تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 224 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 224  {أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى ٱلاٌّرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى ٱلاٌّخِرَةِ هُمُ ٱلاٌّخْسَرُونَ * إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ * مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلاٌّعْمَىٰ وَٱلاٌّصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنِّىۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ ٱلرَّأْى وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَـٰذِبِينَ}
قوله تعالى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ}. بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الكفار الذين يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، يضاعف لهم العذاب يوم القيامة، لأنهم يعذبون على ضلالهم، ويعذبون أيضاً على إضلالهم غيرهم، كما أوضحه تعالى بقوله: {ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ زِدْنَـٰهُمْ عَذَابًا فَوْقَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ}.
وبين في موضع آخر. أن العذاب يضاعف للأتباع والمتبوعين، وهو قوله في الأعراف {حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاٍّولَـٰهُمْ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا فَأاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ ٱلنَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ}. قوله تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ}. في هذه الآية الكريمة للعلماء أوجه، بعضها يشهد له القرآن:
الأول ـ وهو اختيار ابن جرير الطبري في تفسيره، ونقله عن ابن عباس وقتادة ـ: أن معنى {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ} ـ أنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحق سماع منتفع، ولا أن يبصروه إبصار مهتد، لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين عن استعمال جوارحهم في طاعة الله تعالى، وقد كانت لهم أسماع وأبصار.
ويدل لهذا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَـٰراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَـٰرُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَىْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِأايَـٰتِ ٱللَّهِ}.
الثاني ـ وهو أظهرها عندي ـ: أن عدم الاستطاعة المذكور في الآية إنما هو للختم الذي ختم الله على قلوبهم وأسماعهم، والغشاوة التي جعل على أبصارهم.
ويشهد لهذا القول قوله تعالى: {خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ}، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْر} ونحو ذلك من الآيات.
وذلك الختم والأكنة على القلوب جزاء من الله تعالى لهم على مبادرتهم إلى الكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله: {بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وقوله {فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقوله {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضً}. وقوله: {وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ} وقوله {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ـ إلى غير ذلك من الآيات.
الثالث ـ أن المعنى ما كانوا يستطيعون السمع أي لشدة كراهيتهم لكلام الرسل على عادة العرب في قولهم: لا أستطيع أن أسمع كذا إذا كان شديد الكراهية والبغض له ويشهد لهذا القول قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُنَا بَيِّنَـٰتٍ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمُنْكَرَ يَكَـٰدُونَ يَسْطُونَ بِٱلَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُنَ} وقوله تعالى {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ} وقوله {وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَـٰبِعَهُمْ فِىۤ ءَاذَٰنِهِمْ}.
الرابع: أن «ما» مصدرية ظرفية، أي يضاعف لهم العذاب مدة كونهم يستطيعون أن يسمعوا ويبصروا، أي يضاعف لهم العذاب دائماً.
الخامس: أن «ما» مصدرية في محل نصب بنزع الخافض، أي يضاعف لهم العذاب بسبب كونهم يستطيعون السمع والإبصار في دار الدنيا، وتركوا الحق مع أنهم يستطيعون إدراكه بأسماعهم وأبصارهم. وقد قدمنا في سورة النساء قول الأخفش الأصغر: بأن النصب بنزع الخافض مقيس مطلقاً عند أمن اللبس.
السادس: أن قوله {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} من صفة الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله، فيكون متصلاً بقوله {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ} وتكون جملة {يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ} اعتراضية. وتقرير المعنى على هذا القول: وما كان لهم من دون الله من أولياء ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، أي الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله. وما لا يسمع ولا يبصر لا يصح أن يكون ولياً لأحد.
ويشهد لمعنى هذا القول قوله تعالى في الأعراف {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَ}، ونحوها من الآيات.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية الكريمة قد تكون فيها أقوال، وكلها يشهد له قرآن فنذكر الجميع، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلاٌّعْمَىٰ وَٱلاٌّصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ}. ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة المثل للكافر بالأعمى والأصم، وضرب المثل للمؤمن بالسميع والبصير، وبين أنهما لا يستويان، ولا يستوي الأعمى والبصير، ولا يستوي الأصم والسميع. وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة:
قوله {وَمَا يَسْتَوِى ٱلاٌّعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُوَلاَ ٱلظُّلُمَاتُ وَلاَ ٱلنُّورُوَلاَ ٱلظِّلُّ وَلاَ ٱلْحَرُورُوَمَا يَسْتَوِى ٱلاٌّحْيَآءُ وَلاَ ٱلاٌّمْوَاتُ إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى ٱلْقُبُورِإِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ}.
وقوله: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ}.
وقوله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ ٱلرَّأْى}. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الملأ من قوم نوح قالوا له: ما نراك اتبعك منا إلا الأسافل والأراذل. وذكر في سورة الشعراء، أن اتباع الأراذل له في زعمهم مانع لهم من اتباعه بقوله {قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلاٌّرْذَلُونَ}.
وبين في هذه السورة الكريمة: أن نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أبى أن يطرد أولئك المؤمنين الذين اتبعوه بقوله: {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ ءامَنُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـٰكِنِّىۤ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَوَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ}. وذكر تعالى عنه ذلك في الشعراء أيضاً بقوله: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّى لَوْ تَشْعُرُونَوَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ}.
{قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّىۤ وَءاتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَـٰرِهُونَ}
قوله تعالى {قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّىۤ وَءاتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَـٰرِهُونَ}. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح: أنه قال لقومه: {قُلْ أَرَءيْتُمْ} أي أخبروني {إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّىۤ} أي على يقين ونبوة صادقة لا شك فيها، وأعطاني رحمة منه مما أوحى إلي من التوحيد والهدى، فخفي ذلك كله عليكم، ولم تعتقدوا أنه حق، أيمكنني أن ألزمكم به، وأجبر قلوبكم على الانقياد والإذعان لتلك البينة التي تفضل الله علي بها، ورحمني بإيتائها، والحال أنكم كارهون لذلك؟ يعني ليس بيدي توفيقكم إلى الهدى وإن كان واضحاً جلياً لا لبس فيه، إن لم يهدكم الله جل وعلا إليه.
وهذا المعنى صرح به جل وعلا عن نوح أيضاً في هذه السورة الكريمة بقوله: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِىۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ}.