تفسير الطبري تفسير الصفحة 224 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 224
225
223
 الآية : 20
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُولَـَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ }.
يعنـي جلّ ذكره بقوبه: أُولَئِكَ لَـمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِـي الأرْضِ هؤلاء الذين وصف جلّ ثناؤه أنهم يصدّون عن سبـيـل الله, يقول جلّ ثناؤه: إنهم لـم يكونوا بـالذين يُعْجزون ربهم بهربهم منه فـي الأرض إذا أراد عقابهم والانتقام منهم, ولكنهم فـي قَبضته ومِلْكه, لا يـمتنعون منه إذا أرادهم ولا يفوتونه هربـا إذا طلبهم. وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أوْلِـياءَ يقول: ولـم يكن لهؤلاء الـمشركين إذا أراد عقابهم من دون الله أنصار ينصرونهم من الله ويحولون بـينهم وبـينه إذا هو عذّبهم, وقد كانت لهم فـي الدنـيا مَنَعة يـمتنعون بها مـمن أرادهم من الناس بسوء.
وقوله: يُضَاعَفُ لَهُمُ العَذَابُ يقول تعالـى ذكره: يزاد فـي عذابهم, فـيجعل لهم مكان الواحد اثنان.
وقوله: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ فإنه اختلف فـي تأويـله, فقال بعضهم: ذلك وصف الله به هؤلاء الـمشركين أنه قد ختـم علـى سمعهم وأبصارهم, وأنهم لا يسمعون الـحقّ, ولا يبصرون حُجَج الله سماع منتفع ولا إبصار مهتد. ذكر من قال ذلك:
14039ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ صمّ عن الـحقّ فما يسمعونه, بكم فما ينطقون به, عُمْي فلا يبصرونه, ولا ينتفعون به.
14040ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ قال: ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خبرا فـينتفعوا به, ولا يبصروا خيرا فـيأخذوا به.
14041ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قال: أخبر الله سبحانه أنه حال بـين أهل الشرك وبـين طاعته فـي الدنـيا والاَخرة. أما فـي الدنـيا فإنه قال: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمْعَ وهي طاعته, وَما كانُوا يُبْصِرُونَ. وأما فـي الاَخرة فإنه قال: فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً.
وقال آخرون: إنـما عَنـي بقوله: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أوْلِـياءِ آلهة الذين يصدّون عن سبـيـل الله. وقالوا: معنى الكلام: أولئك وآلهتهم لـم يكونوا معجزين فـي الأرض, يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ يعنـي الاَلهة أنها لـم يكن لها سمع ولا بصر. هذا قول رُوي عن ابن عبـاس من وجه كرهت ذكره لضعف سنده.
وقال آخرون: معنى ذلك: يضاعف لهم العذاب بـما كانوا يستطيعون السمع ولا يسمعونه, وبـما كانوا يبصرون ولا يتأملون حجج الله بأعينهم فـيعتبروا بها. قالوا: والبـاء كان ينبغي لها أن تدخـل, لأنه قد قال: فَلَهُمْ عَذَابٌ ألِـيـمٌ بِـمَا كانُوا يَكْذِبُونَ بكذبهم فـي غير موضع من التنزيـل أدخـلت فـيه البـاء, وسقوطها جائز فـي الكلام كقولك فـي الكلام: لاحن بـما فـيك ما علـمت وبـما علـمت, وهذا قول قاله بعض أهل العربـية.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا ما قاله ابن عبـاس وقتادة, من أن الله وصفهم تعالـى ذكره بأنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الـحقّ سماع منتفع, ولا يبصرونه إبصار مهتد, لاشتغالهم بـالكفر الذي كانوا علـيه مقـيـمين, عن استعمال جوارحهم فـي طاعة الله, وقد كانت لهم أسماع وأبصار.
الآية : 21
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم, هم الذين غَبَنُوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله. وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ وبطل كذبهم وإفكهم وفِرْيتهم علـى الله بإدّعائهم له شركاء, فسلك ما كانوا يدعونه إلها من دون الله غير مسلكهم, وأخذ طريقا غير طريقهم, فضلّ عنهم, لأنه سلك بهم إلـى جهنـم, وصارت آلتهم عدما لا شيء, لأنها كانت فـي الدنـيا حجارة أو خشبـا أو نـحاسا, أو كان لله ولـيّا, فسلك به إلـى الـجنة, وذلك أيضا غير مسلكهم, وذلك أيضا ضلال عنهم.
