تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 224 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 224

223

20- "أولئك" الموصوفون بتلك الصفات "لم يكونوا معجزين في الأرض" أي ما كانوا يعجزون الله في الدنيا إن أراد عقوبتهم "وما كان لهم من دون الله من أولياء" يدفعون عنهم ما يريده الله سبحانه من عقوبتهم وإنزال بأسه بهم، وجملة "يضاعف لهم العذاب" مستأنفة لبيان أن تأخير العذاب والتراخي عن تعجيله لهم ليكون عذاباً مضاعفاً. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويزيد ويعقوب " يضاعف " مشدداً "ما كانوا يستطيعون السمع" أي أفرطوا في إعراضهم عن الحق وبغضهم له، حتى كأنهم لا يقدرون على السمع ولا يقدرون على الإبصار لفرط تعاميهم عن الصواب. ويجوز أن يراد بقوله: "وما كان لهم من دون الله من أولياء" أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله ولا ينفعهم ذلك، فما كان هؤلاء الأولياء يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، فكيف ينفعونهم فيجلبون لهم نفعاً أو يدفعون عنهم ضرراً، ويجوز أن تكون ما هي المدية. والمعنى: أنه يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والبصر. قال الفراء: ما كانوا يستطيعون السمع لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ. وقال الزجاج: لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفهموا عنه. قال النحاس: هذا معروف في كلام العرب، يقال: فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان: إذا كان ثقيلاً عليه.
21- "أولئك" المتصفون بتلك الصفات "الذين خسروا أنفسهم" بعبادة غير الله. والمعنى: اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله فكان خسرانهم في تجارتهم أعظم خسران "وضل عنهم ما كانوا يفترون" أي ذهب وضاع ما كانوا يفترون من الآلهة التي يدعون أنها تشفع لهم ولم يبق بأيديهم إلا الخسران.
قوله: 22- "لا جرم" قال الخليل وسيبويه: لا جرم بمعنى حق فهي عندهما بمنزلة كلمة واحدة، وبه قال الفراء. وروي عن الخليل والفراء أنها بمنزلة قولك لا بد ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً. وقال الزجاج: إن جرم بمعنى كسب: أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وفاعل كسب مضمر، وأن منصوبة برجم. قال الأزهري: وهذا من أحسن ما نقل في هذه اللغة. وقال الكسائي: معنى لا جرم: لا صد ولا منع عن أنهم في الآخرة هم الأخسرون. وقال جماعة من النحويين: إن معنى لا جرم ولا قطع قاطع "أنهم في الآخرة هم الأخسرون" قالوا: والجرم القطع، وقد جرم النخل واجترمه: أي قطعه، وفي هذه الآية بيان أنهم في الخسران قد بلغوا إلى حد يتقاصر عنه غيرهم ولا يبلغ إليه، وهذه الآيات مقررة لما سبق من نفي المماثلة بين من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها، وبين من كان على بينة من ربه.
23- "إن الذين آمنوا" أي صدقوا بكل ما يجب التصديق به من كون القرآن من عند الله وغير ذلك من خصال الإيمان "وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم" أي أنابوا إليه، وقيل خشعوا، وقيل خضعوا، قيل: وأصل الإخبات الاستواء في الخبث: وهو الأرض المستوية الواسعة فيناسب معنى الخشوع والاطمئنان. قال الفراء: إلى ربهم، ولربهم واحد "أولئك" الموصوفون بتلك الصفات الصالحة "أصحاب الجنة هم فيها خالدون".
