تفسير الطبري تفسير الصفحة 289 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 289
290
288
 الآية : 67
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا مَسّكُمُ الْضّرّ فِي الْبَحْرِ ضَلّ مَن تَدْعُونَ إِلاّ إِيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُمْ إِلَى الْبَرّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: وإذا نالتكم الشدّة والـجهد فـي البحر ضلّ من تدعون: يقول: فقد تـمّ من تدعون من دون الله من الأنداد والاَلهة، وجار عن طريقكم فلـم يغثكم، ولـم تـجدوا غير الله مغيثا يغيثكم دعوتـموه، فلـما دعوتـموه وأغاثكم، وأجاب دعاءكم ونـجاكم من هول ما كنتـم فـيه فـي البحر، أعرضتـم عما دعاكم إلـيه ربكم من خـلع الأنداد، والبراءة من الاَلهة، وإفراده بـالألوهة كفرا منكم بنعمته وكانَ الإنْسانُ كَفُورا يقول: وكان الإنسان إذا جحد لنعم ربه.
الآية : 68
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره: أَفَأمنْتِـم أيها الناس من ربكم، وقد كفرتـم نعمته بتنـجيته إياكم من هول ما كنتـم فـيه فـي البحر، وعظيـم ما كنتـم قد أشرفتـم علـيه من الهلاك، فلـما نـجاكم وصرتـم إلـى البرّ كفرتـم، وأشركتـم فـي عبـادته غيره أنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ البَرّ يعنـي ناحية البرّ أوْ يُرْسِلَ عَلَـيْكُمْ حاصِبـا يقول: أو يـمطركم حجارة من السماء تقتلكم، كما فعل بقوم لوط ثُمّ لا تَـجِدُوا لَكُمْ وَكيلاً يقول: ثم لا تـجدوا لكم ما يقوم بـالـمدافعة عنكم من عذابه وما يـمنعكم منه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16987ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: أفأمِنْتُـمْ أن يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ البَرّ أوْ يُرْسِلَ عَلَـيْكُمْ حاصِبـا يقول: حجارة من السماء ثُمّ لا تَـجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً: أي منعة ولا ناصرا.
16988ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، فـي قوله: أفأمِنْتُـمْ أنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ البَرّ أوْ يُرْسلَ عَلَـيْكُمْ حاصِبـا قال: مطر الـحجارة إذا خرجتـم من البحر.
وكان بعض أهل العربـية يوجه تأويـل قوله أوْ يُرْسلَ عَلَـيْكُمْ حاصِبـا إلـى: أو يرسل علـيكم ريحا عاصفـا تـحصب، ويستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر:
مُسْتَقْبِلـينَ شَمالَ الشّامِ تَضْرِبُنابِحاصِبٍ كَنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
وأصل الـحاصب: الريح تـحصب بـالـحصبـاء الأرض فـيها الرمل والـحصى الصغار. يقال فـي الكلام: حصب فلان فلانا: إذا رماه بـالـحصبـاء. وإنـما وُصفت الريح بأنها تـحصب لرميها الناس بذلك، كما قال الأخطل:
ولَقَدْ عَلـمْتُ إذَا العِشارُ تَرَوّحَتْهُدْجَ الرّئالِ تَكبّهُنّ شَمالاً
تَرْمي العضاَهُ بِحاصِبٍ مِنْ ثَلْـجهاحتـى يَبِـيتَ عَلـى العِضَاهِ جِفـالا

الآية : 69
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىَ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مّنَ الرّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً }.