الآية : 22
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاَ جَرَمَ أَنّهُمْ فِي الاَخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: حقا أن هؤلاء القوم الذين هذه صفتهم فـي الدنـيا فـي الاَخرة هم الأخسرون, الذين قد بـاعوا منازلهم من الـجنان بـمنازل أهل الـجنة من النار وذلك هو الـخسران الـمبـين. وقد بـينا فـيـما مضى أن معنى قولهم, جَرَمْتُ: كسبت الذنب وأجرمته, أن العرب كثر استعمالها إياه فـي مواضع الأيـمان, وفـي مواضع «لا بدّ» كقولهم: لا جرم أنك ذاهب, بـمعنى: لا بد, حتـى استعملوا ذلك فـي مواضع التـحقـيق فقالوا: لا جرم لـيقومنّ, بـمعنى: حقّا لـيقومنّ, فمعنى الكلام: لا منع عن أنهم, ولا صدّ عن أنهم.
الآية : 23
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوَاْ إِلَىَ رَبّهِمْ أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ الجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: إن الذين صَدَقوا الله ورسوله وعملوا فـي الدنـيا بطاعة الله وأخبتوا إلـى ربهم.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى الإخبـات, فقال بعضهم: معنى ذلك: وأنابوا إلـى ربهم. ذكر من قال ذلك:
14042ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِـحاتِ وأخْبَتُوا إلـى رَبّهِمْ قال: الإخبـات: الإنابة.
14043ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وأخْبَتُوا إلـى رَبّهِمْ يقول: وأنابوا إلـى ربهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: وخافوا. ذكر من قال ذلك:
14044ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وأخْبَتُوا إلـى رَبّهِمْ يقول: خافوا.
وقال آخرون: معناه: اطمأنوا. ذكر من قال ذلك:
14045ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وأخْبَتُوا إلـى رَبّهِمْ قال: اطمأنوا.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: خشعوا. ذكر من قال ذلك:
14046ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وأخْبَتُوا إلـى رَبّهِمْ الإخبـات: التـخشع والتواضع.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال متقاربة الـمعانـي وإن اختلفت ألفـاظها, لأن الإنابة إلـى الله من خوف الله, ومن الـخشوع والتواضع لله بـالطاعة, والطمأنـينة إلـيه من الـخشوع له, غير أن نفس الإخبـات عند العرب الـخشوع والتواضع. وقال: إلـى رَبّهِمْ ومعناه: أخبتوا لربهم, وذلك أن العرب تضع اللام موضع «إلـى» و«إلـى» موضع اللام كثـيرا, كما قال تعالـى: بأنّ رَبّكَ أوْحَى لَهَا بـمعنى: أوحى إلـيها. وقد يجوز أن يكون قـيـل ذلك كذلك, لأنهم وصفوا بأنهم عمدوا بإخبـاتهم إلـى الله.
وقوله: أُولَئِكَ أصحَابُ الـجَنّةِ هُمْ فِـيها خالِدُونَ يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم هم سكان الـجنة الذين لا يخرجون عنها ولا يـموتون فـيها, ولكنهم فـيها لابثون إلـى غير نهاية.
الآية : 24
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَىَ وَالأصَمّ وَالْبَصِيرِ وَالسّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكّرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: مثل فريقـي الكفر والإيـمان كمثل الأعمى الذي لا يرى بعينه شيئا, والأصمّ الذي لا يسمع شيئا فكذلك فريق الكفر لا يُبصر الـحقّ فـيتبعه ويعمل به, لشغله بكفره بـالله وغَلَبة خِذلان الله علـيه, لا يسمع داعي الله إلـى الرشاد فـيجيبه إلـى الهدى فـيهتدي به, فهو مقـيـم فـي ضلالته, يتردّد فـي حَيرته. والسميع والبصير, فكذلك فريق الإيـمان أبصر حُجج الله, وأقرّ بـما دلت علـيه من توحيد الله والبراءة من الاَلهة والأنداد ونبوّة الأنبـياء علـيهم السلام, وسمع داعي الله فأجابه وعمل بطاعة الله. كما:
14047ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: مَثَلُ الفَرِيقَـيْنِ كالأعْمَى والأصَمّ والبَصِيرِ والسّمِيعِ قال: الأعمى والأصمّ: الكافر, والبصير والسميع: الـمؤمن.
