سورة هود | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 231 من المصحف
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 231 {يإِبْرَٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ * وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ * قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِىۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِى مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٍ * وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ إِنِّىۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّىۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ *وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلاٌّرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَوَٰتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِىۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لاّنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ}
قوله تعالى: {يإِبْرَٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}. هذا العذاب الذي صرح هنا بأنه آت قوم لوط، لا محالة وأنه لا مرد له بينه في مواضع متعددة، كقوله في هذه السورة الكريمة {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍمُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِى مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٍ}.
وقوله في الحجر {فَجَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍإِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـٰتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}.
وقوله {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِىۤ أُمْطِرَتْ مَطَرَ ٱلسَّوْءِ}.
وقوله {ثُمَّ دَمَّرْنَا ٱلاٌّخَرِينَوَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ}.
وقوله {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍمُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}.
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن لوطاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاءته رسل ربه من الملائكة حصلت له بسبب مجيئهم مساءة عظيمة ضاق صدره بها، وأشار في مواضع متعددة إلى أن سبب مساءته وكونه ضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب أنه ظن أنهم ضيوف من بني آدم كما ظنه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. وظن أن قومه ينتهكون حرمة ضيوفه فيفعلون بهم فاحشة اللواط، لأنهم إن علموا بقدوم ضيف فرحوا واستبشروا به ليفعلوا به الفاحشة المذكورة ـ فمن ذلك قوله هنا {وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌقَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}.
وقوله في الحجر: {وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَقَالَ إِنَّ هَـٰؤُلآءِ ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِوَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِقَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَقَالَ هَـٰؤُلآءِ بَنَاتِى إِن كُنْتُمْ فَـٰعِلِينَلَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
وقوله {ويُهْرَعُون} أي يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك، ومنه قول مهلهل:
فجاؤوا يهرعون وهم أسارى تقودهم على رغم الأنوف
وقوله: {وَلاَ تُخْزُونِ} أي لا تهينون ولا تذلون بانتهاك حرمة ضيفي. والاسم منه: الخزي ـ بكسر الخاء وإسكان الزاي ـ. ومنه قول حسان في عتبة بن أبي وقاص: فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق
وقال بعض العلماء: قوله {وَلاَ تُخْزُونِ} من الخزاية، وهي الخجل والاستحياء من الفضيحة. أي لا تفعلوا بضيفي ما يكون سبباً في خجلي واستحيائي، ومنه قول ذي الرمة يصف ثوراً وحشياً تطارده الكلاب في جانب حبل من الرمل. حتى إذا دومت في الأرض راجعة كبر ولو شاء نجى نفسه الهرب
خزاية أدركته بعد جولته من جانب الحبل مخلوطاً بها الغضب
يعني أن هذا الثور لو شاء نجا من الكلاب بالهرب، ولكنه استحيا وأنف من الهرب فكر راجعاً إليها. ومنه قوله الآخر: أجاعلة أم الثوير خزاية على فراري أن لقيت بني عبس
والفعل منه: خزى يخزي، كرضى يرضي. ومنه قول الشاعر: من البيض لا تخزي إذا الريح ألصقت بها مرطها أو زايل الحلي جيدها
وقول الآخر: وإنِّي لا أخزى إذا قيل مملق سخى وأخزى أن يقال بخيل
وقوله: {لَعَمْرُكَ} معناه أقسم بحياتك. والله جل وعلا له أن يقسم بما شاء من خلقه، ولم يقسم في القرآن بحياة أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم وفي ذلك من التشريف له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى.
ولا يجوز لمخلوق أن يحلف بغير الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت».
وقوله: {لَعَمْرُكَ} مبتدأ خبره محذوف، أي لعمرك قسمى وسمع عن العرب تقديم الراء على اللام في لعمرك فتقول فيها: رعملك، ومنه قول الشاعر: رعملك إن الطائر الواقع الذي تعرض لي من طائر لصدوق
وقوله: {لَفِى سَكْرَتِهِمْ} أي عماهم وجهلهم وضلالهم. والعمه: عمى القلب، فمعنى {يَعْمَهُونَ} يترددون متحيرين لا يعرفون حقاً من باطل، ولا نافعاً من ضار، ولا حسناً من قبيح.
واختلف العلماء في المراد بقول لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِى} في الموضعين على أقوال:
أحدها ـ أنه أراد المدافعة عن ضيفه فقط، ولم يرد إمضاء ما قال، وبهذا قال عكرمة وأبو عبيدة.
الثاني ـ أن المراد بناته لصلبه، وأن المعنى: دعوا فاحشة اللواط وأزوجكم بناتي. وعلى هذا فتزويج الكافر المسلمة كان جائزاً في شرعه، كما كانت بنات نبينا صلى الله عليه وسلم
تحت الكفار في أول الإسلام كما هو معروف. وقد أرسلت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدها الذي زفتها به أمها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها إلى زوجها أبي العاص بن الربيع، أرسلته إليه في فداء زوجها أبي العاص المذكور لما أسره المسلمون كافراً يوم بدر، والقصة مشهورة، وقد عقدها الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله في غزوة بدر: وابن الربيع صهر هادي الملة إذ في فداه زينب أرسلت
بعقدها الذي به أهدتها له خديجة وزففتها
سرحه بعقدها وعهدا إليه أن يردها له غدا الخ
القول الثالث ـ أن المراد بالبنات: جميع نساء قومه، لأن نبي القوم أب ديني لهم، كما يدل له قوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم: {ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَٰجُهُ أُمَّهَـٰتُهُمْ} وفي قراءة أبي بن كعب: «وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم» وروي نحوها عن ابن عباس. وبهذا القول قال كثير من العلماء.