يقول تعالـى ذكره: أم أمنتـم أيها القوم من ربكم، وقد كفرتـم به بعد إنعامه علـيكم، النعمة التـي قد علـمتـم أن يعيدكم فـي البحر تارة أخرى: يقول: مرّة أخرى، والهاء التـي فـي قوله «فـيه» من ذكر البحر. كما:
16989ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أنْ يُعيدَكُمْ فِـيهِ تارَةً أُخْرَى: أي فـي البحر مرّة أخرى فَـيُرْسلَ عَلَـيْكُمْ قاصِفـا مِنَ الرّيحِ وهي التـي تقصف ما مرّت به فتـحطمه وتدقه، من قولهم: قصف فلان ظهر فلان: إذا كسره فَـيُغْرِقَكُمْ بِـمَا كَفَرتُـمْ يقول: فـيغرقكم الله بهذه الريح القاصف بـما كفرتـم، يقول: بكفركم به ثُمّ لا تَـجِدُوا لَكُمْ عَلَـيْنا بِهِ تَبِـيعا يقول: ثم لا تـجدوا لكم علـينا تابعا يتبعنا بـما فعلنا بكم، ولا ثائرا يثأرنا بإهلاكنا إياكم. وقـيـل: تبـيعا فـي موضع التابع، كما قـيـل: علـيـم فـيـموضع عالـم. والعرب تقول لكل طالب بدم أو دين أو غيره: تبـيع. ومنه قول الشاعر:
عَدَوْا وَعَدَتْ غِزْلانُهُمْ فَكأنّهَاضَوَامنُ غُرْمٍ لَزّهُنّ تَبِـيعُ
وبنـحو الذي قلنا فـي القاصف والتبـيع، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16990ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: فَـيُرْسِلَ عَلَـيْكُمْ قَاصِفـا مِنَ الرّيحِ يقول: عاصفـا.
16991ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس: قاصفـا التـي تُغْرق.
16992ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: ثُمّ لا تَـجِدُوا لَكُمْ عَلَـيْنا بِهِ تَبِـيعا يقول نصيرا.
16993ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال مـحمد: ثائرا، وقال الـحرث: نصيرا ثائرا.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ثُمّ لا تَـجِدُوا لَكُمْ عَلَـيْنا بِهِ تَبِـيعا قال: ثائرا.
16994ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ثُمّ لا تَـجِدُوا لَكُمْ عَلَـيْنا بِهِ تَبِـيعا أي لا نـخاف أن نتبع بشيء من ذلك.
حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ثُمّ لا تَـجِدُوا لَكُمْ عَلَـيْنا بِهِ تَبِـيعا يقول: لا يتبعنا أحد بشيء من ذلك. والتارة: جمعه تارات وتـير، وأفعلت منه: أترت.

الآية : 70
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَىَ كَثِيرٍ مّمّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره: وَلَقَدْ كَرّمْنا بَنِـي آدَمَ بتسلـيطنا إياهم علـى غيرهم من الـخـلق، وتسخيرنا سائر الـخـلق لهم وَحَملْناهُمْ فِـي البَرّ علـى ظهور الدوابّ والـمراكب و فـي البَحْرِ فـي الفلك التـي سخرناها لهم وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطّيّبـاتِ يقول: من طيبـات الـمطاعم والـمشارب، وهي حلالها ولذيذاتها وَفَضّلْناهم عَلـى كَثِـيرٍ مِـمّنْ خَـلَقْنا تَفْضِيلاً ذكر لنا أن ذلك تـمكنهم من العمل بأيديهم، وأخذ الأطعمة والأشربة بها ورفعها بها إلـى أفواههم، وذلك غير متـيسر لغيرهم من الـخـلق، كما:
16995ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله وَلَقَدْ كَرّمْنا بَنِـي آدم... الاَية، قال: وَفَضّلْناهُمْ فـي الـيدين يأكل بهما، ويعمل بهما، وما سوى الإنس يأكل بغير ذلك.
16996ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن زيد بن أسلـم، فـي قوله: وَلَقَدْ كَرّمْنا بَنِـي آدَمَ قال: قالت الـملائكة: يا ربنا إنك أعطيت بنـي آدم الدنـيا يأكلون منها، ويتنعّمون، ولـم تعطنا ذلك، فأعطناه فـي الاَخرة فقال: وعزّتـي لا أجعل ذرّية من خـلقت بـيدي، كمن قلت له كن فكان.
الآية : 71
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـَئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }.
