تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 91 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 91

91- تفسير الصفحة رقم91 من المصحف
الآية: 80 {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظ}
قوله تعالى: "من يطع الرسول فقد أطاع الله" أعلم الله تعالى أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة له. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن يعصني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني ) في رواية. (ومن أطاع أميري، ومن عصى أميري ).
قوله تعالى: "ومن تولى" أي أعرض "فما أرسلناك عليهم حفيظا" أي حافظا ورقيبا لأعمالهم، إنما عليك البلاغ. وقال القتبي: محاسبا؛ فنسخ الله هذا بآية السيف وأمره بقتال من خالف الله ورسوله.
الآيتان: 81 - 82 {ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا، أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثير}
قوله تعالى: "ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون" أي أمرنا طاعة، ويجوز "طاعة" بالنصب، أي نطيع طاعة، وهي قراءة نصر بن عاصم والحسن والجحدري. وهذا في المنافقين في قول أكثر المفسرين؛ أي يقولون إذا كانوا عندك: أمرنا طاعة، أو نطيع طاعة، وقولهم هذا ليس بنافع؛ لأن من لم يعتقد الطاعة ليس بمطيع حقيقة، لأن الله تعالى لم يحقق طاعتهم بما أظهروه، فلو كانت الطاعة بلا اعتقاد حقيقة لحكم بها لهم؛ فثبت أن الطاعة بالاعتقاد مع وجودها. "فإذا برزوا" أي خرجوا "من عندك بيت طائفة منهم" فذكر الطائفة لأنها في معنى رجال. وأدغم الكوفيون التاء في الطاء؛ لأنهما من مخرج واحد، واستقبح ذلك الكسائي في الفعل وهو عند البصريين غير. قبيح. ومعنى "بيت "زور وموه. وقيل: غير وبدل وحرف؛ أي بدلوا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما عهده إليهم وأمرهم به.. والتبييت التبديل؛ ومنه قول الشاعر:
أتوني فلم أرض ما بيتوا وكانوا أتوني بأمر نكر
لأنكح أيمهم منذرا وهل ينكح العبد حر لحر
آخر:
بيت قولي عبدالمليـ ـك قاتله الله عبدا كفورا
وبيت الرجل الأمر إذا دبر ليلا؛ قال الله تعالى: "إذ يبيتون ما لا يرضى من القول "[النساء: 108]. والعرب تقول: أمر بيت بليل إذا أحكم. وإنما خص الليل بذلك لأنه وقت يتفرغ فيه. قال الشاعر:
أجمعوا أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
ومن هذا بيت الصيام. والبيوت: الماء يبيت ليلا. والبيوت: الأمر يبيت عليه صاحبه مهتما به؛ قال الهذلي:
وأجعل فقرتها عدة إذا خفت بيوت أمر عضال
والتبييت والبيات أن يأتي العدو ليلا. وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا؛ كما يقال: ظل بالنهار. وبيت الشيء قدر. فإن قيل: فما وجه الحكمة في ابتدائه بذكر جملتهم ثم قال: "بيت طائفة منهم "؟ قيل: إنما عبر عن حال من علم أنه بقي على كفره ونفاقه، وصفح عمن علم أنه سيرجع عن ذلك. وقيل: إنما عبر عن حال من شهد وحار في أمره، وأما من سمع وسكت فلم يذكره. والله أعلم. "والله يكتب ما يبيتون" أي يثبته في صحائف أعمالهم ليجازيهم عليه. وقال الزجاج: المعنى ينزله عليك في الكتاب. وفي هذه الآية دليل على أن مجرد القول لا يفيد شيئا كما ذكرنا؛ فإنهم قالوا: طاعة، ولفظوا بها ولم يحقق الله طاعتهم ولا حكم لهم بصحتها؛ لأنهم لم يعتقدوها. فثبت أنه لا يكون المطيع مطيعا إلا باعتقادها مع وجودها.