وهذا القول تقربه قرينة وتبعده أخرى. أما القرينة التي تقربه فهي: أن بنات لوط لا تسع جميع رجال قومه كما هو ظاهر، فإذا زوجهن لرجال بقدر عددهن بقي عامة رجال قومه لا أزواج لهم. فيتعين أن المراد عموم نساء قومه، ويدل للعموم قوله: {أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَٰجِكُمْ} وقوله: {لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ} ونحو ذلك من الآيات.
وأما القرينة التي تبعده: فهي أن النَّبي ليس أباً للكافرات، بل أبوة الأنبياء الدينية للمؤمنين دون الكافرين، كما يدل عليه قوله: {ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ}.
وقد صرح تعالى في الذاريات: بأن قوم لوط ليس فيهم مسلم إلا أهل بيت واحد وهم أهل بيت لوط، وذلك في قوله {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ}. قوله تعالى: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِىۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍقَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ}.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن نبيه لوطاً وعظ قومه ونهاهم أن يفضحوه في ضيفه، وعرض عليهم النساء وترك الرجال، فلم يلتفوا إلى قوله، وتمادوا فيما هم فيه من إرادة الفاحشة فقال لوط: {لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً}. فأخبرته الملائكة بأنهم رسل ربه، وأن الكفار الخبثاء لا يصلون إليه بسوء.
وبين في القمر أنه تعالى طمس أعينهم، وذلك في قوله: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ}. قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ}. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه أمر نبيه لوطاً أن يسري بأهله بقطع من الليل، ولم يبين هنا هل هو من آخر الليل، أو وسطه أو أوله، ولكنه بين في القمر أن ذلك من آخر الليل وقت السحر، وذلك في قوله: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَـٰهُم بِسَحَرٍ}. ولم يبين هنا أنه أمره أن يكون من ورائهم وهم أمامه، ولكنه بين ذلك في الحجر بقوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيْلِ وَٱتَّبِعْ أَدْبَـٰرَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}. وقوله تعالى: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ}. قرأه جمهور القراء {إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ} بالنصب، وعليه فالأمر واضح. لأنه استثناء من الأهل، أي أسر بأهلك إلا امرأتك فلا تسر بها، واتركها في قومها فإنها هالكة معهم.
ويدل لهذا الوجه قوله فيها في مواضع. {كَانَتْ مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ} والغابر: الباقي، أي من الباقين في الهلاك.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير {إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ} بالرفع على أنه بدل من {عَذَابَهُ أَحَدٌ} وعليه فالمعنى: أنه أمر لوطاً أن ينهي جميع أهله عن الالتفات إلا امرأته فإنه أوحى إليه أنها هالكة لا محالة، ولا فائدة في نهيها عن الالتفات لكونها من جملة الهالكين.
وعلى قراءة الجمهور فهو لم يسر بها. وظاهر قراءة أبي عمرو وابن كثير: أنه أسرى بها والتفتت فهلكت.
قال بعض العلماء: لما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت: واقوماه. فأدركها حجر فقتلها.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ الظاهر أن وجه الجمع بين القراءتين المذكورتين أن السر في أمر لوط بأن يسري بأهله هو النجاة من العذاب الواقع صبحاً بقوم لوط، وامرأة لوط مصيبها ذلك العذاب الذي أصاب قومها لا محالة، فنتيجة إسراء لوط بأهله لم تدخل فيها امرأته على كلا القولين، وما لا فائدة فيه كالعدم، فيستوي معنى أنه تركها ولم يسر بها أصلاً، وأنه أسرى بها وهلكت مع الهالكين.
فمعنى القولين راجع إلى أنها هالكة وليس لها نفع في إسراء لوط بأهله. فلا فرق بين كونها بقيت معهم، أو خرجت وأصابها ما أصابهم.
فإذا كان الإسراء مع لوط لم ينجها من العذاب، فهي ومن لم يسر معه سواء ـ والعلم عند الله تعالى.
وقوله {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} قرأه نافع وابن كثير «فاشر» بهمزة وصل. من سرى يسري، وقرأه جمهور القراء {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} بقطع الهمزة، من أسرى الرباعي على وزن أفعل. وسرى وأسرى: لغتان وقراءتان صحيحتان سبعيتان، ومن سرى الثلاثية، قوله تعالى: {وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} فإن فتح ياء {يَسْرِ} يدل على أنه مضارع سرى الثلاثية.
وجمع اللغتين قول نابغة ذبيان: أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجى الشمال عليها جامد البرد
فإنه قال: أسرت، رباعية في أشهر روايتي البيت. وقوله: سارية. اسم فاعل سرى الثلاثية، وجمعهما أيضاً قول الآخر: حتى النضيرة ربة الخدر أسرت إليك ولم تكن تسري
بفتح تاء «تسري» واللغتان كثيرتان جداً في كلام العرب. ومصدر الرباعية الإسراء على القياس، ومصدر الثلاثية السرى ـ بالضم ـ على وزن فعل ـ بضم ففتح ـ على غير قياس، ومنه قول عبد الله بن رواحة: عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى
قوله تعالى: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ}. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن موعد إهلاك قوم لوط وقت الصبح من تلك الليلة، وكذلك قال في الحجر في قوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلاٌّمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَـٰؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} وزاد في الحجر أن صبيحة العذاب وقعت عليهم وقت الإشراق وهو وقت طلوع الشمس بقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ}. قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ}. اختلف العلماء في المراد بحجارة السجيل اختلافاً كثيراً، والظاهر أنها حجارة من طين في غاية الشدة والقوة. والدليل على أن المراد بالسجيل: الطين. قوله تعالى في الذاريات في القصة بعينها: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍمُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ}، وخير ما يفسر به القرآن: القرآن. والدليل على قوتها وشدتها: أن الله ما عذبهم بها في حالة غضبه عليهم إلا لأن النكال بها بالغ شديد. وأيضاً فإن بعض العلماء قالوا: السجيل والسجين: أختان، كلاهما الشديد من الحجارة والضرب. ومنه قول ابن مقبل.
