تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 288 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 288  {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذٰلِك فِى ٱلْكِتَـٰبِ مَسْطُورًا * وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلاٌّيَـٰتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلاٌّوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِٱلاٌّيَـٰتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا * وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِى أَرَيْنَـٰكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِى ٱلقُرْءَانِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَءَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيل}
قوله تعالى: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذٰلِك فِى ٱلْكِتَـٰبِ مَسْطُورً}. قال بعض أهل العلم: في هذه الآية الكريمة حذف الصفة، أي وإن من قرية ظالمة إلا نحن مهلكوها. وهذا النعت المحذوف دلت عليه آيات من كتاب الله تعالى. كقوله {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـٰلِمُونَ} وقوله: {ذٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَـٰفِلُونَ}. أي بل لا بد أن تنذرهم الرسل فيكفروا بهم وبربهم. وقوله {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}، وقوله {وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَـٰهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَـٰهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَـٰقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْر} إلى غير ذلك من الآيات. وغاية ما في هذا القول حذف النعت مع وجود أدلة تدل عليه. ونظيره في القرآن قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْب} أي كل سفينة صالحة. بدليل أن خرق الخضر للسفينة التي ركب فيها هو وموسى يريد به سلامتها من أخذ الملك لها، لأنه لا يأخذ المعيبة التي فيها الخرق وإنما يأخذ الصحيحة. ومن حذف النعت قوله تعالى: {قَالُواْ ٱأـٰنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ} أي بالحق الواضح الذي لا لبس معه في صفات البقرة المطلوبة. ونظيره من كلام العرب قول الشاعر، وهو المرقش الأكبر: ورب أسيلة الخدين بكر مهفهفة لها فرع وجيد

أي فرع فاحم وجيد طويل، وقول عبيد بن الأبرص: من قوله قول ومن فعله فعل ومن نائله نائل

أي قوله قول فصل، وفعله فعل جميل، ونائله نائل جزيل، وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله: وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل

وقال بعض أهل العلم: الآية عامة. فالقرية الصالحة إهلاكها بالموت، والقرية الطالحة إهلاكها بالعذاب. ولا شك أن كل نفس ذائفة الموت. والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، والمسطور: المكتوب. ومنه قول جرير: من شاء بايعته مالي وخلعته ما تكمل التيم في ديوانها سطرا