قوله تعالى: "فأعرض عنهم" أي لا تخبر بأسمائهم؛ عن الضحاك، يعني المنافقين. وقيل: لا تعاقبهم. "وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا" ثم أمره بالتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه. ويقال: إن هذا منسوخ بقوله تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين "[التوبة: 73]
قوله تعالى: "أفلا يتدبرون القرآن" ثم عاب المنافقين بالإعراض عن التدبر في القرآن والتفكر فيه وفي معانيه. تدبرت الشيء فكرت في عاقبته. وفي الحديث (لا تدابروا ) أي لا يولي بعضكم بعضا دبره. وأدبر القوم مضى أمرهم إلى آخره. والتدبير أن يدبر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته. ودلت هذه الآية وقوله تعالى: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" [محمد: 24] على وجوب التدبر في القرآن ليعرف معناه. فكان في هذا رد على فساد قول من قال: لا يؤخذ من تفسيره إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب. وفيه دليل على الأمر بالنظر والاستدلال وإبطال التقليد، وفيه دليل على إثبات القياس.
قوله تعالى: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" أي تفاوتا وتناقضا؛ عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. ولا يدخل في هذا اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظ الأمثال والدلالات ومقادير السور والآيات. وإنما أراد اختلاف التناقض والتفاوت. وقيل: المعنى لو كان ما تخبرون به من عند غير الله لاختلف. وقيل: إنه ليس من متكلم يتكلم كلاما كثيرا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير؛ إما في الوصف واللفظ؛ وإما في جودة المعنى، وإما في التناقض، وإما في الكذب. فأنزل الله عز وجل القرآن وأمرهم بتدبره؛ لأنهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف ولا ردا له في معنى، ولا تناقضا ولا كذبا فيما يخبرون به من الغيوب وما يسرون.
الآية: 83 {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليل}
قوله تعالى: "وإذا جاءهم أمر من الأمن" في "إذا "معنى الشرط ولا يجازى بها وإن زيدت عليها "ما "وهي قليلة الاستعمال. قال سيبويه. والجيد ما قال كعب بن زهير:
وإذا ما تشاء تبعث منها مغرب الشمس ناشطا مذعورا
يعني أن الجيد لا يجزم بإذا ما كما لم يجزم في هذا البيت، وقد تقدم في أول "البقرة". والمعنى أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم "أو الخوف "وهو ضد هذا "أذاعوا به" أي أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته. فقيل: كان هذا من ضعفة المسلمين؛ عن الحسن؛ لأنهم كانوا يفشون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويظنون أنهم لا شيء عليهم في ذلك. وقال الضحاك وابن زيد: هو في المنافقين فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب في الإرجاف.
قوله تعالى: "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم" أي لم يحدثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به ويفشيه. أو أولو الأمر وهم أهل العلم والفقه؛ عن الحسن وقتادة وغيرهما. السدي وابن زيد: الولاة. وقيل: أمراء السرايا. "لعلمه الذين يستنبطونه منهم" أي يستخرجونه، أي لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه وما ينبغي أن يكتم. والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته. والنبط: الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر. وسمي النبط نبطا لأنهم يستخرجون ما في الأرض. والاستنباط في اللغة الاستخراج، وهو يدل على الاجتهاد إذا عدم النص والإجماع كما تقدم.
قوله تعالى: "ولولا فضل الله عليكم ورحمته" رفع بالابتداء عند سيبويه، ولا يجوز أن يظهر الخبر عنده. والكوفيون يقولون: رفع بلولا. "لاتبعتم الشيطان إلا قليلا" في هذه الآية ثلاثة أقوال؛ قال ابن عباس وغيره: المعنى أذاعوا به إلا قليلا منهم لم يذع ولم يفش. وقاله جماعة من النحويين: الكسائي والأخفش وأبو عبيد وأبو حاتم والطبري. وقيل: المعنى لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا منهم؛ عن الحسن وغيره، واختاره الزجاج قال: لأن هذا الاستنباط الأكثر يعرفه؛ لأنه استعلام خبر. واختار الأول الفراء قال: لأن علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره، والإذاعة تكون في مضى دون بعض. قال الكلبي عنه: فلذلك استحسنت الاستثناء من الإذاعة. قال النحاس: فهذان قولان على المجاز، يريد أن في الكلام تقديما وتأخيرا. وقول ثالث بغير مجاز: يكون المعنى ولولا فضل الله عليكم ورحمته بأن بعث فيكم رسولا أقام فيكم الحجة لكفرتم وأشركتم إلا قليلا منكم فإنه كان يوحد. وفيه قول رابع - قال الضحاك: المعنى لاتبعتم الشيطان إلا قليلا، أي إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حدثوا أنفسهم بأمر من الشيطان إلا قليلا، يعني الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. وعلى هذا القول يكون قوله "إلا قليلا "مستثنى من قوله "لاتبعتم الشيطان". قال المهدوي: وأنكر هذا القول أكثر العلماء، إذ لولا فضل الله ورحمته لاتبع الناس كلهم الشيطان.
