تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 289 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 289  {وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِى ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّـٰكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ ٱلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا * وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَـٰهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَـٰتِ وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيل}
قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِى ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّـٰكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ كَفُورًا أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ ٱلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعً}. بين جل وعلا في هذه الآيات الكريمة: أن الكفار إذا مسهم الضر في البحر. أي اشتدت عليهم الريح فغشيتهم أمواج البحر كأنها الجبال، وظنوا أنهم لا خلاص لهم من ذلك ـ ضل عنهم. أي غاب عن أذهانهم وخواطرهم في ذلك الوقت كل ما كانوا يعبدون من دون الله جل وعلا. فلا يدعون في ذلك الوقت إلا الله جل وعلا وحده. لعلمهم أنه لا ينقذ من ذلك الكرب وغيره من الكروب إلا هو وحده جل وعلا، فأخلصوا العبادة والدعاء له وحده في ذلك الحين الذي أحاط بهم فيه هول البحر، فإذا نجاهم الله وفرج عنهم، ووصلوا البر رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر. كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّـٰكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ كَفُورً}.
وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة أوضحه الله جل وعلا في آيات كثيرة. كقوله: {هُوَ ٱلَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى ٱلاٌّرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ}، وقوله: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَـٰنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ}، وقوله: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِى ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}، وقوله: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّـٰهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِأايَـٰتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}،وقوله: {وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ}، إلى غير ذلك من الآيات كما قدمنا إيضاحه «في سورة الأنعام» وغيرها.
ثم إن الله جل وعلا بين في هذا الموضع الذي نحن بصدده سخافة عقول الكفار، وأنهم إذا وصلوا إلى البر ونجوا من هول البحر رجعوا إلى كفرهم آمنين عذاب الله. مع أنه قادر على إهلاكهم بعد وصولهم إلى البر، بأن يخسف بهم جانب البر الذي يلي البحر فتبتلعهم الأرض، أو يرسل عليهم حجارة من السماء فتهلكهم، أو يعيدهم مرة أخرى في البحر فتغرقهم أمواجه المتلاطمة. كما قال هنا منكراً عليهم أمنهم وكفرهم بعد وصول البر {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبً} وهو المطر أو الريح اللذين فيهما الحجارة {قَاصِفًا مِّنَ ٱلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ} أي بسبب كفركم. فالباء سببية، وما مصدرية. والقاصف: ريح البحار الشديدة التي تكسر المراكب وغيرها. ومنه قول أبي تمام:
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم

يعني: إذا ما هبت بشدة كسرت عيدان شجر نجد رتماً كان أو غيره.
وهذا المعنى الذي بينه جل وعلا هنا من قدرته على إهلاكهم في غير البحر بخسف أو عذاب من السماء ـ أوضحه في مواضع أخر. كقوله: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلاٌّرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ}، وقوله: {قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، وقوله: {أَءَمِنتُمْ مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلاٌّرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُأَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَـٰصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}، وقوله «في قوم لوط»: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَـٰصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَـٰهُم بِسَحَرٍ}، وقوله: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ} إلى غير ذلك من الآيات. والحاصب في هذه الآية قد قدمنا أنه قيل: إنها السحابة أو الريح، وكلا القولين صحيح. لأن كل ريح شديدة ترمي بالحصباء تسمى حاصباً وحصبة. وكل سحابة ترمي بالبرد تسمى حاصباً أيضاً. ومنه قول الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام يضربنا بحاصب كنديف القطن منثور

وقول لبيد: جرت عليها أن خوت من أهلها أذيالها كل عصوف حصبه

وقوله في هذه الآية {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعً} فعيل بمعنى فاعل. أي تابعا يتبعنا بالمطالبة بثأركم. كقوله {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلاَ يَخَافُ عُقْبَـٰهَ} أي لا يخاف عاقبة تبعة تلحقه بذلك. وكل مطالب بدين أو ثأر أو غير ذلك تسميه العرب تبيعاً. ومنه قول الشماخ يصف عقاباً: تلوذ ثعالب الشرفين منها كما لاذ الغريم من التبيع

أي كعياذ المدين من صاحب الدين الذي يطالبه بغرمه منه.
ومنه قول الآخر: غدوا وغدت غزلانهم وكأنها ضوامن غرم لدهن تبيع

