تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 224 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 224

224 : تفسير الصفحة رقم 224 من القرآن الكريم

** وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَـَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىَ رَبّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَـَؤُلآءِ الّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىَ رَبّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ * الّذِينَ يَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالاَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * أُولَـَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ * أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * لاَ جَرَمَ أَنّهُمْ فِي الاَخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ
يبين تعالى حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار الاَخرة على رؤوس الخلائق من الملائكة والرسل والأنبياء وسائر البشر والجان كما قال الإمام أحمد حدثنا بهز وعفان أخبرنا همام حدثنا قتادة عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر إذ عرض له رجل قال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال: سمعته يقول: «إن الله عز وجل يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم» ثم يعطى كتاب حسناته, وأما الكفار والمنافقون فيقول: {الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} الاَية أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث قتادة به وقوله: {الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوج} أي يردون الناس عن اتباع الحق وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى الله عز وجل ويجنبونهم الجنة {ويبغونها عوج} أي ويريدون أن يكون طريقهم عوجاً غير معتدلة {وهم بالاَخرة هم كافرون} أي جاحدون بها مكذبون بوقوعها وكونها {أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء} أي بل كانوا تحت قهره وغلبته وفي قبضته وسلطانه وهو قادر على الانتقام منهم في الدار الدنيا قبل الاَخرة {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار}.
وفي الصحيحين «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} ولهذا قال تعالى: {يضاعف لهم العذاب} الاَية أي يضاعف عليهم العذاب, وذلك أن الله تعالى جعل لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم بل كانوا صماً عن سماع الحق عمياً عن اتباعه كما أخبر تعالى عنهم حين دخولهم النار كقوله: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} وقال تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب} الاَية, ولهذا يعذبون على كل أمر تركوه وعلى كل نهي ارتكبوه ولهذا كان أصح الأقوال أنهم مكلفون بفروع الشرائع أمرها ونهيها بالنسبة إلى الدار الاَخرة وقوله: {أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي خسروا أنفسهم لأنهم أدخلوا ناراً حامية فهم معذبون فيها لا يفتر عنهم من عذابها طرفة عين كما قال تعالى: {كلما خبت زدناهم سعير} {وضلّ عنهم} أي ذهب عنهم {ما كانوا يفترون} من دون الله من الأنداد والأصنام فلم تجد عنهم شيئاً بل ضرتهم كل الضرر كما قال تعالى: {وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين}.
وقال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضد} وقال الخليل لقومه {إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار وما لكم من ناصرين} وقوله: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} إلى غير ذلك من الاَيات الدالة على خسرهم ودمارهم ولهذا قال: {لا جرم أنهم في الاَخرة هم الأخسرون} يخبر تعالى عن مآلهم أنهم أخسر الناس صفقة في الدار الاَخرة لأنهم استبدلوا الدركات عن الدرجات, واعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن وعن شرب الرحيق المختوم بسموم وحميم وظل من يحموم وعن الحور العين بطعام من غسلين وعن القصور العالية بالهاوية, وعن قرب الرحمن, ورؤيته بغضب الديان وعقوبته, فلا جرم أنهم في الاَخرة هم الأخسرون.

** إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوَاْ إِلَىَ رَبّهِمْ أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ الجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَىَ وَالأصَمّ وَالْبَصِيرِ وَالسّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكّرُونَ
لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثنى بذكر السعداء وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات فآمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة قولاً وفعلاً من الإتيان بالطاعات وترك المنكرات وبهذا ورثوا الجنات, المشتملة على الغرف العاليات, والسرر المصفوفات, والقطوف الدانيات, والفرش المرتفعات والحسان الخيرات, والفواكه المتنوعات, والمآكل المشتهيات والمشارب المستلذات, والنظر إلى خالق الأرض والسموات, وهم في ذلك خالدون لا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون ولا ينامون ولا يتغوطون ولا يبصقون ولا يتمخطون, إن هو إلا رشح مسك يعرقون, ثم ضرب تعالى مثل الكافرين والمؤمنين فقال: {مثل الفريقين} أي الذين وصفهم أولاً بالشقاء والمؤمنين بالسعادة فأولئك كالأعمى والأصم وهؤلاء كالبصير والسميع, فالكافر أعمى عن وجه الحق في الدنيا والأخرة لا يهتدي إلى خير ولا يعرفه, أصم عن سماع الحجج فلا يسمع ما ينتفع به {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم} الاَية.
وأما المؤمن ففطن ذكي لبيب بصير بالحق يميز بينه وبين الباطل فيتبع الخير ويترك الشر سميع للحجة يفرق بينها وبين الشبهة فلا يروج عليه باطل, فهل يستوي هذا وهذا ؟ {أفلا تذكرون} أفلا تعتبرون فتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء كما قال في الاَية الأخرى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ؟ أصحاب الجنة هم الفائزون} وكقوله: {وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات, إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور * إن أنت إلا نذير إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أمة إلا خلا فيها نذير}.

** وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ إِنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ * أَن لاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ اللّهَ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاّ بَشَراً مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتّبَعَكَ إِلاّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرّأْيِ وَمَا نَرَىَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنّكُمْ كَاذِبِينَ
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام أنه قال لقومه {إني لكم نذير مبين} أي ظاهر النذارة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله, ولهذا قال: {أن لا تعبدوا إلا الله} وقوله: {إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عذبكم الله عذاباً أليماً موجعاً شاقاً في الدار الاَخرة {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} والملأ هم السادة والكبراء من الكافرين منهم {ما نراك إلا بشراً مثلن} أي لست بملك ولكنك بشر فكيف أوحي إليك من دوننا ثم ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن ترو منهم ولا فكر ولا نظر بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك فاتبعوك ولهذا قالوا {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي} أي في أول بادىء الرأي {وما نرى لكم علينا من فضل} يقولون ما رأينا لكم علينا فضيلة في خلق ولا خلق ولا رزق ولا حال لما دخلتم في دينكم هذا {بل نظنكم كاذبين} أي فيما تدعونه لكم من البر والصلاح والعبادة والسعادة في الدار الاَخرة إذا صرتم إليها, هذا اعتراض الكافرين على نوح عليه السلام وأتباعه وهو دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم فإنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه, فإن الحق في نفسه صحيح سواء اتبعه الأشراف أو الأراذل بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف ولو كانوا فقراء والذين يأبونه هم الأراذل ولو كانوا أغنياء ثم الواقع غالباً أن ما يتبع الحق ضعفاء الناس, والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته كما قال تعالى: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}.
ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم قال له فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم. قال: بل ضغفاؤهم, فقال هرقل هم أتباع الرسل, وقولهم {بادي الرأي} ليس بمذمة ولا عيب لأن الحق إذا وضح لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال بل لا بد من اتباع الحق والحالة هذه لكل ذي زكاء وذكاء بل لا يفكر ههنا إلا غبي أو عيي, والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إنما جاءوا بأمر جلي واضح. وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم» أي ما تردد ولا تروى لأنه رأى أمراً جلياً عظيماً واضحاً فبادر إليه وسارع وقوله: {وما نرى لكم علينا من فضل} هم لا يرون ذلك لأنهم عمي عن الحق لا يسمعون ولا يبصرون بل هم في ريبهم يترددون في ظلمات الجهل يعمهون وهم الأفاكون الكاذبون الأقلون الأرذلون وهم في الاَخرة هم الأخسرون.

** قَالَ يَقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مّنْ عِندِهِ فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ
يقول تعالى مخبراً عما رد به نوح على قومه في ذلك: {أرأيتم إن كنت على بينة من ربي} أي على يقين وأمر جلي ونبوة صادقة وهي الرحمة العظيمة من الله به وبهم {فعميت عليكم} أي خفيت عليكم فلم تهتدوا إليها ولا عرفتم قدرها بل بادرتم إلى تكذيبها وردها {أنلزمكموه} أي نغضبكم بقبولها وأنتم لها كارهون.