تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 129 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 129

{وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلاٌّرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ * قُل لِّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
قوله تعالى: {وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار استهزؤوا برسل قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنهم حاق بهم العذاب بسبب ذلك، ولم يفصل هنا كيفية استهزائهم، ولا كيفية العذاب الذي أُهلكوا به، ولكنه فصل كثيراً من ذلك من مواضع أُخَر متعددة في ذكر نوح وقومه وهود وقومه، وصالح وقومه، ولوط وقومه، وشعيب وقومه، إلى غير ذلك.
فمن استهزائهم بنوح قولهم له «بعد أن كنت نبياً صرت نجاراً»، وقد قال الله تعالى عن نوح
: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} ، وذكر ما حاق بهم بقوله: {فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَـٰلِمُونَ} وأمثالها من الآيات.
ومن استهزائهم بهود ما ذكره الله عنهم من قولهم: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوۤءٍ} ، وقوله عنهم أيضاً: {قَالُواْ يٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِىۤ ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} . وذكر ما حاق بهم من العذاب في قوله. {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ} ، وأمثالها من الآيات.
ومن استهزائهم بصالح، قولهم فيما ذكر الله عنهم {يَاصَـٰحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ} وقولهم {يٰصَـٰلِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـٰذَ} ، وذكر ما حاق بهم بقوله {وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَـٰثِمِينَ} ، ونحوها من الآيات.
ومن استهزائهم بلوط قولهم فيما حكى الله عنهم: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَخْرِجُوۤاْ ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ} . وقولهم له أيضاً: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يٰلُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُخْرَجِينَ} ، وذكر ما حاق بهم بقوله {فَجَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} ، ونحوها من الآيات.
ومن استهزائهم بشعيب قولهم فيما حكى الله عنهم: {قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـٰكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} ، وذكر ما حاق بهم بقوله {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ونحوها من الآيات.
قوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ}.
يعني أنه تعالى هو الذي يرزق الخلائق، وهو الغني المطلق فليس بمحتاج إلى رزق. وقد بين تعالى هذا بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِمَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ} ، وقراءة الجمهور على أن الفعلين من الإطعام، والأول مبني للفاعل، والثاني مبني للمفعول، كما بيناه، وأوضحته الآية الأخرى. وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد، والأعمش. الفعل الأول كقراءة الجمهور، والثاني بفتح الياء والعين مضارع طعم الثلاثي بكسر العين في الماضي، أي أنه يرزق عباده، ويطعمهم وهو جل وعلا، لا يأكل، لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه المخلوق من الغداء، لأنه جل وعلا الغني لذاته، الغني المطلق، سبحانه وتعالى علواً كبيراً، {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ} .
والقراءة التي ذكرنا عن سعيد ومجاهد، والأعمش موافقة لأحد الأقوال في تفسير قوله تعالى {ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ} قال بعض العلماء {ٱلصَّمَدُ} السيد الذي يُلجأ إليه عند الشدائد والحوائج. وقال بعضهم: هو السيد الذي تكامل سؤدده وشرفه وعظمته، وعلمه وحكمته، وقال بعضهم {ٱلصَّمَدُ} هو الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ وعليه فما بعده تفسير له. وقال بعضهم: هو الباقي بعد فناء خلقه. وقال بعضهم «{ٱلصَّمَدُ} هو الذي لا جوف له، ولا يأكل الطعام، وهو محل الشاهد، وممن قال بهذا القول ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، وعبد الله بن بريدة، وعكرمة، وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح، وعطية العوفي، والضحاك، والسدي. كما نقله عنهم ابن كثير وابن جرير وغيرهما.
قال مقيده عفا الله عنه: من المعروف في كلام العرب، إطلاق الصمد على السيد العظيم، وعلى الشيء المصمت الذي لا جوف له، فمن الأول قول الزبرقان:  سيروا جميعاً بنصف الليل واعتمدوا ولا رهينة إلا سيد صمد


وقول الآخر:  علوته بحسام ثم قلت له خذها حذيف فأنت السيد الصمد

وقول الآخر:  ألا بكر الناعي بخير بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد

ومن الثاني قول الشاعر:  شهاب حروب لا تزال جياده عوابس يعلكن الشكيم المصمدا

فإذا علمت ذلك، فالله تعالى هو السيد الذي هو وحده الملجأ عند الشدائد والحاجات، وهو الذي تنزه وتقدس وتعالى عن صفات المخلوقين كأكل الطعام ونحوه، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.