الآية: 84 {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيل}
قوله تعالى: "فقاتل في سبيل الله" هذه الفاء متعلقة بقوله "ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما" [النساء: 74] "فقاتل في سبيل الله" أي من أجل هذا فقاتل. وقيل: هي متعلقة بقوله: "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله. فقاتل". كأن هذا المعنى: لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك؛ لأنه وعده بالنصر. قال الزجاج: أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده؛ لأنه قد ضمن له النصرة. قال ابن عطية: "هذا ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجئ في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة مدة ما؛ فالمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه؛ أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له؛ "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك". ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده؛ ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي). وقول أبي بكر وقت الردة: ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي. وقيل: إن هذه الآية نزلت في موسم بدر الصغرى؛ فإن أبا سفيان لما انصرف من أحد واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم موسم بدو الصغرى؛ فلما جاء الميعاد خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا فلم يحضر أبو سفيان ولم يتفق قتال. وهذا على معنى ما قاله مجاهد كما تقدم في "آل عمران". ووجه النظم على هذا والاتصال بما قبل أنه وصف المنافقين بالتخليط وإيقاع الأراجيف، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وبالجد في القتال في سبيل الله وإن لم يساعده أحد على ذلك.
قوله تعالى: "لا تكلف إلا نفسك" "تكلف "مرفوع لأنه مستقبل، ولم يجزم لأنه ليس علة للأول. وزعم الأخفش أنه يجوز جزمه. "إلا نفسك "خبر ما لم يسم فاعله؛ والمعنى لا تلزم فعل غيرك ولا تؤاخذ به.
قوله تعالى: "وحرض المؤمنين" أي حضهم على الجهاد والقتال. يقال: حرضت فلانا على كذا إذا أمرته به. وحارض فلان على الأمر وأكب وواظب بمعنى واحد. "عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا" إطماع، والإطماع من الله عز وجل واجب. على أن الطمع قد جاء في كلام العرب على الوجوب؛ ومنه قوله تعالى: "والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين "[الشعراء: 82]. وقال ابن مقبل:
ظني بهم كعسى وهم بتنوفة يتنازعون جوائز الأمثال
قوله تعالى: "والله أشد بأسا" أي صولة وأعظم سلطانا وأقدر بأسا على ما يريده. "وأشد تنكيلا" أي عقوبة؛ عن الحسن وغيره. قال ابن دريد: رماه الله بنكلة، أي رماه بما ينكله. قال: ونكلت بالرجل تنكيلا من النكال. والمنكل الشيء الذي ينكل بالإنسان. قال:
وأرم على أقفائهم بمنكل
إن قال قائل: نحن نرى الكفار في بأس وشدة، وقلتم: إن عسى بمعنى اليقين فأين ذلك الوعد؟ قيل له: قد وجد هذا الوعد ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام فمتى وجد ولو لحظة مثلا فقد صدق الوعد؛ فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى، وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال "وكفى الله المؤمنين القتال "[الأحزاب: 25] وبالحديبية أيضا عما راموه من الغدر وانتهاز الفرصة، ففطن بهم المسلمون فخرجوا فأخذوهم أسرة، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، وهو المراد بقوله تعالى: "وهو الذي كف أيديهم عنكم "[الفتح: 24] على ما يأتي. وقد ألقى الله في قلوب الأحزاب الرعب وانصرفوا من غير قتل ولا قتال؛ كما قال تعالى "وكفى الله المؤمنين القتال". وخرج اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم، فهذا كله بأس قد كفه الله عن المؤمنين، مع أنه قد دخل من اليهود والنصارى العدد الكثير والجم الغفير تحت الجزية صاغرين وتركوا المحاربة داخرين، فكف الله بأسهم عن المؤمنين. والحمد لله رب العالمين.