اختلفت أهل التأويـل فـي معنى الإمام الذي ذكر الله جلّ ثناؤه أنه يدعو كلّ أناس به، فقال بعضهم: هو نبـيه، ومن كان يقتدي به فـي الدنـيا ويأتـمّ به. ذكر من قال ذلك:
16997ـ حدثنـي يحيى بن طلـحة الـيربوعي، قال: حدثنا فضيـل، عن لـيث، عن مـجاهد يَوْمَ نَدْعُو كُلّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ قال: نبـيهم.
حدثنا ابن حميد،قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بزّة، عن مـجاهد يَوْمَ نَدْعُوا كُلّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ قال: نبـيهم.
حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: بِإمامِهِمْ قال: نبـيهم.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد مثله.
16998ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة كُلّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ قال: نبـيهم.
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنه يدعوهم بكتب أعمالهم التـي عملوها فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك:
16999ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، فـي قوله: يَوْمَ نَدْعُو كُلّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ قال: الإمام: ما عمل وأملـى، فكتب علـيه، فمن بعث متقـيا لله جعل كتابه بـيـمينه، فقرأه واستبشر، ولـم يظلـم فتـيلاً، وهو مثل قوله: وإنّهُما لَبِإمامٍ مُبِـينٍ والإمام: ما أملـى وعمل.
17000ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن يَوْمَ نَدْعُو كُلّ أُناسِ بإمامِهِمْ قال: بأعمالهم.
حدثنا مـحمد، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: قال الـحسن: بكتابهم الذي فـيه أعمالهم.
17001ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله يَوْمَ نَدْعُو كُلّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ يقول: بكتابهم.
17002ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، قال: بأعمالهم.
وقال آخرون: بل معناه: يوم ندعو كلّ أناس بكتابهم الذي أنزلت علـيهم فـيه أمري ونهيـي. ذكر من قال ذلك:
17003ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت يحيى بن زيد فـي قول الله عزّ وجلّ يَوْمَ نَدْعُو كُلّ أُناسٍ بإمامهِمْ قال: بكتابهم الذي أنزل علـيهم فـيه أمر الله ونهيه وفرائضه، والذي علـيه يحاسبون، وقرأ: لِكُلَ جَعَلنا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا قال: الشرعة: الدين، والـمنهاج: السنة، وقرأ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحا قال: فنوح أوّلهم، وأنت آخرهم.
17004ـ حدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد يَوْمَ نَدْعُو كُلّ أُناسٍ بإمامِهِمْ بكتابهم.
وأولـى هذه الأقوال عندنا بـالصواب، قول من قال: معنى ذلك: يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم الذي كانوا يقتدون به، ويأتـمّون به فـي الدنـيا، لأن الأغلب من استعمال العرب الإمام فـيـما ائتـمّ واقتدي به، وتوجيه معانـي كلام الله إلـى الأَشهر أَوْلـى ما لـم تثبت حجة بخلافه يجب التسلـيـم لها.
وقوله: فَمَنْ أُوتِـيَ كِتابَهُ بِـيَـمِينَهِ يقول: فمن أعطي كتاب عمله بـيـمينه فَأُولَئِكَ يَقَرَءُونَ كِتابَهُمْ ذلك حتـى يعرفوا جميع ما فـيه وَلا يُظلَـمُونَ فَتِـيلاً يقول تعالـى ذكره: ولا يظلـمهم الله من جزاء أعمالهم فتـيلاً، وهو الـمنفتل الذي فـي شقّ بطن النواة. وقد مضى البـيان عن الفَتـيـل بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
17005ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله وَلا يُظلَـمُونَ فَتِـيلاً قال: الذي فـي شقّ النواة.
الآية : 72
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَن كَانَ فِي هَـَذِهِ أَعْمَىَ فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أَعْمَىَ وَأَضَلّ سَبِيلاً }.
اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي أشير إلـيه بقوله «هذه»، فقال بعضهم: أشير بذلك إلـى النعم التـي عدّدها تعالـى ذكره بقوله: وَلَقَدْ كَرّمنا بَنِـي آدَمَ وَحَملناهُمْ فِـي البَرّ والبَحرِ وَرَزَقناهُمْ مِنَ الطّيّبـاتِ وَفَضّلناهُمْ علـى كَثِـيرٍ مِـمّنْ خَـلَقْنا تَفَضِيلاً فقال: وَمَنْ كانَ فِـي هَذِهِ أعمَى فَهُوَ فِـي الاَخِرَةِ أعْمَى وأضَلّ سَبِـيلاً. ذكر من قال ذلك: 17006ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن مـحمد بن أبـي موسى، قال: سئل عن هذه الاَية وَمَنْ كانَ فِـي هذِهِ أعمَى فَهُوَ فِـي الاَخِرَةِ أعمَى وأضَلّ سَبِـيلاً فقال: قال وَلَقد كَرّمنا بَنِـي آدَمَ وَحَمَلناهُمْ فِـي البَرّ والبَحرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطّيّبـاتِ وَفَضّلْناهُمْ علـى كَثِـيرٍ مِـمّنْ خَـلَقْنا تَفْضِيلاً قال: من عمي عن شكر هذه النعم فـي الدنـيا، فهو فـي الاَخرة أعمى وأضلّ سبـيلاً.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن كان فـي هذه الدنـيا أعمى عن قدرة الله فـيها وحججه، فهو فـي الاَخرة أعمى. ذكر من قال ذلك:
17007ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: وَمَنْ كانَ فِـي هَذِهِ أعْمَى يقول: من عمي عن قُدرة الله فـي الدنـيا فَهُوَ فِـي الاَخِرَةِ أعْمَى.
17008ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي هَذِهِ أعْمَى قال: الدنـيا.
17009ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَمَنْ كانَ فِـي هَذِهِ أعْمَى فَهُوَ فِـي الاَخِرَةِ أعْمَى يقول: من كان فـي هذه الدنـيا أعمى عما عاين فـيها من نعم الله وخـلقه وعجائبه فَهُوَ فِـي الاَخَرَةِ أعْمَى وأضَلّ سَبِـيلاً فـيـما يغيب عنه من أمر الاَخرة وأعمى.
حدثنا مـحمد، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وَمَنْ كانَ فِـي هَذِهِ أعْمَى فـي الدنـيا فـيـما أراه الله من آياته من خـلق السموات والأرض والـجبـال والنـجوم فَهُوَ فِـي الاَخِرَةِ الغائبة التـي لـم يرها أعْمى وأضَلّ سَبِـيلاً.
17010ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وسئل عن قول الله تعالـى وَمَنْ كانَ فِـي هَذِهِ أعْمَى فَهُوَ فِـي الاَخِرَةِ أعْمَى وأضَلّ سَبِـيلاً فقرأ: إنّ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ لاَياتٍ للْـمُؤْمِنِـينَ وفِـي أنْفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ. وقرأ: وَمِنْ آياتِهِ أنْ خَـلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ إذَا أنْتُـمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ، وقرأ حتـى بلغ: وَلَهُ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ كُلّ لَهُ قانِتُونَ قال: كلّ له مطيعون، إلا ابن آدم. قال: فمن كانت فـي هذه الاَيات التـي يعرف أنها منا، ويشهد علـيها وهو يرى قدرتنا ونعمتنا أعمى، فهو فـي الاَخرة التـي لـم يرها أعمى وأضلّ سبـيلاً.
وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ومن كان فـي هذه الدنـيا أعمى عن حجج الله علـى أنه الـمنفرد بخـلقها وتدبـيرها، وتصريف ما فـيها، فهو فـي أمر الاَخرة التـي لـم يرها ولـم يعاينها، وفـيـما هو كائن فـيها أعمى وأضلّ سبـيلاً: يقول: وأضلّ طريقا منه فـي أمر الدنـيا التـي قد عاينها ورآها.