أي خصمهن مطالب بدين، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـٰنٍ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتبع أحدكم على ملىء فليتبع» وهذا هو معنى قول ابن عباس وغيره «تبيعا» أي نصيراً، وقول مجاهد نصيراً ثائراً.
تنبيه
لا يخفى على الناظر في هذه الآية الكريمة: أن الله ذم الكفار وعاتبهم بأنهم في وقت الشدائد والأهوال خاصة يخلصون العبادة له وحده، ولا يصرفون شيئاً من حقه لمخلوق. وفي وقت الأمن والعافية يشركون به غيره في حقوقه الواجبة له وحده، التي هي عبادته وحده في جميع أنواع العبادة، ويعلم من ذلك أن بعض جهلة المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالاً من عبدة الأوثان. فإنهم إذا دهمتهم الشدائد، وغشيتهم الأهوال والكروب التجؤوا إلى غير الله ممن يعتقدون فيه الصلاح. في الوقت الذي يخلص فيه الكفار العبادة لله. مع أن الله جل وعلا أوضح في غير موضع: أن إجابة المضطر، وإنجاءه من الكرب من حقوقه التي لا يشاركه فيها غيره.
ومن أوضح الأدلة في ذلك قوله تعالى «في سورة النمل»: {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ ٱلاٌّرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلـٰهٌ مَّعَ ٱلله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ}. فتراه جل وعلا في هذه الآية الكريمات جعل إجابة المضطر إذا دعا وكشف السوء عنه من حقه الخالص الذي لا يشاركه فيه أحد. كخلقه السموات والأرض، وإنزاله الماء من السماء، وإنباته به الشجر، وجعله الأرض قراراً، وجعله خلالها أنهاراً، وجعله لها رواسي، وجعله بين البحرين حاجزاً، إلى آخر ما ذكر في هذه الآيات من غرائب صنعه وعجائبه التي لا يشاركه فيها أحد. سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
وهذا الذي ذكره الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمات: كان سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل. فإنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب فاراً منه إلى بلاد الحبشة، فركب في البحر متوجهاً إلى الحبشة. فجاءتهم ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يفنى عنكم إلا أن تدعوا الله وحده. فقال عكرمة في نفسه: والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيرهٰ اللهم لك علي عهد، لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد صلى الله عليه وسلم فلأجدنه رؤوفاً رحيماً. فخرجوا من البحر، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه اهـ.
والظاهر أن الضمير في قوله {بِهِ تَبِيعً} راجع إلى الإهلاك بالإغراق المفهوم من قوله {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ} أي لا تجدون تبيعاً يتبعنا بثأركم بسبب ذلك الإغراق.
وقال صاحب روح المعاني. وضمير «به» قيل للإرسال، وقيل للإغراق، وقيل لهما باعتبار ما وقع. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ}.
قال بعض أهل العلم: من تكريمه لبين آدم خلقه لهم على أكمل الهيئات وأحسنها. فإن الإنسان يمشي قائماً منتصباً على رجليه، ويأكل بيديه. وغيره من الحيوانات يمشي على أربع، ويأكل بفمه.
ومما يدل لهذا من القرآن قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِىۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، وقوله: {وَصَوَّرَكُـمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـمْ} وفي الآية كلام غير هذا. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ}. أي في البر على الأنعام، وفي البحر على السفن.
والآيات الموضحة لذلك كثيرة جداً. كقوله: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}، وقوله: {وَٱلَّذِى خَلَقَ ٱلأَزْوَٰجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلاٌّنْعَـٰمِ مَا تَرْكَبُونَ} وقد قدمنا في مستوفى بإيضاح «في سورة النحل».
{يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَـٰمِهِمْ فَمَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَـٰبَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ فِى هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِى ٱلاٌّخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً * وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَـٰكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَـٰكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَوٰةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا * وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلاٌّرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَـٰفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيل}
قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَـٰمِهِمْ}. قال بعض العلماء: المراد «بإمامهم» هنا كتاب أعمالهم.
ويدل لهذا قوله تعالى: {وَكُلَّ شىْءٍ أَحْصَيْنَـٰهُ فِىۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ}، وقوله: {وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَـٰبِهَا ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}. وقوله: {وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ}، وقوله: {وَكُلَّ إِنْسَـٰنٍ أَلْزَمْنَـٰهُ طَـٰئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ كِتَابًا يَلْقَـٰهُ مَنْشُور} واختار هذا القول ابن كثير. لدلالة آية «يس» المذكورة عليه. وهذا القول رواية عن ابن عباس ذكرها ابن جرير وغيره، وعزاه ابن كثير لابن عباس وأبي العالية والضحاك والحسن. وعن قتادة ومجاهد: أن المراد «بإمامهم» نبيهم.
ويدل لهذا القول قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}، وقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيد}، وقوله {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ}، وقوله: {وَأَشْرَقَتِ ٱلاٌّرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ وَجِـىءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ}.
قال بعض السلف: وفي هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث. لأن إمامهم النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض أهل العلم: {بِإِمَـٰمِهِمْ} أي بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع. وممن قال به: ابن زيد، واختاره ابن جرير.
وقال بعض أهل العلم: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَـٰمِهِمْ} أي ندعو كل قوم بمن يأتمون به. فأهل الإيمان أئمتهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وأهل الكفر أئمتهم سادتهم وكبراؤهم من رؤساء الكفرة. كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَـٰهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ}. وهذا الأخير أظهر الأقوال عندي. والعلم عند الله تعالى.
فقد رأيت أقوال العلماء في هذه الآية، وما يشهد لها من قرآن. وقوله بعد هذا: {فَمَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ} من القرائن الدالة على ترجيح ما اختاره ابن كثير من أن الإمام في هذه الآية كتاب الأعمال.
وذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يقرؤونه ولا يظلمون فتيلاً.
وقد أوضح هذا في مواضع أخر، كقوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَـٰبيَهْ} ـ إلى قوله ـ {وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـٰبِيَهْ} وقد قدمنا هذا مستوفى في أول هذه السورة الكريمة.
وقول من قال: إن المراد «بإمامهم» كمحمد بن كعب «أمهاتهم» أي يقال: يا فلان بن فلانة ـ قول باطل بلا شك. وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر مرفوعاً: «يرفع يوم القيامة لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان». قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِى هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِى ٱلاٌّخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيل}. المراد بالعمى في هذه الآية الكريمة: عمى القلب لا عمى العين. ويدل لهذا قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلاٌّبْصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ} لأن عمى العين مع إبصار القلب لا يضر، بخلاف العكس. فإن أعمى العين يتذكر فتنفعه الذكرى ببصيرة قلبه، قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰأَن جَآءَهُ ٱلاٌّعْمَىٰوَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ}. إذا بصر القلب المروءة والتقى فإن عمى العينين ليس يضير