قوله: 24- "مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع" ضرب للفريقين مثلاً وهو تشبيه فريق الكافرين بالأعمى والأصم، وتشبيه فريق المؤمنين بالبصير والسميع، على أن كل فريق شبه بشيئين، أو شبه بمن جمع بين الشيئين، فالكافر شبه بمن جمع بين العمى والصمم، والمؤمن شبه بمن جمع بين السمع والبصر، وعلى هذا تكون الواو في والأصم، وفي والسميع لعطف الصفة على الصفة، كما في قول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام والاستفهام في قوله: "هل يستويان" للإنكار: يعني الفريقين، وهذه الجملة مقررة لما تقدم من قوله: "أفمن كان على بينة من ربه" وانتصاب مثلاً على التمييز من فاعل يستويان: أي هل يستويان حالاً وصفة "أفلا تذكرون" في عدم استوائهما وفيما بينهما من التفاوت الظاهر الذي يخفى على من له تذكر، وعنده تفكر وتأمل، والهمزة لإنكار عدم التذكر واستبعاد صدوره عن المخاطبين. وقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: "ومن أظلم" قال: الكافر والمنافق "أولئك يعرضون على ربهم" فيسألهم عن أعمالهم "ويقول الأشهاد" الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا "هؤلاء الذين كذبوا على ربهم" شهدوا به عليهم يوم القيامة. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: الأشهاد الملائكة. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة نحوه. وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يدني المؤمن حتى يضع كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رب أعرف، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "الذين يصدون عن سبيل الله" قال: هو محمد يعني سبيل الله، صدت قريش عنه الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "ويبغونها عوجاً" يعني يرجون بمكة غير الإسلام ديناً. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض" الآية قال: أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإنه قال: "ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون" وأما في الآخرة فإنه قال: " فلا يستطيعون * خاشعة " وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ما كانوا يستطيعون السمع" قال: ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خيراً فينتفعوا به، ولا يبصروا خيراً فيأخذوا به. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "أخبتوا" قال: خافوا. وأخرج ابن جرير عنه قال: الإخبات الإنابة. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ قال: الإخبات: الخشوع والتواضع. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد قال: اطمأنوا. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "مثل الفريقين كالأعمى والأصم" قال: الكافر: "والبصير والسميع" قال: المؤمن.
لما أورد سبحانه على الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم أنواع الدلائل التي هي أوضح من الشمس، أكد ذلك بذكر القصص على طريقة التفنن في الكلام، ونقله من أسلوب إلى أسلوب لتكون الموعظة أظهر والحجة أبين، والقبول أتم، فقال: 25- "ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين". قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الهمزة على تقدير حرف الجر: أي أرسلناه بأني: أي أرسلناه متلبساً بذلك الكلام، وهو أني لكم نذير مبين. وقرأ الباقون بالكسر على إرادة القول: أي قائلاً إني لكم، والواو في ولقد للابتداء، واللام هي الموطئة للقسم، واقتصر على النذارة دون البشارة، لأن دعوته كانت لمجرد الإنذار، أو لكونهم لم يعملوا بما بشرهم به.
وجملة 26- "أن لا تعبدوا إلا الله" بدل من إني لكم نذير مبين: أي أرسلناه بأن لا تعبدوا إلا الله، أو تكون أن مفسرة متعلقة بأرسلنا، أو بنذير، أو بمبين، وجملة "إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم" تعليلية. والمعنى: نهيتكم عن عبادة غير الله لأني أخاف عليكم، وفيها تحقيق لمعنى الإنذار، واليوم الأليم: هو يوم القيامة، أو يوم الطوفان، ووصفه بالأليم من باب الإسناد المجازي مبالغة.