وإنـما قلنا: ذلك أولـى تأويلاته بـالصواب، لأن الله تعالـى ذكره لـم يخصص فـي قوله وَمَنْ كانَ فِـي هَذِهِ الدنـيا أعْمَى عمى الكافر به عن بعض حججه علـيه فـيها دون بعض، فـيوجه ذلك إلـى عماه عن نعمه بـما أنعم به علـيه من تكريـمه بنـي آدم، وحمله إياهم فـي البرّ والبحر، وما عدّد فـي الاَية التـي ذكر فـيها نعمه علـيهم، بل عمّ بـالـخبر عن عماه فـي الدنـيا، فهم كما عمّ تعالـى ذكره.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله فَهُوَ فِـي الاَخِرَةِ أعْمَى فكسرت القَرأَةُ جميعا أعنـي الـحرف الأوّل قوله وَمَنْ كانَ فِـي هَذِهِ أعْمَى. وأما قوله فَهُوَ فِـي الاَخِرَةِ أعْمَى فإن عامة قرّاء الكوفـيـين أمالت أيضا قوله: فَهُوَ فِـي الاَخِرَةِ أعْمَى. وأما بعض قرّاء البصرة فإنه فتـحه، وتأوّله بـمعنى: فهو فـي الاَخرة أشدّ عمى. واستشهد لصحة قراءته بقوله: وأضَلّ سَبِـيلاً.
وهذه القراءة هي أَوْلـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب للشاهد الذي ذكرنا عن قارئه كذلك، وإنـما كره من كره قراءته كذلك ظنا منه أن ذلك مقصود به قصد عمى العينـين الذي لا يوصف أحد بأنه أعمى من آخر أعمى، إذ كان عمى البصر لا يتفـاوت، فـيكون أحدهما أزيد عمى من الاَخر، إلا بإدخال أشدّ أو أبـين، فلـيس الأمر فـي ذلك كذلك.
وإنـما قلنا: ذلك من عمى القلب الذي يقع فـيه التفـاوت، فإنـما عُنِـي به عمى قلوب الكفـار، عن حجج الله التـي قد عاينتها أبصارهم، فلذلك جاز ذلك وحسُن. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17011ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فَهُوَ فِـي الاَخِرَةِ أعْمَى قال: أعمى عن حجته فـي الاَخرة.

الآية : 73
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاّتّخَذُوكَ خَلِيلاً }.
اختلف أهل التأويـل فـي الفتنة التـي كاد الـمشركون أن يفتنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها عن الذي أوحى الله إلـيه إلـى غيره فقال بعضهم: ذلك الإلـمام بـالاَلهة، لأن الـمشركين دعوه إلـى ذلك، فهمّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
17012ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القُمّي، من جعفر، عن سعيد، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلـم الـحجر الأسود، فمنعته قريش، وقالوا: لا نَدَعُه حتـى يـلـم بآلهتنا، فحدّث نفسه، وقال: «ما عَلَـيّ أنْ أُلـمّ بِها بَعْدَ أنْ يَدَعُونِـي أسْتَلِـمُ الـحَجَرَ، وَاللّهُ يَعْلَـمُ أنّـي لَهَا كارِهٌ»، فَأَبَى الله، فَأنْزَلَ اللّهُ: وإنْ كادُوا لَـيَفْتِنُونَكَ عَنِ الّذِي أَوْحَيْنا إلَـيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَـيْنا غيرَهُ الاَية.
17013ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَلَوْلا أنْ ثَبّتْناكَ لَقَدْ كدْتَ تَرْكَن إلَـيْهِمْ شَيْئا قَلِـيلاً ذكر لنا أن قريشا خـلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات لـيـلة إلـى الصبح يكلـمونه ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه، وكان فـي قولهم أن قالوا: إنك تأتـي بشيء لا يأتـي به أحد من الناس، وأنت سيدنا وابن سيدنا، فما زالوا يكلّـمونه حتـى كاد أن يقارفهم ثم منعه الله وعصمه من ذلك، فقال: وَلَوْلا أنْ ثَبّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَـيْهِمْ شَيْئا قَلِـيلاً.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة لِتَفْتَرِيَ عَلَـيْنا غيرَهُ قال: أطافوا به لـيـلة، فقالوا: أنت سيدنا وابن سيدنا، فأرادوه علـى بعض ما يريدون فهمّ أن يقارفَهُمْ فـي بعض ما يريدون، ثم عصمه الله، فذلك قوله: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَـيْهِمْ شَيْئا قَلِـيلاً الذي أرادوا فهمّ أن يقارفهم فـيه.