الآية: 85 {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيت}
قوله تعالى: "من يشفع "أصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع وهو الزوج في العدد؛ ومنه الشفيع؛ لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا. ومنه ناقة شفوع إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة. وناقة شفيع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها. والشفع ضم واحد إلى واحد. والشفعة ضم ملك الشريك إلى ملكك؛ فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال المنفعة إلى المشفوع له.
واختلف المتأولون في هذه الآية؛ فقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم؛ فمن يشفع لينفع فله نصبب، ومن يشفع ليضر فله كفل. وقيل: الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة، والسيئة في المعاصي. فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر، ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم، وهذا قريب من الأول. وقيل: يعني بالشفاعة الحسنة الدعاء للمسلمين، والسيئة الدعاء عليهم. وفي صحيح الخبر: (من دعا بظهر الغيب استجيب له وقال الملك آمين ولك بمثل ). هذا هو النصيب، وكذلك في الشر؛ بل يرجع شؤم دعائه عليه. وكانت اليهود تدعو على المسلمين. وقيل: المعنى من يكن شفعا لصاحبه في الجهاد يكن له نصيبه من الأجر، ومن يكن شفعا لآخر في باطل يكن له نصيبه من الوزر. وعن الحسن أيضا: الحسنة ما يجوز في الدين، والسيئة ما لا يجوز فيه. وكأن هذا القول جامع. والكفل الوزر والإثم؛ عن الحسن وقتادة. السدي وابن زيد هو النصيب. واشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط. يقال: اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه. ويقال له: اكتفل لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيبا من الظهر. ويستعمل في النصيب من الخير والشر، وفي كتاب الله تعالى "يؤتكم كفلين من رحمته "[الحديد: 28]. والشافع يؤجر فيما يجوز وإن لم يشفع؛ لأنه تعالى قال "من يشفع "ولم يقل يشفع. وفي صحيح مسلم (اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب).
قوله تعالى: "وكان الله على كل شيء مقيتا" "مقيتا "معناه مقتدرا؛ ومنه قول الزبير بن عبدالمطلب:
وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا
أي قديرا. فالمعنى إن الله تعالى يعطي كل إنسان قوته؛ ومنه قوله عليه السلام: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت ). على من رواه هكذا، أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره؛ ذكره ابن عطية. يقول منه: قته أقوته قوتا، وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت ومقيت. وحكى الكسائي: أقات يقيت. وأما قول الشاعر:
. .. إني على الحساب مقيت
فقال فيه الطبري: إنه من غير هذا المعنى المتقدم، وإنه بمعنى الموقوف. وقال أبو عبيدة: المقيت الحافظ. وقال الكسائي: المقيت المقتدر. وقال النحاس: وقول أبي عبيدة أولى لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان. وقال الفراء: المقيت الذي يعطي كل رجل قوته. وجاء في الحديث: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ) و"يقيت "ذكره الثعلبي: وحكى ابن فارس في المجمل: المقيت المقتدر، والمقيت الحافظ والشاهد، وما عنده قيت ليلة وقوت ليلة. والله أعلم.