14048ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: مَثَلُ الفَرِيقَـيْنِ كالأعْمَى والأصَمّ والبَصِيرِ والسّمِيعِ: الفريقان الكافران, والـمؤمنان, فأما الأعمى والأصمّ فـالكافران, وأما البصير والسميع فهما الـمؤمنان.
14049ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: مَثَلُ الفَرِيقَـيْنِ كالأعْمَى والأصَمّ والبَصِيرِ والسّمِيعِ.... الآية, هذا مثل ضربه الله للكافر والـمؤمن, فأما الكافر فصمّ عن الـحقّ فلا يسمعه, وعمي عنه فلا يبصره. وأما الـمؤمن فسمع الـحقّ فـانتفع به وأبصره فوعاه وحفظه وعمل به.
يقول تعالـى: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً يقول: هل يستوي هذان الفريقان علـى اختلاف حالتـيهما فـي أنفسهما عندكم أيها الناس؟ فإنهما لا يستويان عندكم, فكذلك حال الكافر والـمؤمن لا يستويان عند الله. أفَلا تَذَكّرُونَ يقول جلّ ثناؤه: أفلا تعتبرون أيها الناس وتتفكرون, فتعلـموا حقـيقة اختلاف أمريهما, فتنزجروا عما أنتـم علـيه من الضلال إلـى الهدى ومن الكفر إلـى الإيـمان؟ فـالأعمى والأصم والبصير والسميع فـي اللفظ أربعة, وفـي الـمعنى اثنان, ولذلك قـيـل: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً وقـيـل: كالأعمى والأصمّ, والـمعنى: كالأعمى الأصمّ, وكذلك قـيـل: والبصير والسميع, والـمعنى: البصير السميع, كقول القائل: قام الظريف والعاقل, وهو ينعت بذلك شخصا واحدا.
الآية : 25-26
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ إِنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ * أَن لاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ اللّهَ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ }.
يقول تعالـى ذكره: وَلَقَدْ أرْسَلْنا نُوحا إلـى قَوْمِهِ إنّـي لَكُمْ أيّها القوم نَذِيرٌ من الله أنذركم بأسه علـى كفركم به, فآمنوا به وأطيعوا أمره. ويعنـي بقوله: مُبِـينٌ: يبـين لكم عما أرسل به إلـيكم من أمر الله ونهيه.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: إنّـي فقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة وبعض الـمدنـيـين بكسر «إن» علـى وجه الابتداء, إذ كان فـي الإرسال معنى القول. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الـمدينة والكوفة والبصرة بفتـح «أَنّ» علـى إعمال الإرسال فـيها, كأن معنى الكلام عندهم: لقد أرسلنا نوحا إلـى قومه بأنـي لكم نذير مبـين.
والصواب من القول فـي ذلك عندي, أن يُقال: إنهما قراءتان متفقتا الـمعنى, قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء, فبأيتهما قرأ القارىء كان مصيبـا للصواب فـي ذلك.
وقوله: أنْ لا تَعْبُدُوا إلاّ اللّهَ فمن كسر الألف فـي قوله: إنـي جعل قوله: أرْسَلْنا عاملاً فـي «أَنْ» التـي فـي قوله: أنْ لا تَعْبُدُوا إلاّ اللّهَ ويصير الـمعنى حينئذ: ولقد أرسلنا نوحا إلـى قومه, أن لا تعبدوا إلا الله, وقل لهم إنّـي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِـينٌ. ومن فتـحها, ردّ «أنْ» فـي قوله: أنْ لا تَعْبُدُوا علـيها, فـيكون الـمعنى حينئذ: لقد أرسلنا نوحا إلـى قومه بأنـي لكم نذير مبـين, بأن لا تعبدوا إلا الله. ويعنـي بقوله: بأن لا تعبدوا إلا الله أيها الناسُ, عبـادة الاَلهة والأوثان وإشراكها فـي عبـادته, وأفردوا الله بـالتوحيد وأخـلصوا له العبـادة, فإنه لا شريك له فـي خـلقه. وقوله: إنّـي أخافُ عَلَـيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ ألِـيـم يقول: إنـي أيها القوْم إن لـم تَـخُصّوا الله بـالعبـادة وتفردوه بـالتوحيد وتـخـلعوا ما دونه من الأنداد والأوثان, أخاف علـيكم من الله عذاب يوم مؤلـم عقابُه وعذابه لـمن عذّب فـيه. وجعل الألـيـم من صفة الـيوم وهو من صفة العذاب, إذ كان العذاب فـيه كما قـيـل: وَجَعَلَ اللّـيْـلَ سَكَنا وإنـما السّكن من صفة ما سكن فـيه دون اللـيـل.