ورجلة يضربون البيض ضاحية ضرباً تواصى به الأبطال سجينا
وعلى هذا، فمعنى من سجيل: أي من طين شديد القوة. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَمَا هِى مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٍ}. في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه من التفسير للعلماء: اثنان منها كلاهما يشهد له القرآن، وواحد يظهر أنه ضعيف.
أما الذي يظهر أنه ضعيف فهو أن المعنى: أن تلك الحجارة ليست بعيدة من قوم لوط. أي لم تكن تخطئهم.
قاله القرطبي وغيره. لأن هذا يكفي عنه قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً} ونحوها من الآيات. أما الوجهان اللذان يشهد لكل واحد منهما قرآن فالأول منهما: أن ديار قوم لوط ليست ببعيدة من الكفار المكذبين لنبينا. فكان عليهم أن يعتبروا بما وقع لأهلها إذا مروا عليها في أسفارهم إلى الشام، ويخافوا أن يوقع الله بهم بسبب تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما وقع من العذاب بأولئك، بسبب تكذيبهم لوطاً عليه الصلاة والسلام. والآيات الدالة على هذا كثيرة جداً. كقوله: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِين َوَبِٱلَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، وقوله: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيم ٍإِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}،وقوله: {وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلاٌّلِيمَ} وقوله: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} إلى غير ذلك من الآيات. وعلى هذا القول فالضمير في قوله {وَمَا هِىَ} راجع إلى ديار قوم لوط المفهومة من المقام.
الوجه الثاني ـ أن المعنى: وما تلك الحجارة التي أمطرت على قوم لوط ببعيد من الظالمين للفاعلين مثل فعلهم، فهو تهديد لمشركي العرب كالذي قبله.
ومن الآيات الدالة على هذا الوجه قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلاٌّرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَـٰفِرِينَ أَمْثَـٰلُهَ} فإن قوله: {وَلِلْكَـٰفِرِينَ أَمْثَـٰلُهَ} ظاهر جداً في ذلك، والآيات بنحو ذلك كثيرة.
تنبيه
اختلف العلماء في عقوبة من ارتكب فاحشة قوم لوط، وسنذكر إن شاء الله أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم وما يظهر رجحانه بالدليل من ذلك فنقول وبالله جل وعلا نستعين:
قال بعض العلماء: الحكم في ذلك: أن يقتل الفاعل والمفعول به مطلقاً سواء كانا محصنين أو بكرين، أو أحدهما محصناً والآخر بكراً.
وممن قال بهذا القول: مالك بن أنس وأصحابه، وهو أحد قولي الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد. وحكى غير واحد إجماع الصحابة على هذا القول، إلا أن القائلين به اختلفوا في كيفية قتل من فعل تلك الفاحشة.
قال بعضهم: يقتل بالسيف.
وقال بعضهم: يرجم بالحجارة.
وقال بعضهم: يحرق بالنار.
وقال بعضهم: يرفع على أعلى بناء في البلد فيرمى منه منكساً ويتبع بالحجارة.
وحجة من قال بقتل الفاعل والمفعول به في اللواط مطلقاً: ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن عكرمة عن ابن عباس: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به».
قال ابن حجر: ورجاله موثقون، إلا أن فيه اختلافاً اهـ. وما ذكره يحيى بن معين من أن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ينكر عليه حديث عكرمة هذا عن ابن عباس، فيه أن عمراً المذكور ثقة، أخرج له الشيخان ومالك كما قدمناه مستوفى.
ويعتضد هذا الحديث بما رواه سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية: أنه يرجم. أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي.
وبما أخرجه الحاكم وابن ماجه عن أبي هريرة، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا» قال الشوكاني وإسناده ضعيف.
قال ابن الطلاع في أحكامه: لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه، وثبت عنه أنه قال: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة. اهـ.
قال الحافظ: وحديث أبي هريرة لا يصح، وقد أخرجه البزار من طريق عاصم بن عمر العمري عن سهيفل عن أبيه عنه وعاصم متروك. وقد رواه ابن ماجه من طريقه بلفظ: «فارجموا الأعلى والأسفل» اهـ.
وأخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه: أنه رجم لوطياً، ثم قال: قال الشافعي: وبهذا نأخذ برجم اللوطي محصناً كان أو غير محصن.
وقال هذا قول ابن عباس قال: وسعيد بن المسيب يقول: السنه أن يرجم اللوطي أحصن أو لم يحصن.
وقال البيهقي أيضاً: وأخبرنا أبو نصر بن قتادة، وأبو بكر محمد بن إبراهيم الفارسي قالا: ثنا أبو عمرو بن مطر، ثنا إبراهيم بن علي، ثنا يحيى بن يحيى، أنبأ عبد العزيز بن أبي حازم،
أنبأ داود بن بكر عن محمد بن المنكدر، عن صفوان بن سليم أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في خلافته يذكر له: أنه وجد رجلاً في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، وأن أبا بكر رضي الله عنه جمع الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذ قولاً علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال: إن هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن تحرقه بالنار. فاجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار. فكتب أبو بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد رضي عنه يأمره أن يحرقه بالنار. هذا مرسل.
وروي من وجه آخر عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي رضي الله عنه في غير هذه القصة قال: يرجم ويحرق بالنار.
ويذكر عن ابن أبي ليلى عن رجل من همدان: أن علياً رضي الله عنه رجم رجلاً محصناً في عمل قوم لوط. هكذا ذكره الثوري عنه مقيداً بالإحصان. وهشيم رواه عن ابن أبي ليلى مطلقاً اهـ منه بلفظه.
فهذه حجج القائلين بقتل الفاعل والمفعول به في اللواط.