وقال ابن عباس رضي الله عنهما لما عمي في آخر عمره ـ كما روي عنه من وجوه ـ كما ذكره ابن عبد البر وغيره:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل وفي فمي صارم كالسيف مأثور
وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَهُوَ فِى ٱلاٌّخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيل} قال بعض أهل العلم: ليست الصيغة صيغة تفضيل، بل المعنى فهو لآخرة أعمى كذلك لا يهتدى إلى نفع. وبهذا جزم الزمخشري.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يتبادر إلى الذهن أن لفظة «أعمى» الثانية صيغة تفضيل. أي هو أشد عمى في الآخرة.
ويدل عليه قوله بعده {وَأَضَلُّ سَبِيل} فإنها صيغة تفضيل بلا نزاع. والمقرر في علم العربية: أن صيغتي التعجب وصيغة التفضيل لا يأتيان من فعل الوصف منه على أفعل الذي أنثاه فعلاء. كما أشار له في الخلاصة بقوله: * وغير ذي وصف يضاهي أشهلا *
والظاهر أن ما وجد في كلام العرب مصوغاً من صيغة تفضيل أو تعجب غير مستوف للشروط ـ أنه يحفظ ولا يقاس عليه. كما أشار له في الخلاصة بقوله: وبالندور احكم لغير ما ذكر ولا تقس على الذي منه أثر