الآية : 27
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَقَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاّ بَشَراً مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتّبَعَكَ إِلاّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرّأْيِ وَمَا نَرَىَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنّكُمْ كَاذِبِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: فقال الكبراء من قوم نوح وأشرافهم, وهم الـملأ الذين كفروا بـالله وجحدوا نبوّة نبـيهم نوح علـيه السلام: ما نَرَاكَ يا نوح إلاّ بَشَرا مِثْلَنا يعنون بذلك أنه آدميّ مثلُهم فـي الـخـلق والصورة والـجنس, كأنهم كانوا منكرين أن يكون الله يرسل من البشر رسولاً إلـى خـلقه. وقوله: وَما نَرَاكَ اتّبَعَكَ إلاّ الّذِينَ هُمْ أرَاذِلُنا بـادِيَ الرأيِ يقول: وما نراك اتبعك إلا الذين هم سَفِلتنا من الناس دون الكبراء والأشراف فـيـما يُرَى ويظهر لنا. وقوله: بـادِيَ الرأيِ اختلفت القرّاء فـي قراءته, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والعراق: بـادِيَ الرأيِ بغير همز «البـادي» وبهمز «الرأي», بـمعنى: ظاهر الرأي, من قولهم: بدا الشيء يبدو: إذا ظهر, كما قال الراجز:
أضْحَى لـخالـي شَبَهِي بـادِيَ بَدِيْوصَارَ للفَحْلِ لِسانِـي وَيَدِي
«بـادي بدي» بغير همز. وقال آخر:
وَقَدْ عَلَتْنِـي ذُرْأةٌ بـادِي بَدِي
وقرأ ذلك بعض أهل البصرة: «بـادِىءَ الرأيِ» مهموز أيضا, بـمعنى: مبتدأ الرأي, من قولهم: بدأت بهذا الأمر: إذا ابتدأت به قبل غيره.
وأولـى القراءتـينِ بـالصواب فـي ذلك عندنا قراءة من قرأ: بـادِيَ بغير همز «البـادي», وبهمز «الرأي», لأن معنى ذلك الكلام: إلا الذين هم أراذلنا فـي ظاهر الرأي وفـيـما يظهر لنا.
وقوله: وَما نَرَى لَكُمْ عَلَـيْنا مِنْ فَضْلٍ يقول: وما نتبـين لكم علـينا من فضل نلتـموه بـمخالفتكم إيانا فـي عبـادة الأوثان إلـى عبـادة الله وإخلاص العبودة له, فنتبعكم طلب ذلك الفضل وابتغاء ما أصبتـموه بخلافكم إيانا بَلْ نَظُنّكُمْ كاذِبِـينَ وهذا خطاب منهم لنوح علـيه السلام, وذلك أنهم إنـما كذّبوا نوحا دون أتبـاعه, لأن أتبـاعه لـم يكونوا رسلاً. وأخرج الـخطاب وهو واحد مخرج خطاب الـجميع, كما قـيـل: يا أيّها النّبِـيّ إذا طَلّقْتُـمُ النّساءَ وتأويـل الكلام: بل نظنك يا نوح فـي دعواك أن الله ابتعثك إلـينا رسولاً كاذبـا.
وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل قوله بـادِيَ الرأي قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
14050ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجا, عن ابن جريج, عن عطاء الـخُراسانـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَما نَرَاكَ اتّبَعَكَ إلاّ الّذِينَ هُمْ أرَاذِلُنا بـادِيَ الرأيِ قال: فـيـما ظهر لنا.
الآية : 28
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ يَقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مّنْ عِندِهِ فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ }.
يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل نوح لقومه إذ كذبوه وردّوا علـيه ما جاءهم به من عند الله من النصيحة: يا قَوْمِ أرأيْتُـمْ إنْ كُنْتُ علـى بَـيّنَةٍ مِنْ رَبّـي علـى علـم ومعرفة وبـيان من الله لـي ما يـلزمنـي له, ويجب علـيّ من إخلاص العبـادة له وترك إشراك الأوثان معه فـيها. وآتانِـي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ يقول: ورزقنـي منه التوفـيق والنبوّة والـحكمة, فآمنت به وأطعته فـيـما أمرنـي ونهانـي. فَعُمّيَتْ عَلَـيْكُمْ.
واختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قراء أهل الـمدينة وبعض أهل البصرة والكوفة: «فَعَمِيَتْ» بفتـح العين وتـخفـيف الـميـم, بـمعنى: فعميت الرحمة علـيكم فلـم تهتدوا لها فتقروا بها وتصدقوا رسولكم علـيها. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفـيـين: فَعُمّيَتْ عَلَـيْكُمْ بضمّ العين وتشديد الـميـم, اعتبـارا منهم ذلك بقراءة عبد الله, وذلك أنهما فـيـما ذكر فـي قراءة عبد الله: «فعماها علـيكم».
وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندي بـالصواب قراءة من قرأه: فَعُمّيَتْ عَلَـيْكُمْ بضمّ العين وتشديد الـميـم للذي ذكروا من العلة لـمن قرأ به, ولقربه من قوله: أرأيْتُـمْ إنْ كُنْتُ علـى بَـيّنَةٍ مِنْ رَبـيّ وآتانِـي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فأضاف الرحمة إلـى الله, فكذلك تعميته علـى الاَخرين بـالإضافة إلـيه أولـى. وهذه الكلـمة مـما حوّلت العرب الفعل عن موضعه, وذلك أن الإنسان هو الذي يَعْمَى عن إبصار الـحقّ, إذ يَعْمى عن إبصاره, والـحقّ لا يوصف بـالعَمَى إلا علـى الاستعمال الذي قد جري به الكلام, وهو فـي جوازه لاستعمال العرب إياه نظير قولهم: دخـل الـخاتـم فـي يدي, والـخفّ فـي رجلـي, ومعلوم أن الرجل هي التـي تدخـل فـي الـخفّ, والأصبع فـي الـخاتـم, ولكنهم استعملوا ذلك كذلك لـما كان معلوما الـمراد فـيه.
وقوله: أنُلْزِمُكْمُوها وأنْتُـمْ لَهَا كارِهُونَ يقول: أنأخذكم بـالدخول فـي الإسلام وقد عماه الله علـيكم, لها كَارِهُونَ يقول: وأنتـم لإلزامناكموها كارهون, يقول: لا نفعل ذلك, ولكن نكل أمركم إلـى الله حتـى يكون هو الذي يقضي فـي أمركم ما يرى ويشاء.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
14051ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال نوح: يا قَوْمِ إنْ كُنْتُ عَلَـى بَـيّنَةٍ مِنْ رَبّـي قال: قد عرفُتها وعرفتُ بها أمره وأنه لا إله إلا هو, وآتَانِـي رَحْمَةً مِنْ عِنَدِهِ: الإسلام والهدى والإيـمان والـحكم والنبوّة.
14052ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أرأيْتُـمْ إنْ كُنْتُ علـى بَـيّنَةٍ مِنْ رَبّـي... الآية, أما والله لو استطاع نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه, ولكن لـم يستطع ذلك ولـم يـملكه.
14053ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا سفـيان, عن داود, عن أبـي العالـية, قال: فـي قراءة أبـيّ: «أنلزُمكموها من شطر أنفسنا وأنتـم لها كارهون».
14054ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن الزبـير, عن ابن عيـينة, قال: أخبرنا عمرو بن دينار قال: قرأ ابن عبـاس: «أنلزمكموها من شطر أنفسنا» قال عبد الله: مِنْ شَطْرِ أنفسنا: من تلقاء أنفسنا.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا ابن عيـينة, عن عمرو بن دينار, عن ابن عبـاس مثله.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفـيان, عن داود بن أبـي هند, عن أبـي العالـية, عن أبـيّ بن كعب: أنلزمكموها من شطر قلوبنا وأنتـم لها كارهون