الآية: 86 {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيب}
قوله تعالى: "وإذا حييتم بتحية" التحية تفعلة من حييت؛ الأصل تحيية مثل ترضية وتسمية، فأدغموا الياء في الياء. والتحية السلام. وأصل التحية الدعاء بالحياة. والتحيات لله، أي السلام من الآفات. وقيل: الملك. قال عبدالله بن صالح العجلي: سألت الكسائي عن قوله "التحيات لله "ما معناه ؟ فقال: التحيات مثل البركات؛ فقلت: ما معنى البركات ؟ فقال: ما سمعت فيها شيئا. وسألت عنها محمد بن الحسن فقال: هو شيء تعبدالله به عباده. فقدمت الكوفة فلقيت عبدالله بن إدريس فقلت: إني سألت الكسائي ومحمدا عن قول "التحيات لله "فأجاباني بكذا وكذا؛ فقال عبدالله بن إدريس: إنهما لا علم لهما بالشعر وبهذه الأشياء ؟ ! التحية الملك؛ وأنشد:
أؤم بها أبا قابوس حتى وأنيخ على تحية بجندي
وأنشد ابن خويز منداد:
أسير به إلى النعمان حتى أنيخ على تحيته بجندي
يريد على ملكه. وقال آخر:
ولكل ما نال الفتى قد نلته إلا التحية
وقال القتبي: إنما قال "التحيات لله "على الجمع؛ لأنه كان في الأرض ملوك يحيون بتحيات مختلفات؛ فيقال لبعضهم: أبيت اللعن، ولبعضهم: اسلم وانعم، ولبعضهم: عش ألف سنة. فقيل لنا: قولوا التحيات لله؛ أي الألفاظ التي تدل على الملك، ويكنى بها عنه لله تعالى. ووجه النظم بما قبل أنه قال: إذا خرجتم للجهاد كما سبق به الأمر فحييتم في سفركم بتحية الإسلام، فلا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا، بل ردوا جواب السلام؛ فإن أحكام الإسلام تجري عليهم.
واختلف العلماء في معنى الآية وتأويلها؛ فروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أن هذه الآية في تشميت العاطس والرد على المشمت. وهذا ضعيف؛ إذ ليس في الكلام دلالة على ذلك، أما الرد على المشمت فمما يدخل بالقياس في معنى رد التحية، وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك عنه. والله أعلم. وقال ابن خويز منداد: وقد يجوز أن تحمل هذه الآية على الهبة إذا كانت للثواب؛ فمن وهب له هبة على الثواب فهو بالخيار إن شاء ردها وإن شاء قبلها وأثاب عليها قيمتها.
قلت: ونحو هذا قال أصحاب أبي حنيفة، قالوا: التحية هنا الهدية؛ لقوله تعالى: "أو ردوها "ولا يمكن رد الإسلام بعينه. وظاهر الكلام يقتضي أداء التحية بعينها وهي الهدية، فأمر بالتعويض إن قبل أو الرد بعينه، وهذا لا يمكن في السلام. وسيأتي بيان حكم الهبة للثواب والهدية في سورة "الروم "عند قوله: "وما آتيتم من ربا "[الروم: 39] إن شاء الله تعالى. والصحيح أن التحية ههنا السلام؛ لقوله تعالى: "وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله "[المجادلة: 8]. وقال النابغة الذبياني:
تحييهم بيض الولائد بينهم وأكسية الإضريج فوق المشاجب
أراد: ومسلم عليهم. وعلى هذا جماعة المفسرين. وإذا ثبت هذا وتقرر ففقه الآية أن يقال: أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها، ورده فريضة؛ لقوله تعالى: "فحيوا بأحسن منها أو ردوها". واختلفوا إذا رد واحد من جماعة هل يجزئ أو لا؛ فذهب مالك والشافعي إلى الإجزاء، وأن المسلم قد رد عليه مثل قوله. وذهب الكوفيون إلى أن رد السلام من الفروض المتعينة؛ قالوا: والسلام خلاف الرد؛ لأن الابتداء به تطوع ورده فريضة. ولو رد غير المسلم عليهم لم يسقط ذلك عنهم فرض الرد، فدل على أن رد السلام يلزم كل إنسان بعينه؛ حتى قال قتادة والحسن: إن المصلي يرد السلام كلاما إذا سلم عليه ولا يقطع ذلك عليه صلاته؛ لأنه فعل ما أمر به. والناس على خلافه. احتج الأولون بما رواه أبو داود عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجزئ من الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم ). وهذا نص في موضع الخلاف. قال أبو عمر: وهو حديث حسن لا معارض له، وفي إسناده سعيد بن خالد، وهو سعيد بن خالد الخزاعي مدني ليس به بأس عند بعضهم؛ وقد ضعفه بعضهم منهم أبو زرعة وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة وجعلوا حديثه هذا منكرا؛ لأنه انفرد فيه بهذا الإسناد؛ على أن عبدالله بن الفضل لم يسمع من عبيدالله بن أبي رافع؛ بينهما الأعرج في غير ما حديث. والله أعلم. واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام: (يسلم القليل على الكثير). ولما أجمعوا على أن الواحد يسلم على الجماعة ولا يحتاج إلى تكريره على عداد الجماعة، كذلك يرد الواحد عن الجماعة وينوب عن الباقين كفروض الكفاية. وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يسلم الراكب على الماشي وإذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم ). قال علماؤنا: وهذا يدل على أن الواحد يكفي في الرد؛ لأنه لا يقال أجزأ عنهم إلا فيما قد وجب. والله أعلم.