وحجة من قال: إن ذلك القتل بالنار هو ما ذكرناه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفاً.
وحجة من قال: إن قتله بالسيف قوله صلى الله عليه وسلم: «فاقتلوا الفاعل والمفعول به» والقتل إذا أطلق انصرف إلى القتل بالسيف.
وحجة من قال: إن قتله بالرجم هو ما قدمنا من رواية سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس: أنه يرجم. وما ذكره البيهقي وغيره عن علي أنه رجم لوطياً، ويستأنس لذلك بأن الله رمى أهل تلك الفاحشة بحجارة السجيل.
وحجة من قال: يرفع على أعلى بناء أو جبل ويلقى منكساً ويتبع بالحجارة: أن ذلك هو الذي فعله الحكيم الخبير بقوم لوط، كما قال: {جَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ}.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا الأخير غير ظاهر، لأن قوم لوط لم يكن عقابهم على اللواط وحده، بل عليه، وعلى الكفر، وتكذيب نبيهم صلى الله عليه وسلم. فهم قد جمعوا إلى اللواط ما هو أعظم من اللواط، وهو الكفر بالله، وإيذاء رسوله صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني ـ هو أن اللواط زنى فيجلد مرتكبه مائة إن كان بكراً ويغرب سنة، ويرجم إن كان محصناً. وهذا القول هو أحد قولي الشافعي.
وذكر البيهقي عن الربيع بن سليمان: أن الشافعي رجع إلى أن اللواط زنى، فيجري عليه حكم الزنى، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمهم الله تعالى.
ورواه البيهقي عن عطاء وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وهو قول أبي يوسف ومحمد وسعيد بن المسيب والحسن وقتادة والنخعي والثوري والأوزاعي وغيرهم.
واحتج أهل هذا القول بما رواه البيهقي عن محمد بن عبد الرحمن عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس بن يعقوب، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا أبو بدر، ثنا محمد بن عبد الرحمن فذكره. قال الشيخ: ومحمد بن عبد الرحمن هذا لا أعرفه، وهو منكر بهذا الإسناد. انتهى منه بلفظه.
وقال الشوكاني رحمه الله في «نيل الأوطار» في هذا الحديث، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن كذبه أبو حاتم.
وقال البيهقي لا أعرفه، والحديث منكر بهذا الإسناد. ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء، والطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي موسى. وفيه بشر بن المفضل البجلي وهو مجهول.
وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه اهـ منه.
واستدل القائلون بهذا القول أيضاً بقياس اللواط على الزنى بجامع أن الكل إيلاج فرج في فرج محرم شرعاً، مشتهى طبعاً.
ورد بأن القياس لا يكون في الحدود، لأنها تدرأ بالشبهات. والأكثرون على جواز القياس في الحدود، وعليه درج في مراقي السعود بقوله: والحد والكفارة التقدير جوازه فيها هو المشهور
إلا أن قياس اللائط على الزاني يقدح فيه بالقادح المسمى: «فساد الاعتبار»، لمخالفته لحديث ابن عباس المتقدم: أن الفاعل والمفعول به يقتلان مطلقاً، أحصنا أو لم يحصنا، ولا شك أن صاحب الفطرة السليمة لا يشتهي اللواط، بل ينفر منه غاية النفور بطبعه كما لا يخفى.
القول الثالث ـ أن اللائط لا يقتل ولا يحد حد الزنى، وإنما يعزر بالضرب والسجن ونحو ذلك. وهذا قول أبي حنيفة.
واحتج أهل هذا القول بأن الصحابة اختلفوا فيه، واختلافهم فيه يدل على أنه ليس فيه نص صحيح، وأنه من مسائل الاجتهاد، والحدود تدرأ بالشبهات قالوا: ولا يتناوله اسم الزنى، لأن لكل منهما اسماً خاصاً به، كما قال الشاعر:
من كف ذات حر في زي ذي ذكر لها محبان لوطي وزناء
قالوا: ولا يصح إلحاقه بالزنى لوجود الفارق بينهما. لأن الداعي في الزنى من الجانبين بخلاف اللواط، ولأن الزنى يفضي إلى الاشتباه في النسب وإفساد الفراش بخلاف اللواط. قال في مراقي السعود: والفرق بين الأصل والفرع قدح إبداء مختص بالأصل قد صلح
أو مانع في الفرع... الخ... ...
واستدل أهل هذا القول أيضاً بقوله تعالى: {وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ فَأاذُوهُمَ}.
قالوا: المراد بذلك: اللواط. والمراد بالإيذاء: السبب أو الضرب بالنعال.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد {وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ} قال: الرجلان الفاعلان.
وأخرج آدم والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله: {فَأاذُوهُمَ} يعني سبا، قاله صاحب «الدر المنثور».
{قَالَ يٰقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَـٰكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلَـٰحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِىۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِىۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَـٰلِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ * وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ}
قوله تعالى: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَـٰكُمْ عَنْهُ}. ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن نبيه شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أنه أخبر قومه: أنه إذا نهاهم عن شيء انتهى هو عنه وأن فعله لا يخالف قوله.
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن الإنسان يجب عليه أن يكون منتهياً عما ينهى عنه غيره، مؤتمراً بما يأمر به غيره.
وقد بين تعالى ذلك في مواضع أخر. كقوله: {أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}. وقوله: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.
وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: أي فلان. ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ٰ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه».
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فتندلق أقتابه» أي تتدلى أمعاؤه.