وما يرويه مقاتل عن كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه الآية: من أن مكة تخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق والرواجف. وأما خراسان فهلاكها ضروب. ثم ذكر بلداً بلداً ـ لا يكاد يعول عليه. لأنه لا أساس له من الصحة، وكذلك ما يروى عن وهب بن منبه: أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية، وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر، ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة، ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة. فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت قسطنطينة على يد رجل من بني هاشم. وخراب الأندلس من قبل الزنج، وخراب إفريقية من قبل الأندلس، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها، وخراب العراق من الجوع، وخراب الكوفة من قبل عدو يحصرهم ويمنعهم الشراب من الفرات، وخراب البصرة من قبيل الغرق، وخراب الأبلة من عدو يحصرهم براً وبحراً، وخراب الري من الديلم، وخراب خراسان من قبل التبت، وخراب التبت من قبل الصين، وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان،
وخراب مكة من الحبشة، وخراب المدينة من الجوع اهـ كل ذلك لا يعول عليه. لأنه من قبيل الإسرائيليات. قوله تعالى: {وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَ}. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه آتى ثمود الناقة في حال كونها آية مبصرة، أي بينة تجعلهم يبصرون الحق واضحاً لا لبس فيه فظلموا بها. ولم يبين ظلمهم بها ها هنا، ولكنه أوضحه في مواضع أخر، كقوله: {فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ}، وقوله {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَ}، وقوله {فَنَادَوْاْ صَـٰحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ}، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ}. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه أحاط بالناس. أي فهم في قبضته يفعل فيهم كيف يشاء فيسلط نبيه عليهم ويحفظه منهم.
قال بعض أهل العلم: ومن الآيات التي فصلت بعض التفصيل في هذه الإحاطة، قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ}، وقوله: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ}، وقوله: {وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ}. وفي هذا أن هذه الآية مكية، وبعض الآيات المذكورة مدني. أما آية القمر وهي قوله: {سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ} فلا إشكال في البيان بها لأنها مكية. قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِى أَرَيْنَـٰكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِى ٱلقُرْءَانِ}. التحقيق في معنى هذه الآية الكريمة: أن الله جل وعلا جعل ما أراه نبيه صلى الله عليه وسلم من الغرائب والعجائب ليلة الإسراء والمعراج فتنة للناس، لأن عقول بعضهم ضاقت عن قبول ذلك، معتقدة أنه لا يمكن أن يكون حقاً، قالوا: كيف يصلي ببيت المقدس، ويخترق السبع الطباق، ويرى ما رأى في ليلة واحدة، ويصبح في محله بمكة؟ هذا محالٰ فكان هذا الأمر فتنة لهم لعدم تصديقهم به، واعتقادهم أنه لا يمكن، وأنه جل وعلا جعل الشجرة الملعونة في القرآن التي هي شجرة الزقوم فتنة للناس، لأنهم لما سمعوه صلى الله عليه وسلم يقرأ {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِىۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ} قالوا: ظهر كذبه. لأن الشجر لا ينبت في الأرض اليابسة، فكيف ينبت في أصل النار؟ فصار ذلك فتنة. وبين أن هذا هو المراد من كون الشجرة المذكورة فتنة لهم بقوله: {أَذَٰلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَـٰهَا فِتْنَةً لِّلظَّـٰلِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِىۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ}، وهو واضح كما ترى. وأشار في مواضع آخر إلى الرؤيا التي جعلها فتنة لهم، وهو قوله: {أَفَتُمَـٰرُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰمَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ ءَايَـٰتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ}. وقد قدمنا إيضاح هذا في أول هذه السورة الكريمة. وبهذا التحقيق الذي ذكرنا تعلم أن قول من قال: إن الرؤيا التي أراه بالله إياها هي رؤياه في المنام بني أمية على منبره، وإن المراد بالشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية لا يعول عليه. إذا لا أساس له من الصحة. والحديث الوارد بذلك ضعيف لا تقوم به حجة. وإنما وصف الشجرة باللعن لأنها في أصل النار، وأصل النار بعيد من رحمة الله. واللعن: الإبعاد عن رحمة الله، أو لخبث صفاتها التي وصفت بها في القرآن، أو للعن الذين يطعمونها. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَءَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينً}. قوله تعالى في هذه الآية عن إبليس: {أَءَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينً} يدل فيه إنكار إبليس للسجود بهمزة الإنكار على إبائه واستكباره عن السجود لمخلوق من طين، وصرح بهذا الإباء والاستكبار في مواضع أخر. فصرح بهما معاً «في البقرة» في قوله {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ} وصرح بإبائه «في الحجر» بقوله {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّـٰجِدِينَ}، وباستكباره «في ص» بقوله {إِلاَّ إِبْلِيسَ ٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ} وبين سبب استكباره بقوله {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} كما تقدم إيضاحه «في البقرة» وقوله: {طِينً} حال. أي لمن خلقته في حال كونه طيناً. وتجويز الزمخشري كونه حالاً من نفس الموصول غير ظاهر عندي. وقيل: منصوب بنزع الخافض. أي من طين. وقيل: تمييز، وهو أضعفها. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيل}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن إبليس اللعين قال له {أَرَءَيْتَكَ} أي أخبرني: هذا الذي كرمته علي فأمرتني بالسجود له وهو آدم. أي لم كرمته علي وأنا خير منهٰ والكاف في {أَرَءَيْتَكَ} حرف خطاب، وهذا مفعول به لأرأيت.
والمعنى: أخبرني. وقيل: إن الكاف مفعول به، و«هذا» مبتدأ، وهو قول ضعيف. وقوله {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} قال ابن عباس: لأستولين عليهم، وقاله الفراء. وقال مجاهد: لأحتوينهم. وقال ابن زيد: لأضلنهم. قال القرطبي: والمعنى متقارب. أي لأستأصلنهم بالإغواء والإضلال، ولأجتاحنهم.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي في معنى الآية ـ أن المراد بقوله {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} أي لأقودنهم إلى ما أشاء. من قول العرب: احتنكت الفرس: إذا جعلت الرسن في حنكه لتقوده حيث شئت. تقول العرب: حنكت الفرس أحنكه (من باب ضرب ونصر) واحتنكته: إذا جعلت فيه الرسن. لأن الرسن يكون على حنكه. وقول العرب: احتنك الجراد الأرض: أي أكل ما عليها من هذا القبيل. لأنه يأكل بأفواهه، والحنك حول الفم. هذا هو أصل الاستعمال في الظاهر. فالاشتقاق في المادة من الحنك، وإن كان يستعمل في الإهلاك مطلقاً والاستئصال. كقول الراجز: أشكو إليك سنة قد أجحفت جهداً إلى جهد بنا وأضعفت
واحتنكت أموالنا واجتلفت
وهذا الذي ذكر جل وعلا عن إبليس في هذه الآية من قوله {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ}، بينه أيضاً في مواضع أخر من كتابه. كقوله {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ}، وقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه «في سورة النساء» وغيرها.
وقوله في هذه الآية {إَلاَّ قَلِيل} بين المراد بهذا القليل في مواضع أخر. كقوله: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين َإِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ}، وقوله: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى ٱلاٌّرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين َإِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ} كما تقدم إيضاحه.
وقول إبليس في هذه الآية. {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ}. قاله ظناً منه أنه سيقع وقد تحقق له هذا الظن. كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ}.
{قَالَ ٱذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورًا * وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى ٱلاٌّمْوَٰلِ وَٱلاٌّوْلَـٰدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً * رَّبُّكُمُ ٱلَّذِى يُزْجِى لَكُمُ ٱلْفُلْكَ فِى ٱلْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمً}
قوله تعالى: {قَالَ ٱذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورً}. قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: {قَالَ ٱذْهَبْ} هذا أمر إهانة. أي اجهد جهدك، فقد أنظرناك {فَمَن تَبِعَكَ} أي أطاعك من ذرية آدم {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورً} أي وافراً. عن مجاهد وغيره. وقال الزمخشري وأبو حيان: {ٱذْهَبْ} ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء، وإنما معناه: امض لشأنك الذي اخترته. وعقبه بذكر ما جره سوء اختياره في قوله {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورً}.
وهذا الوعيد الذي أوعد به إبليس ومن تبعه في هذه الآية الكريمة بينه أيضاً في مواضع أخر. كقوله: {قَالَ فَٱلْحَقُّ وَٱلْحَقَّ أَقُولُ لاّمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}، وقوله: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَٱلْغَاوُونَوَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {جَزَاء} مفعول مطلق منصوب بالمصدر قبله. على حد قول ابن مالك في الخلاصة: بمثله أو فعل أو وصف نصب وكونه أصلاً لهذين انتخب