ومن أمثلة ذلك قوله: ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر وفي المخازي لكم أشباح أشياخ
أما الملوك فأنت اليوم الأمهم لؤماً وأبيضهم سربال طباخ

وقال بعض العلماء: إن قوله في هذا البيت «وأبيضهم سربال طباخ» ليس صيغة تفضيل.
بل المعنى أنت وحدك الأبيض سربال طباخ من بينهم. قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيل}. روي عن سعيد بن جبير أنها نزلت في المشركين من قريش، قالوا له صلى الله عليه وسلم: لا ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تلم بآلهتنا وعن ابن عباس في رواية عطاء: أنها نزلت في وفد ثقيف، أتوا النَّبي فسألوه شططاً قالوا: متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، وحرم وادينا كما حرمت مكة، إلى غير ذلك من الأقوال في سبب نزولها. وعلى كل حال فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
ومعنى الآية الكريمة: أن الكفار كادوا يفتنونه أي قاربوا ذلك. ومعنى يفتنونك: يزلونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره مما لم نوحه إليك.
قال بعض أهل العلم: قاربوا ذلك في ظنهم لا فيما في نفس الأمر. وقيل: معنى ذلك أنه خطر في قلبه صلى الله عليه وسلم أن يوافقهم في بعض ما أحبوا ليجرهم إلى الإسلام لشدة حرصه على إسلامهم.
وبين في مواضع آخر: أنهم طلبوا منه الإتيان بغير ما أوحي إليه، وأنه امتنع أشد الامتناع وقال لهم: إنه لا يمكنه أن يأتي بشيء من تلقاء نفسه. بل يتبع ما أوحي إليه ربه، وذلك في قوله: {قَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ٱئْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَـٰذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِىۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِىۤ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىۤ إِلَىَّ إِنِّىۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. وقوله في هذه الآية {وَإِن كَادُو} هي المخففة من الثقيلة، وهي هنا مهملة. واللام هي الفارقة بينها وبين إن النافية كما قال في الخلاصة:
وخففت إن فقل العمل وتلزم اللام إذا ما تهمل

والغالب أنها لا تكون كذلك مع فعل إلا إن كان ناسخاً كما في هذه الآية، قال في الخلاصة. والفعل إن لم يك ناسخاً فلا تلفيه غالباً بإن ذي موصلاً

كما هو معروف في النحو. قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَـٰكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَـٰكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَوٰةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرً} . بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة تثبيته لنبيه صلى الله عليه وسلم، وعصمته له من الركون إلى الكفار. وأنه لو ركن إليهم لأذاقه ضعف الحياة وضعف الممات. أي مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة. وبهذا جزم القرطبي في تفسيره. وقال بعضهم: المراد بضعف عذاب الممات: العذاب المضاعف في القبر والمراد بضعف الحياة: العذاب المضاعف في الآخرة بعد حياة البعث. وبهذا جزم الزمخشري وغيره. والآية تشمل الجميع، وهذا الذي ذكره هنا من شدة الجزاء لنبيه لو خالف بينه في غير هذا الموضع. كقوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلاٌّقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِين ِثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ}.
وهذا الذي دلت عليه هذه الآية من أنه إذا كانت الدرجة أعلى كان الجزاء عند مخالفة أعظم بينه في موضع آخر. كقوله: {يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}.
ولقد أجاد من قال:
وكبائر الرجل الصغير صغائر وصغائر الرجل الكبير كبائر

تنبيه
هذه الآية الكريمة أوضحت غاية الإيضاح براءة نبينا صلى الله عليه وسلم من مقاربة الركون إلى الكفار، فضلاً عن نفس الركون. لأن {وَلَوْل} حرف امتناع لوجود. فمقاربة الركون منعتها {وَلَوْل} الامتناعية لوجود التثبيت من الله جل وعلا لأكرم خلقه صلى الله عليه وسلم. فصح يقيناً انتفاء مقاربة الركون فضلاً عن الركون نفسه. وهذه الآية تبين ما قبلها، وأنه لم يقارب الركون إليهم البتة. لأن قوله {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئً} أي قاربت تركن إليهم هو عين الممنوع بـ {وَلَوْل} الامتناعية كما ترى. ومعنى {تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ}: تميل إليهم.