وأخرج وكيع وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو نُعيم في الحلية، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت رجعت. فقلت لجبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» قاله صاحب «الدر المنثور». اهـ. وقد قال الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وقد أجاد من قال: وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو مريض
ومعلوم أن عمل الإنسان بما ينصح به غيره أدعى لقبول غيره منه. كما قال الشاعر:
فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر به تلف من إياه تأمر آتي
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 231 {يإِبْرَٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ * وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ * قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِىۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِى مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٍ * وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ إِنِّىۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّىۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ *وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلاٌّرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَوَٰتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِىۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لاّنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ}
قوله تعالى: {يإِبْرَٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}. هذا العذاب الذي صرح هنا بأنه آت قوم لوط، لا محالة وأنه لا مرد له بينه في مواضع متعددة، كقوله في هذه السورة الكريمة {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍمُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِى مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٍ}.
وقوله في الحجر {فَجَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍإِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـٰتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}.
وقوله {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِىۤ أُمْطِرَتْ مَطَرَ ٱلسَّوْءِ}.
وقوله {ثُمَّ دَمَّرْنَا ٱلاٌّخَرِينَوَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ}.
وقوله {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍمُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}.
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن لوطاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاءته رسل ربه من الملائكة حصلت له بسبب مجيئهم مساءة عظيمة ضاق صدره بها، وأشار في مواضع متعددة إلى أن سبب مساءته وكونه ضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب أنه ظن أنهم ضيوف من بني آدم كما ظنه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. وظن أن قومه ينتهكون حرمة ضيوفه فيفعلون بهم فاحشة اللواط، لأنهم إن علموا بقدوم ضيف فرحوا واستبشروا به ليفعلوا به الفاحشة المذكورة ـ فمن ذلك قوله هنا {وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌقَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}.
وقوله في الحجر: {وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَقَالَ إِنَّ هَـٰؤُلآءِ ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِوَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِقَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَقَالَ هَـٰؤُلآءِ بَنَاتِى إِن كُنْتُمْ فَـٰعِلِينَلَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
وقوله {ويُهْرَعُون} أي يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك، ومنه قول مهلهل:
فجاؤوا يهرعون وهم أسارى تقودهم على رغم الأنوف
وقوله: {وَلاَ تُخْزُونِ} أي لا تهينون ولا تذلون بانتهاك حرمة ضيفي. والاسم منه: الخزي ـ بكسر الخاء وإسكان الزاي ـ. ومنه قول حسان في عتبة بن أبي وقاص: فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق
وقال بعض العلماء: قوله {وَلاَ تُخْزُونِ} من الخزاية، وهي الخجل والاستحياء من الفضيحة. أي لا تفعلوا بضيفي ما يكون سبباً في خجلي واستحيائي، ومنه قول ذي الرمة يصف ثوراً وحشياً تطارده الكلاب في جانب حبل من الرمل. حتى إذا دومت في الأرض راجعة كبر ولو شاء نجى نفسه الهرب
خزاية أدركته بعد جولته من جانب الحبل مخلوطاً بها الغضب
يعني أن هذا الثور لو شاء نجا من الكلاب بالهرب، ولكنه استحيا وأنف من الهرب فكر راجعاً إليها. ومنه قوله الآخر: أجاعلة أم الثوير خزاية على فراري أن لقيت بني عبس
والفعل منه: خزى يخزي، كرضى يرضي. ومنه قول الشاعر: من البيض لا تخزي إذا الريح ألصقت بها مرطها أو زايل الحلي جيدها
وقول الآخر: وإنِّي لا أخزى إذا قيل مملق سخى وأخزى أن يقال بخيل
وقوله: {لَعَمْرُكَ} معناه أقسم بحياتك. والله جل وعلا له أن يقسم بما شاء من خلقه، ولم يقسم في القرآن بحياة أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم وفي ذلك من التشريف له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى.
ولا يجوز لمخلوق أن يحلف بغير الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت».
وقوله: {لَعَمْرُكَ} مبتدأ خبره محذوف، أي لعمرك قسمى وسمع عن العرب تقديم الراء على اللام في لعمرك فتقول فيها: رعملك، ومنه قول الشاعر: رعملك إن الطائر الواقع الذي تعرض لي من طائر لصدوق
وقوله: {لَفِى سَكْرَتِهِمْ} أي عماهم وجهلهم وضلالهم. والعمه: عمى القلب، فمعنى {يَعْمَهُونَ} يترددون متحيرين لا يعرفون حقاً من باطل، ولا نافعاً من ضار، ولا حسناً من قبيح.
واختلف العلماء في المراد بقول لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِى} في الموضعين على أقوال:
أحدها ـ أنه أراد المدافعة عن ضيفه فقط، ولم يرد إمضاء ما قال، وبهذا قال عكرمة وأبو عبيدة.
الثاني ـ أن المراد بناته لصلبه، وأن المعنى: دعوا فاحشة اللواط وأزوجكم بناتي. وعلى هذا فتزويج الكافر المسلمة كان جائزاً في شرعه، كما كانت بنات نبينا صلى الله عليه وسلم
تحت الكفار في أول الإسلام كما هو معروف. وقد أرسلت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدها الذي زفتها به أمها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها إلى زوجها أبي العاص بن الربيع، أرسلته إليه في فداء زوجها أبي العاص المذكور لما أسره المسلمون كافراً يوم بدر، والقصة مشهورة، وقد عقدها الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله في غزوة بدر: وابن الربيع صهر هادي الملة إذ في فداه زينب أرسلت
بعقدها الذي به أهدتها له خديجة وزففتها
سرحه بعقدها وعهدا إليه أن يردها له غدا الخ
القول الثالث ـ أن المراد بالبنات: جميع نساء قومه، لأن نبي القوم أب ديني لهم، كما يدل له قوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم: {ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَٰجُهُ أُمَّهَـٰتُهُمْ} وفي قراءة أبي بن كعب: «وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم» وروي نحوها عن ابن عباس. وبهذا القول قال كثير من العلماء.
