ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال ابن زيد في قوله: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوه} قال: قال أبي: حقّ على كل مسلم حُيّـي بتحية أن يحيـي بأحسن منها, وإذا حياه غير أهل الإسلام أن يردّ عليه مثل ما قال.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الاَية قول من قال ذلك في أهل الإسلام, ووجه معناه إلى أنه يردّ السلام على المسلم إذا حياه تحية أحسن من تحيته أو مثلها. وذلك أن الصحاح من الاَثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه واجب على كل مسلم ردّ تحية كل كافر أحسن من تحيته, وقد أمر الله بردّ الأحسن¹ والمثل في هذه الاَية من غير تمييز منه بين المستوجب ردّ الأحسن من تحيته عليه والمردود عليه مثلها بدلالة يعلم بها صحة قول من قال: عنى بردّ الأحسن المسلم, وبردّ المثل: أهل الكفر.
والصواب إذْ لم يكن في الاَية دلالة على صحة ذلك ولا بصحته أثر لازم عن الرسول صلى الله عليه وسلم, أن يكون الخيار في ذلك إلى المسلّم عليه بين ردّ الأحسن أو المثل إلا في الموضع الذي خصّ شيئا من ذلك سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيكون مسلما لها. وقد خصت السنة أهل الكفر بالنهي عن ردّ الأحسن من تحيتهم عليهم أو مثلها, إلا بأن يقال: «وعليكم», فلا ينبغي لأحد أن يتعدّى ما حدّ في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما أهل الإسلام, فإن لمن سلم عليه منهم في الردّ من الخيار ما جعل الله له من ذلك. وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويل ذلك بنحو الذي قلنا خبر¹ وذلك ما:
8034ـ حدثني موسى بن سهل الرملي, قال: حدثنا عبد الله بن السريّ الأنطاكي, قال: حدثنا هشام بن لاحق, عن عاصم الأحول, عن أبي عثمان النهديّ, عن سلمان الفارسي, قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: السلام عليك يا رسول الله! فقال: «وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللّهِ!». ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله! فقال له رسول الله: «وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكاتُهُ!». ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته! فقال له: «وَعَلَيْكَ!» فقال له الرجل: يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي, أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت عليّ؟ فقال: «أنّكَ لَمْ تَدَعْ لَنا شَيْئا, قال الله {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوه} فرددناها عَلَيْكَ».
فإت قال قائل: أفواجب ردّ التحية على ما أمر الله به في كتابه؟ قيل: نعم, وبه كان يقول جماعة من المتقدمين. ذكر من قال ذلك:
8035ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج, قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: ما رأيته إلا يوجبه قوله: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوه}.
8036ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, عن رجل, عن الحسن, قال: السلام: تطوّع, والردّ فريضة.
القول في تأويل قوله تعالى: {أنّ اللّهَ كانَ على كُلّ شَيْءٍ حَسِيب}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: إن الله كان على كل شيء مما تعملون أيها الناس من الأعمال من طاعة ومعصية حفيظا عليكم, حتى يجازيكم بها جزاءه. كما:
8037ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: حسيبا, قال: حفيظا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
وأصل الحسيب في هذا الموضع عندي فَعِيل من الحساب الذي هو في معنى الإحصاء, يقال منه: حاسبت فلانا على كذا وكذا, وفلان حاسبه على كذا وهو حسيبه, وذلك إذا كان صاحب حسابه. وقد زعم بعض أهل البصرة من أهل اللغة أن معنى الحسيب في هذا الموضع: الكافي, يقال منه: أحسبني الشيء يُحسبني أحسابا, بمعنى: كفاني, من قولهم: حسبي كذا وكذا. وهذا غلط من القول وخطأ, وذلك أنه لا يقال في أحسبت الشيء: أحسبت على الشيء فهو حسيب عليه, وإنما يقال: هو حسبه وحسيبه, والله يقول: {إنّ اللّهَ كانَ على كُلّ شَيْءٍ حَسِيب}