قلت: هكذا تأول علماؤنا هذا الحديث وجعلوه حجة في جواز رد الواحد؛ وفيه قلق.
قوله تعالى: "فحيوا بأحسن منها أو ردوها" رد الأحسن أن يزيد فيقول: عليك السلام ورحمة الله؛ لمن قال: سلام عليك. فإن قال: سلام عليك ورحمة الله؛ زدت في ردك: وبركاته. وهذا هو النهاية فلا مزيد. قال الله تعالى مخبرا عن البيت الكريم "رحمة الله وبركاته" [هود: 73] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فإن انتهى بالسلام غايته، زدت في ردك الواو في أول كلامك فقلت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. والرد بالمثل أن تقول لمن قال السلام عليك: عليك السلام، إلا أنه ينبغي أن يكون السلام كله بلفظ الجماعة، وإن كان المسلم عليه واحدا. روى الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: إذا سلمت على الواحد فقل: السلام عليكم، فإن معه الملائكة. وكذلك الجواب يكون بلفظ الجمع؛ قال ابن أبي زيد: يقول المسلم السلام عليكم، ويقول الراد وعليكم السلام، أو يقول السلام عليكم كما قيل له؛ وهو معنى قوله "أو ردوها "ولا تقل في ردك: سلام عليك.
والاختيار في التسليم والأدب فيه تقديم اسم الله تعالى على اسم المخلوق؛ قال الله تعالى: "سلام على إل ياسين "[الصافات: 130]. وقال في قصة إبراهيم عليه السلام: "رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت "[هود: 73]. وقال مخبرا عن إبراهيم: "سلام عليك "[مريم: 47]. وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلق الله عز وجل آدم على صورته طول ستون ذراعا فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك - قال - فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله - قال - فزادوه ورحمة الله - قال - فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن ).
قلت: فقد جمع هذا الحديث مع صحته فوائد سبعا: الأولى: الإخبار عن صفة خلق آدم. الثانية: أنا ندخل الجنة عليها بفضله. الثالثة: تسليم القليل على الكثير. الرابعة: تقديم اسم الله تعالى. الخامسة: الرد بالمثل لقولهم: السلام عليكم. السادسة: الزيادة في الرد. السابعة: إجابة الجميع بالرد كما يقول الكوفيون. والله أعلم.
فإن رد فقدم اسم المسلم عليه لم يأت محرما ولا مكروها؛ لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال للرجل الذي لم يحسن الصلاة وقد سلم عليه: (وعليك السلام أرجع فصل فإنك لم تصل ). وقالت عائشة: وعليه السلام ورحمة الله؛ حين أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل يقرأ عليها السلام. أخرجه البخاري. وفي حديث عائشة من الفقه أن الرجل إذا أرسل إلى رجل بسلامه فعليه أن يرد. كما يرد عليه إذا شافهه. وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي يقرئك السلام؛ فقال: (عليك وعلى أبيك السلام ). وقد روى النسائي وأبو داود من حديث جابر بن سليم قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول الله؛ فقال: (لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ولكن قل السلام عليك). وهذا الحديث لا يثبت؛ إلا أنه لما جرت عادة العرب بتقديم اسم المدعو عليه في الشر كقولهم: عليه لعنة الله وغضب الله. قال الله تعالى: "وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين". [ص: 78]. وكان ذلك أيضا دأب الشعراء وعادتهم في تحية الموتى؛ كقولهم:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما
وقال آخر وهو الشماخ:
عليك سلام من أمير وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق
نهاه عن ذلك، لا أن ذاك هو اللفظ المشروع في حق الموتى؛ لأنه عليه السلام ثبت عنه أنه سلم على الموتى كما سلم على الأحياء فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ). فقالت عائشة: قلت يا رسول الله، كيف أقول إذا دخلت المقابر ؟ قال: (قولي السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين ) الحديث؛ وسيأتي في سورة "ألهاكم" [التكاثر] إن شاء الله تعالى.