وهذا القول تقربه قرينة وتبعده أخرى. أما القرينة التي تقربه فهي: أن بنات لوط لا تسع جميع رجال قومه كما هو ظاهر، فإذا زوجهن لرجال بقدر عددهن بقي عامة رجال قومه لا أزواج لهم. فيتعين أن المراد عموم نساء قومه، ويدل للعموم قوله: {أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَٰجِكُمْ} وقوله: {لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ} ونحو ذلك من الآيات.
وأما القرينة التي تبعده: فهي أن النَّبي ليس أباً للكافرات، بل أبوة الأنبياء الدينية للمؤمنين دون الكافرين، كما يدل عليه قوله: {ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ}.
وقد صرح تعالى في الذاريات: بأن قوم لوط ليس فيهم مسلم إلا أهل بيت واحد وهم أهل بيت لوط، وذلك في قوله {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ}. قوله تعالى: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِىۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍقَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ}.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن نبيه لوطاً وعظ قومه ونهاهم أن يفضحوه في ضيفه، وعرض عليهم النساء وترك الرجال، فلم يلتفوا إلى قوله، وتمادوا فيما هم فيه من إرادة الفاحشة فقال لوط: {لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً}. فأخبرته الملائكة بأنهم رسل ربه، وأن الكفار الخبثاء لا يصلون إليه بسوء.
وبين في القمر أنه تعالى طمس أعينهم، وذلك في قوله: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ}. قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ}. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه أمر نبيه لوطاً أن يسري بأهله بقطع من الليل، ولم يبين هنا هل هو من آخر الليل، أو وسطه أو أوله، ولكنه بين في القمر أن ذلك من آخر الليل وقت السحر، وذلك في قوله: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَـٰهُم بِسَحَرٍ}. ولم يبين هنا أنه أمره أن يكون من ورائهم وهم أمامه، ولكنه بين ذلك في الحجر بقوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيْلِ وَٱتَّبِعْ أَدْبَـٰرَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}. وقوله تعالى: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ}. قرأه جمهور القراء {إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ} بالنصب، وعليه فالأمر واضح. لأنه استثناء من الأهل، أي أسر بأهلك إلا امرأتك فلا تسر بها، واتركها في قومها فإنها هالكة معهم.
ويدل لهذا الوجه قوله فيها في مواضع. {كَانَتْ مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ} والغابر: الباقي، أي من الباقين في الهلاك.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير {إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ} بالرفع على أنه بدل من {عَذَابَهُ أَحَدٌ} وعليه فالمعنى: أنه أمر لوطاً أن ينهي جميع أهله عن الالتفات إلا امرأته فإنه أوحى إليه أنها هالكة لا محالة، ولا فائدة في نهيها عن الالتفات لكونها من جملة الهالكين.
وعلى قراءة الجمهور فهو لم يسر بها. وظاهر قراءة أبي عمرو وابن كثير: أنه أسرى بها والتفتت فهلكت.
قال بعض العلماء: لما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت: واقوماه. فأدركها حجر فقتلها.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ الظاهر أن وجه الجمع بين القراءتين المذكورتين أن السر في أمر لوط بأن يسري بأهله هو النجاة من العذاب الواقع صبحاً بقوم لوط، وامرأة لوط مصيبها ذلك العذاب الذي أصاب قومها لا محالة، فنتيجة إسراء لوط بأهله لم تدخل فيها امرأته على كلا القولين، وما لا فائدة فيه كالعدم، فيستوي معنى أنه تركها ولم يسر بها أصلاً، وأنه أسرى بها وهلكت مع الهالكين.
فمعنى القولين راجع إلى أنها هالكة وليس لها نفع في إسراء لوط بأهله. فلا فرق بين كونها بقيت معهم، أو خرجت وأصابها ما أصابهم.
فإذا كان الإسراء مع لوط لم ينجها من العذاب، فهي ومن لم يسر معه سواء ـ والعلم عند الله تعالى.
وقوله {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} قرأه نافع وابن كثير «فاشر» بهمزة وصل. من سرى يسري، وقرأه جمهور القراء {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} بقطع الهمزة، من أسرى الرباعي على وزن أفعل. وسرى وأسرى: لغتان وقراءتان صحيحتان سبعيتان، ومن سرى الثلاثية، قوله تعالى: {وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} فإن فتح ياء {يَسْرِ} يدل على أنه مضارع سرى الثلاثية.
وجمع اللغتين قول نابغة ذبيان: أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجى الشمال عليها جامد البرد
فإنه قال: أسرت، رباعية في أشهر روايتي البيت. وقوله: سارية. اسم فاعل سرى الثلاثية، وجمعهما أيضاً قول الآخر: حتى النضيرة ربة الخدر أسرت إليك ولم تكن تسري
بفتح تاء «تسري» واللغتان كثيرتان جداً في كلام العرب. ومصدر الرباعية الإسراء على القياس، ومصدر الثلاثية السرى ـ بالضم ـ على وزن فعل ـ بضم ففتح ـ على غير قياس، ومنه قول عبد الله بن رواحة: عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى
قوله تعالى: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ}. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن موعد إهلاك قوم لوط وقت الصبح من تلك الليلة، وكذلك قال في الحجر في قوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلاٌّمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَـٰؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} وزاد في الحجر أن صبيحة العذاب وقعت عليهم وقت الإشراق وهو وقت طلوع الشمس بقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ}. قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ}. اختلف العلماء في المراد بحجارة السجيل اختلافاً كثيراً، والظاهر أنها حجارة من طين في غاية الشدة والقوة. والدليل على أن المراد بالسجيل: الطين. قوله تعالى في الذاريات في القصة بعينها: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍمُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ}، وخير ما يفسر به القرآن: القرآن. والدليل على قوتها وشدتها: أن الله ما عذبهم بها في حالة غضبه عليهم إلا لأن النكال بها بالغ شديد. وأيضاً فإن بعض العلماء قالوا: السجيل والسجين: أختان، كلاهما الشديد من الحجارة والضرب. ومنه قول ابن مقبل.