والذي يظهر لي: أن قول من قال إن «مرفوراً» بمعنى وافر لا داعي له. بل «موفوراً» اسم مفعول على بابه. من قولهم: وفر الشيء يفره، فالفاعل وافر، والمفعول موفور. ومنه قول زهير: ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم

وعليه: فالمعنى جزاء مكملاً متمماً. وتستعمل هذه المادة لازمة أيضاً تقول: وفر ماله فهو وافر. أي كثير. وقوله «موفوراً» نعت للمصدر قبله كما هو واضح، والعلم عند الله تعالى.

 قوله تعالى: {وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى ٱلاٌّمْوَٰلِ وَٱلاٌّوْلَـٰدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُورً}. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: هذا أمر قدري. كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَـٰطِينَ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّ} أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجاً، وتسوقهم إليها سوقاً انتهى.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن صيغ الأمر في قوله {وَٱسْتَفْزِزْ}، وقوله {وَأَجْلِبْ}، وقوله {وَشَارِكْهُمْ} إنما هي للتهديد، أي افعل ذلك فسترى عاقبته الوخيمة. كقوله {ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ} وبهذا جزم أبو حيان «في البحر»، وهو واضح كما ترى. وقوله {وَٱسْتَفْزِزْ} أي استخف من استطعت أن تستفزه منهم. فالمفعول محذوف لدلالة المقام عليه. والاستفزاز: الاستخفاف. ورجل فز: أي خفيف. ومنه قيل لولد البقرة: فز. لخفة حركته. ومنه قول زهير: كما استغاث بسيىء فز غيطلة خاف العيون ولم ينظر به الحشك