ثم ذكر ما أجاب به قومه عليه وهذا الجواب يتضمن الطعن منهم في نبوته من ثلاث جهات قال: 27- "فقال الملأ الذين كفروا من قومه" والملأ الأشراف كما تقدم غير مرة، ووصفهم بالكفر ذماً لهم، وفيه دليل على أن بعض أشراف قومه لم يكونوا كفرة "ما نراك إلا بشراً مثلنا" هذه الجهة الأولى من جهات طعنهم في نبوته: أي نحن وأنت مشتركون في البشرية فلم يكن لك علينا مزية تستحق بها النبوة دوننا، والجهة الثانية: "وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا" ولم يتبعك أحد من الأشراف، فليس لك مزية علينا باتباع هؤلاء الأراذل لك، والأراذل جمع أرذل وأرذل جمع رذل مثل أكالب وأكلب وكلب، وقيل: الأراذل جمع الأرذل كالأساود جمع أسود، وهم السفلة. قال النحاس: الأراذل: الفقراء والذين لا حسب لهم، والحسب الصناعات. قال الزجاج: نسبوهم إلى الحياكة، ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة. وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: السفلة هو الذي يصلح الدنيا بدينه، قيل له: فمن سفلة السفلة؟ قال: الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه. والظاهر من كلام أهل اللغة أن السفلة هو الذي يدخل في الحرف الدنية، والرؤية في الموضعين إن كانت القلبية فبشراً في الأول واتبعك في الثاني هما المفعول الثاني، وإن كانت البصرية فهما منتصبان على الحال وانتصاب بادي الرأي على الظرفية والعامل فيه اتبعك. والمعنى: في ظاهر الرأي من غير تعمق، يقال: بدا يبدو: إذا ظهر. قال الأزهري: معناه فيما يبدو لنا من الرأي. والوجه الثالث: من جهات قدحهم في نبوته "وما نرى لكم علينا من فضل" خاطبوه في الوجهين الأولين منفرداً وفي هذا الوجه خاطبوه مع متبعيه أي: ما نرى لك ولمن اتبعك من الأراذل علينا من فضل يتميزون به وتستحقون ما تدعونه، ثم أضربوا عن الثلاثة المطاعن وانتقلوا إلى ظنهم المجرد عن البرهان الذي لا مستند له إلا مجرد العصبية والحسد واستبقاء ما هم فيه من الرياسة الدنيوية، فقالوا: "بل نظنكم كاذبين" فيما تدعونه، ويجوز أن يكون هذا خطاباً للأراذل وحدهم، والأول أولى، لأن الكلام مع نوح لا معهم إلا بطريق التبعية له.
ثم ذكر سبحانه ما أجاب به نوح عليهم، فقال: 28- "قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي" أي أخبروني إن كنت على برهان من ربي في النبوة يدل على صحتها ويوجب عليكم قبولها مع كون ما جعلتموه قادحاً ليس بقادح في الحقيقة، فإن المساواة في صفة البشرية لا تمنع المفارقة في صفة النبوة، واتباع الأراذل كما تزعمون ليس مما يمنع من النبوة فإنهم مثلكم في البشرية والعقل والفهم، فاتباعهم لي حجة عليكم لا لكم، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة "وآتاني رحمة من عنده" هي النبوة، وقيل الرحمة المعجزة، والبينة النبوة. قيل: ويجوز أن تكون الرحمة هي البينة نفسها، والأولى تفسير الرحمة بغير ما فسرت به البينة، والإفراد في "فعميت" على إرادة كل واحدة منهما، أو على إرادة البينة، لأنها هي التي تظهر لمن تفكر وتخفى على من لم يتفكر، ومعنى عميت خفيت، وقيل: الرحمة هي على الخلق، وقيل: هي الهداية إلى معرفة البرهان، وقيل: الإيمان، يقال: عميت عن كذا، وعمي علي كذا: إذا لم أفهمه. قيل: وهو من باب القلب، لأن البينة أو الرحمة لا تعمي وإنما يعمي عنها فهو كقولهم: أدخلت القلنسوة رأسي. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وحفص "فعميت" بضم العين وتشديد الميم على البناء للمفعول: أي فعماها الله عليكم، وفي قراءة أبي " فعميت عليكم " والاستفهام في "أنلزمكموها" للإنكار: أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها والحال أنكم لها كارهون، والمعنى أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي إلا أنها خافية عليكم أيمكننا أن نضطركم إلى العلم بها، والحال أنكم لها كارهون غير متدبرين فيها، فإن ذلك لا يقدر عليه إلا الله عز وجل. وحكى الكسائي والفراء إسكان الميم الأولى في أنلزمكموها تخفيفاً كما في قول الشاعر: فاليوم أشرب غير مستحقب إثماً من الله ولا واغل فإن إسكان الباء في أشرب للتخفيف. وقد قرأ أبو عمرو كذلك.