ورجلة يضربون البيض ضاحية ضرباً تواصى به الأبطال سجينا
وعلى هذا، فمعنى من سجيل: أي من طين شديد القوة. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَمَا هِى مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٍ}. في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه من التفسير للعلماء: اثنان منها كلاهما يشهد له القرآن، وواحد يظهر أنه ضعيف.
أما الذي يظهر أنه ضعيف فهو أن المعنى: أن تلك الحجارة ليست بعيدة من قوم لوط. أي لم تكن تخطئهم.
قاله القرطبي وغيره. لأن هذا يكفي عنه قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً} ونحوها من الآيات. أما الوجهان اللذان يشهد لكل واحد منهما قرآن فالأول منهما: أن ديار قوم لوط ليست ببعيدة من الكفار المكذبين لنبينا. فكان عليهم أن يعتبروا بما وقع لأهلها إذا مروا عليها في أسفارهم إلى الشام، ويخافوا أن يوقع الله بهم بسبب تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما وقع من العذاب بأولئك، بسبب تكذيبهم لوطاً عليه الصلاة والسلام. والآيات الدالة على هذا كثيرة جداً. كقوله: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِين َوَبِٱلَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، وقوله: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيم ٍإِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}،وقوله: {وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلاٌّلِيمَ} وقوله: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} إلى غير ذلك من الآيات. وعلى هذا القول فالضمير في قوله {وَمَا هِىَ} راجع إلى ديار قوم لوط المفهومة من المقام.
الوجه الثاني ـ أن المعنى: وما تلك الحجارة التي أمطرت على قوم لوط ببعيد من الظالمين للفاعلين مثل فعلهم، فهو تهديد لمشركي العرب كالذي قبله.
ومن الآيات الدالة على هذا الوجه قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلاٌّرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَـٰفِرِينَ أَمْثَـٰلُهَ} فإن قوله: {وَلِلْكَـٰفِرِينَ أَمْثَـٰلُهَ} ظاهر جداً في ذلك، والآيات بنحو ذلك كثيرة.
تنبيه
اختلف العلماء في عقوبة من ارتكب فاحشة قوم لوط، وسنذكر إن شاء الله أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم وما يظهر رجحانه بالدليل من ذلك فنقول وبالله جل وعلا نستعين:
قال بعض العلماء: الحكم في ذلك: أن يقتل الفاعل والمفعول به مطلقاً سواء كانا محصنين أو بكرين، أو أحدهما محصناً والآخر بكراً.
وممن قال بهذا القول: مالك بن أنس وأصحابه، وهو أحد قولي الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد. وحكى غير واحد إجماع الصحابة على هذا القول، إلا أن القائلين به اختلفوا في كيفية قتل من فعل تلك الفاحشة.
قال بعضهم: يقتل بالسيف.
وقال بعضهم: يرجم بالحجارة.
وقال بعضهم: يحرق بالنار.
وقال بعضهم: يرفع على أعلى بناء في البلد فيرمى منه منكساً ويتبع بالحجارة.
وحجة من قال بقتل الفاعل والمفعول به في اللواط مطلقاً: ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن عكرمة عن ابن عباس: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به».
قال ابن حجر: ورجاله موثقون، إلا أن فيه اختلافاً اهـ. وما ذكره يحيى بن معين من أن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ينكر عليه حديث عكرمة هذا عن ابن عباس، فيه أن عمراً المذكور ثقة، أخرج له الشيخان ومالك كما قدمناه مستوفى.
ويعتضد هذا الحديث بما رواه سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية: أنه يرجم. أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي.
وبما أخرجه الحاكم وابن ماجه عن أبي هريرة، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا» قال الشوكاني وإسناده ضعيف.
قال ابن الطلاع في أحكامه: لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه، وثبت عنه أنه قال: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة. اهـ.
قال الحافظ: وحديث أبي هريرة لا يصح، وقد أخرجه البزار من طريق عاصم بن عمر العمري عن سهيفل عن أبيه عنه وعاصم متروك. وقد رواه ابن ماجه من طريقه بلفظ: «فارجموا الأعلى والأسفل» اهـ.
وأخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه: أنه رجم لوطياً، ثم قال: قال الشافعي: وبهذا نأخذ برجم اللوطي محصناً كان أو غير محصن.
وقال هذا قول ابن عباس قال: وسعيد بن المسيب يقول: السنه أن يرجم اللوطي أحصن أو لم يحصن.
وقال البيهقي أيضاً: وأخبرنا أبو نصر بن قتادة، وأبو بكر محمد بن إبراهيم الفارسي قالا: ثنا أبو عمرو بن مطر، ثنا إبراهيم بن علي، ثنا يحيى بن يحيى، أنبأ عبد العزيز بن أبي حازم،
أنبأ داود بن بكر عن محمد بن المنكدر، عن صفوان بن سليم أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في خلافته يذكر له: أنه وجد رجلاً في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، وأن أبا بكر رضي الله عنه جمع الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذ قولاً علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال: إن هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن تحرقه بالنار. فاجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار. فكتب أبو بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد رضي عنه يأمره أن يحرقه بالنار. هذا مرسل.
وروي من وجه آخر عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي رضي الله عنه في غير هذه القصة قال: يرجم ويحرق بالنار.
ويذكر عن ابن أبي ليلى عن رجل من همدان: أن علياً رضي الله عنه رجم رجلاً محصناً في عمل قوم لوط. هكذا ذكره الثوري عنه مقيداً بالإحصان. وهشيم رواه عن ابن أبي ليلى مطلقاً اهـ منه بلفظه.
فهذه حجج القائلين بقتل الفاعل والمفعول به في اللواط.
وحجة من قال: إن ذلك القتل بالنار هو ما ذكرناه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفاً.