قلت: وقد يحتمل أن يكون حديث عائشة وغيره في السلام على أهل القبور جميعهم إذا دخلها وأشرف عليها، وحديث جابر بن سليم خاص بالسلام على المرور المقصود بالزيارة. والله أعلم.
من السنة تسليم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، والقليل على الكثير؛ هكذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يسلم الراكب ) فذكره فبدأ بالراكب لعلو مرتبته؛ ولأن ذلك أبعد له من الزهو، وكذلك قيل في الماشي مثله. وقيل: لما كان القاعد على حال وقار وثبوت وسكون فله مزية بذلك على الماشي؛ لأن حاله على العكس من ذلك. وأما تسليم القليل على الكثير فمراعاة لشرفية جمع المسلمين وأكثريتهم. وقد زاد البخاري في هذا الحديث (ويسلم الصغير على الكبير ). وأما تسليم الكبير على الصغير فروى أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى التسليم على الصبيان؛ قال: لأن الرد فرض والصبي لا يلزمه الرد فلا ينبغي أن يسلم عليهم. وروي عن ابن سيرين أنه كان يسلم على الصبيان ولكن لا يسمعهم. وقال أكثر العلماء: التسليم عليهم أفضل من تركه. وقد جاء في الصحيحين عن سيار قال: كنت أمشي مع ثابت فمر بصبيان فسلم عليهم، وذكر أنه كان يمشي مع أنس فمر بصبيان فسلم عليهم، وحدث أنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بصبيان فسلم عليهم. لفظ مسلم. وهذا من خلقه العظيم صلى الله عليه وسلم، وفيه تدريب للصغير وحض على تعليم السنن ورياضة لهم على آداب الشريعة فيه؛ فلتقتد.
وأما التسليم على النساء فجائز إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أو خائنة عن. وأما المتجالات والعجز فحسن للأمن فيما ذكرناه؛ هذا قول عطاء وقتادة، وإليه ذهب مالك وطائفة من العلماء. ومنعه الكوفيون إذا لم يكن منهن ذوات محرم وقالوا: لما سقط عن النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن رد السلام فلا يسلم عليهن. والصحيح الأول لما خرجه البخاري عن سهل بن سعد قال: كنا نفرح بيوم الجمعة. قلت ولم ؟ قال: كانت لنا عجوز ترسل إلى بضاعة - قال ابن مسلمة: نخل بالمدينة - فتأخذ من أصول السلق فتطرحه في القدر وتكركر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا فنسلم عليها فتقدمه إلينا فنفرح من أجله: وما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. تكركر أي تطحن؛ قاله القتبي.
والسنة في السلام والجواب الجهر؛ ولا تكفي الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي، وعندنا تكفي إذا كان على بعد؛ روى ابن وهب عن ابن مسعود قال: السلام اسم من أسماء الله عز وجل وضعه الله في الأرض فأفشوه بينكم؛ فإن الرجل إذا سلم على القوم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة لأنه ذكرهم، فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب. وروى الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن الحارث قال: إذا سلم الرجل على القوم كان له فضل درجة، فإن لم يردوا عليه ردت عليه الملائكة ولعنتهم. فإذا رد المسلم عليه أسمع جوابه؛ لأنه إذا لم يسمع المسلم لم يكن جوابا له؛ ألا ترى أن المسلم إذا سلم بسلام لم يسمعه المسلم عليه لم يكن ذلك منه سلاما، فكذلك إذا أجاب بجواب لم يسمع منه فليس بجواب. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سلمتم فأسمعوا وإذا رددتم فأسمعوا وإذا قعدتم فأقعدوا بالأمانة ولا يرفعن بعضكم حديث بعض ). قال ابن وهب: وأخبرني أسامة بن زيد عن نافع قال: كنت أساير رجلا من فقهاء الشام يقال له عبدالله بن زكريا فحبستني دابتي تبول، ثم أدركته ولم أسلم عليه؛ فقال: ألا تسلم ؟ فقلت: إنما كنت معك آنفا؛ فقال: وإن صح؛ لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسايرون فيفرق بينهم الشجر فإذا التقوا سلم بعضهم على بعض.