«والسيىء» في بيت زهير بالسين المهملة مفتوحة بعدها ياء ساكنة وآخره همز: اللبن الذي يكون في أطراف الأخلاف قبل نزول الدرة. والحشك أصله السكون. لأنه مصدر حشكت الدرة: إذا امتلأت، وإنما حركه زهير للوزن. والغيطلة هنا: بقرة الوحش ذات اللبن. وقوله {بِصَوْتِكَ} قال مجاهد: هو اللهو والغناء والمزامير. أي استخف من استطعت أن تستخفه منهم باللهو والغناء والمزامير. وقال ابن عباس: صوته يشمل كل داع دعا إلى معصية. لأن ذلك إنما وقع طاعة له. وقيل {بِصَوْتِكَ}: أي وسوستك. وقوله {وَأَجْلِبْ} أصل الإجلاب: السوق بجلبة من السائق. والجلبة: الأصوات. تقول العرب: أجلب على فرسه، وجلب عليه: إذا صاح به من خلف واستحثه للسبق. والخيل تطلق على نفس الأفراس، وعلى الفوارس الراكبين عليها، وهو المراد في الآية. والرجل: جمع راجل، كما قدمنا أن التحقيق جمع الفاعل وصفا على فعل بفتح فسكون وأوضحنا أمثلته بكثرة، واخترنا أنه جمع موجود أغفله الصرفيون: إذ ليست فعل (بفتح فسكون) عندهم من صيغ الجموع. فيقولون فيما ورد من ذلك كراجل ورجل، وصاحب وصحب، وراكب وركب، وشارب وشرب ـ إنه اسم جمع لا جمع. وهو خلاف التحقيق.
وقرأ حفص عن عاصم «ورجلك» بكسر الجيم لغة في الرجل جمع راجل.
وقال الزمخشري: هذه القراءة على أن فعلاً بمعنى فاعل، نحو تعب وتاعب ومعناه وجمعك الرجل اهـ أي الماشيين على أرجلهم. {وَشَارِكْهُمْ فِى ٱلاٌّمْوَٰلِ وَٱلاٌّوْلَـٰدِ}. أما مشاركته لهم في الأموال ـ فعلى أصناف: (منها) ـ ما حرموا على أنفسهم من أموالهم طاعة له. كالبحائر والسوائب ونحو ذلك، وما يأمرهم به من إنفاق الأموال في معصية الله تعالى، وما يأمرهم به من اكتساب الأموال بالطرق المحرمة شرعاً كالربا والغصب وأنواع الخيانات. لأنهم إنما فعلوا ذلك طاعة له.
أما مشاركته لهم في الأولاد فعلى أصناف أيضاً:
منها ـ قتلهم بعض أولادهم طاعة له.
ومنها ـ أنهم يمجسون أولادهم ويهودونهم وينصرونهم طاعة له وموالاة.
ومنها ـ تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزى ونحو ذلك، لأنهم بذلك سموا أولادهم عبيداً لغير الله طاعة له. ومن ذلك أولاد الزنى. لأنهم إنما تسببوا في وجودهم بارتكاب الفاحشة طاعة له إلى غير ذلك.
فإذا عرفت هذا ـ فاعلم أن الله قد بين في آيات من كتابه بعض ما تضمنه هذه الآية من مشاركة الشيطان لهم في الأموال والأولاد، كقوله: {قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوۤاْ أَوْلَـٰدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفْتِرَآءً عَلَى ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} فقتلهم أولادهم المذكور في هذه الآية طاعة للشيطان مشاركة منه لهم في أولادهم حيث قتلوهم في طاعته. وكذلك تحريم بعض ما رزقهم الله المذكور في الآية طاعة له مشاركة منه لهم في أموالهم أيضاً. وكقوله {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلاٌّنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِناَ}،وكقوله: {وَقَالُواْ هَـٰذِهِ أَنْعَـٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَـٰمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَـٰمٌ لاَّ يَذْكُرُونَ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا ٱفْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ}، إلى غير ذلك من الآيات. ومن الآحاديث المبينة بعض مشاركته لهم فيما ذكر ـ ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم»، وما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله فقال بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان» انتهى.
فاجتيال الشياطين لهم عن دينهم، وتحريمها عليهم ما أحل الله لهم في الحديث الأول، وضرها لهم لو تركوا التسمية في الحديث الثاني ـ كل ذلك من أنواع مشاركتهم فيهم. وقوله «فاجتالتهم» أصله افتعل من الجولان: أي استخفتهم الشياطين فجالوا معهم في الضلال. يقال: جال واجتال: إذا ذهب وجاء، ومنه الجولان في الحرب: واجتال الشيء: إذا ذهب به وساقه. والعلم عند الله تعالى. والأمر في قوله {وَعِدْهُمْ} كالأمر في قوله {وَٱسْتَفْزِزْ}، وقوله {وَأَجْلِبْ}. وقد قدمنا أنه للتهديد.
وقوله {وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُورً} بين فيه أن مواعيد الشيطان كلها غرور وباطل. كوعده لهم بأن الأصنام تشفع لهم وتقربهم عند الله زلفى، وأن الله لما جعل لهم المال والولد في الدنيا سيجعل لهم مثل ذلك في الآخرة، إلى غير ذلك من المواعيد الكاذبة.
وقد بين تعالى هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُور}، وقوله: {وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ٱلاٌّمَانِىُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ}، وقوله: {وَقَالَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلاٌّمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ}. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن عباده الصالحين لا سلطان للشيطان عليهم. فالظاهر أن في الآية الكريمة حذف الصفة كما قدرنا، ويدل على الصفة المحذوفة إضافته العباد إليه إضافة تشريف. وتدل لهذه الصفة المقدرة أيضاً آيات أخر. كقوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ}، وقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَـٰنُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}، وقوله: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ}، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.