وحجة من قال: إن قتله بالسيف قوله صلى الله عليه وسلم: «فاقتلوا الفاعل والمفعول به» والقتل إذا أطلق انصرف إلى القتل بالسيف.
وحجة من قال: إن قتله بالرجم هو ما قدمنا من رواية سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس: أنه يرجم. وما ذكره البيهقي وغيره عن علي أنه رجم لوطياً، ويستأنس لذلك بأن الله رمى أهل تلك الفاحشة بحجارة السجيل.
وحجة من قال: يرفع على أعلى بناء أو جبل ويلقى منكساً ويتبع بالحجارة: أن ذلك هو الذي فعله الحكيم الخبير بقوم لوط، كما قال: {جَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ}.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا الأخير غير ظاهر، لأن قوم لوط لم يكن عقابهم على اللواط وحده، بل عليه، وعلى الكفر، وتكذيب نبيهم صلى الله عليه وسلم. فهم قد جمعوا إلى اللواط ما هو أعظم من اللواط، وهو الكفر بالله، وإيذاء رسوله صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني ـ هو أن اللواط زنى فيجلد مرتكبه مائة إن كان بكراً ويغرب سنة، ويرجم إن كان محصناً. وهذا القول هو أحد قولي الشافعي.
وذكر البيهقي عن الربيع بن سليمان: أن الشافعي رجع إلى أن اللواط زنى، فيجري عليه حكم الزنى، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمهم الله تعالى.
ورواه البيهقي عن عطاء وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وهو قول أبي يوسف ومحمد وسعيد بن المسيب والحسن وقتادة والنخعي والثوري والأوزاعي وغيرهم.
واحتج أهل هذا القول بما رواه البيهقي عن محمد بن عبد الرحمن عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس بن يعقوب، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا أبو بدر، ثنا محمد بن عبد الرحمن فذكره. قال الشيخ: ومحمد بن عبد الرحمن هذا لا أعرفه، وهو منكر بهذا الإسناد. انتهى منه بلفظه.
وقال الشوكاني رحمه الله في «نيل الأوطار» في هذا الحديث، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن كذبه أبو حاتم.
وقال البيهقي لا أعرفه، والحديث منكر بهذا الإسناد. ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء، والطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي موسى. وفيه بشر بن المفضل البجلي وهو مجهول.
وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه اهـ منه.
واستدل القائلون بهذا القول أيضاً بقياس اللواط على الزنى بجامع أن الكل إيلاج فرج في فرج محرم شرعاً، مشتهى طبعاً.
ورد بأن القياس لا يكون في الحدود، لأنها تدرأ بالشبهات. والأكثرون على جواز القياس في الحدود، وعليه درج في مراقي السعود بقوله: والحد والكفارة التقدير جوازه فيها هو المشهور
إلا أن قياس اللائط على الزاني يقدح فيه بالقادح المسمى: «فساد الاعتبار»، لمخالفته لحديث ابن عباس المتقدم: أن الفاعل والمفعول به يقتلان مطلقاً، أحصنا أو لم يحصنا، ولا شك أن صاحب الفطرة السليمة لا يشتهي اللواط، بل ينفر منه غاية النفور بطبعه كما لا يخفى.
القول الثالث ـ أن اللائط لا يقتل ولا يحد حد الزنى، وإنما يعزر بالضرب والسجن ونحو ذلك. وهذا قول أبي حنيفة.
واحتج أهل هذا القول بأن الصحابة اختلفوا فيه، واختلافهم فيه يدل على أنه ليس فيه نص صحيح، وأنه من مسائل الاجتهاد، والحدود تدرأ بالشبهات قالوا: ولا يتناوله اسم الزنى، لأن لكل منهما اسماً خاصاً به، كما قال الشاعر:
من كف ذات حر في زي ذي ذكر لها محبان لوطي وزناء
قالوا: ولا يصح إلحاقه بالزنى لوجود الفارق بينهما. لأن الداعي في الزنى من الجانبين بخلاف اللواط، ولأن الزنى يفضي إلى الاشتباه في النسب وإفساد الفراش بخلاف اللواط. قال في مراقي السعود: والفرق بين الأصل والفرع قدح إبداء مختص بالأصل قد صلح
أو مانع في الفرع... الخ... ...
واستدل أهل هذا القول أيضاً بقوله تعالى: {وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ فَأاذُوهُمَ}.
قالوا: المراد بذلك: اللواط. والمراد بالإيذاء: السبب أو الضرب بالنعال.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد {وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ} قال: الرجلان الفاعلان.
وأخرج آدم والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله: {فَأاذُوهُمَ} يعني سبا، قاله صاحب «الدر المنثور».
{قَالَ يٰقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَـٰكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلَـٰحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِىۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِىۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَـٰلِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ * وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ}
قوله تعالى: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَـٰكُمْ عَنْهُ}. ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن نبيه شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أنه أخبر قومه: أنه إذا نهاهم عن شيء انتهى هو عنه وأن فعله لا يخالف قوله.
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن الإنسان يجب عليه أن يكون منتهياً عما ينهى عنه غيره، مؤتمراً بما يأمر به غيره.
وقد بين تعالى ذلك في مواضع أخر. كقوله: {أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}. وقوله: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.
وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: أي فلان. ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ٰ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه».
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فتندلق أقتابه» أي تتدلى أمعاؤه.
وأخرج وكيع وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو نُعيم في الحلية، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت رجعت. فقلت لجبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» قاله صاحب «الدر المنثور». اهـ. وقد قال الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وقد أجاد من قال: وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو مريض
ومعلوم أن عمل الإنسان بما ينصح به غيره أدعى لقبول غيره منه. كما قال الشاعر:
فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر به تلف من إياه تأمر آتي
الصفحة رقم 231 من المصحف تحميل و استماع mp3