وأما الكافر فحكم الرد عليه أن يقال له: وعليكم. قال ابن عباس وغيره: المراد بالآية: "وإذا حييتم بتحية "فإذا كانت من مؤمن "فحيوا بأحسن منها "وإن كانت من كافر فردوا على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال لهم: (وعليكم ). وقال عطاء: الآية في المؤمنين خاصة، ومن سلم من غيرهم قيل له: عليك؛ كما جاء في الحديث.
قلت: فقد جاء إثبات الواو وإسقاطها في صحيح مسلم (عليك ) بغير واو وهي الرواية الواضحة المعنى، وأما مع إثبات الواو ففيها إشكال؛ لأن الواو العاطفة تقتضي التشريك فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت أو من سامة ديننا؛ فاختلف المتأولون لذلك على أقوال: أولاها أن يقال: إن الواو على بابها من العطف، غير أنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا، كما قال صلى الله عليه وسلم. وقيل: هي زائدة. وقيل: للاستئناف. والأولى أولى. ورواية حذف الواو أحسن معنى وإثباتها أصح رواية وأشهر، وعليها من العلماء الأكثر.
واختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين؛ وإليه ذهب ابن عباس والشعبي وقتادة تمسكا بعموم الآية وبالأمر بالرد عليهم في صحيح السنة. وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب؛ فإن رددت فقل: عليك. واختار ابن طاوس أن يقول في الرد عليهم: علاك السلام. أي ارتفع عنك. واختار بعض علمائنا السلام (بكسر السين ) يعني به الحجارة. وقول مالك وغيره في ذلك كاف شاف كما جاء في الحديث، وسيأتي في سورة "مريم "القول في ابتدائهم بالسلام عند قوله تعالى إخبارا عن إبراهيم في قوله لأبيه "سلام عليك "[مريم: 47]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤدوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم ). وهذا يقتضي إفشاءه بين المسلمين دون المشركين. والله أعلم.
ولا يسلم على المصلي فإن سلم عليه فهو بالخيار إن شاء رد بالإشارة بإصبعه وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يرد. ولا ينبغي أن يسلم على من يقضي حاجته فإن فعل لم يلزمه أن يرد عليه. دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحال فقال له: (إذا وجدتني أو رأيتني على هذه الحل فلا تسلم علي فإنك إن سلمت علي لم أرد عليك ). ولا يسلم على من يقرأ القرآن فيقطع عليه قراءته، وهو بالخيار إن شاء رد وإن شاء أمسك حتى يفرغ ثم يرد، ولا يسلم على من دخل الحمام وهو كاشف العورة، أو كان مشغولا بما له دخل بالحمام، ومن كان بخلاف ذلك سلم عليه.
قوله تعالى: "إن الله كان على كل شيء حسيبا" معناه حفيظا. وقيل: كافيا؛ من قولهم: أحسبني كذا أي كفاني، ومثله حسبك الله. وقال قتادة: محاسبا كما يقال: أكيل بمعنى مواكل. وقيل: هو فعيل من الحساب، وحسنت هذه الصفة هنا؛ لأن معنى الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص أو يوفي قدر ما يجيء به. روى النسائي عن عمران بن حصين قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فسلم، فقال: السلام عليكم فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (عشر ) ثم جلس، ثم جاء آخر فسلم فقال: السلام عليكم ورحمة الله؛ فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (عشرون ) ثم جلس وجاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (ثلاثون ). وقد جاء هذا الخبر مفسرا وهو أن من قال لأخيه المسلم: سلام عليكم كتب له عشر حسنات، فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله كتب له عشرون حسنة. فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتب له ثلاثون حسنة، وكذلك لمن رد من الأجر. والله أعلم.