17014ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد قال: قالوا له: ائت آلهتنا فـامْسَسْها، فذلك قوله: شَيْئا قلـيلاً.
وقال آخرون: إنـما كان ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم همّ أن يُنِظر قوما بإسلامهم إلـى مدة سألوه الإنظار إلـيها. ذكر من قال ذلك:
17015ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: وَإنْ كادُوا لَـيَفْتِنُونَكَ عَن الّذي أوْحَيْنا إلَـيْكَ لِتَفْتَري عَلَـيْنا غيرَهُ وإذا لاتّـخَذوكَ خَـلِـيلاً وذلك أن ثقـيفـا كانوا قالوا للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول لله أَجّلنا سنة حتـى يُهْدَى لاَلهتنا، فإذا قبضنا الذي يُهْدى لاَلهتنا أخذناه، ثم أسلـمنا وكسرنا الاَلهة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم، وأن يؤجّلهم، فقال الله: وَلَوْلا أنْ ثَبّتْناكَ لَقَدْ كَدْتَ تَرْكَنُ إلَـيْهِمْ شَيْئا قَلِـيلاً.
والصواب من
القول فـي ذلك أن يقال: إن الله تعالـى ذكره أخبر عن نبـيه صلى الله عليه وسلم، أن الـمشركين كادوا أن يفتنوه عما أوحاه الله إلـيه لـيعمل بغيره، وذلك هو الافتراء علـى الله وجائز أن يكون ذلك كان ما ذكر عنهم من ذكر أنهم دعوه أن يـمسّ آلهتهم، ويـلـمّ بها، وجائز أن يكون كان ذلك ما ذُكر عن ابن عبـاس من أمر ثقـيف، ومسألتهم إياه ما سألواه مـما ذكرنا وجائز أن يكون غير ذلك، ولا بـيان فـي الكتاب ولا فـي خبر يقطع العذر أيّ ذلك كان، والاختلاف فـيه موجود علـى ما ذكرنا، فلا شيء فـيه أصوب من الإيـمان بظاهره، حتـى يأتـي خبر يجب التسلـيـم له ببـيان ما عُنِـي بذلك منه.
وقوله: وَإذا لاتّـخَذُوكَ خَـلِـيلاً يقول تعالـى ذكره: ولو فعلت ما دَعَوْك إلـيه من الفتنة عن الذي أوحينا إلـيك لاتـخذوك إذا لأنفسهم خـلـيلاً، وكنت لهم وكانوا لك أولـياء.
الآية : 74
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {وَلَوْلاَ أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره: ولولا أن ثبّتناك يا مـحمد بعصمتنا إياك عما دعاك إلـيه هؤلاء الـمشركون من الفتنة لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَـيْهِمْ شَيْئا قَلِـيلاً يقول: لقد كدت تـميـل إلـيهم وتطمئنّ شيئا قلـيلاً، وذلك ما كان صلى الله عليه وسلم همّ به من أن يفعل بعض الذي كانوا سألوه فعله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـما ذكر حين نزلت هذه الاَية، ما:
17016ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا سلـيـمان، قال: حدثنا أبو هلال، عن قتادة، فـي قوله وَلَوْلا أنْ ثَبّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنْ إلَـيْهِمْ شَيْئا قَلِـيلاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَكِلْنِـي إلـى نَفْسي طَرْفَةَ عَيْنٍ».
الآية : 75
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً }.
يقول تعالـى ذكره: لو ركنت إلـى هؤلاء الـمشركين يا مـحمد شيئا قلـيلاً فـيـما سألوك إذن لأذقناك ضعف عذاب الـحياة، وضعف عذاب الـمـمات. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17017ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: إذا لأَذَقْناكَ ضِعْفَ الـحَياةِ وَضِعْفَ الـمَـماتِ يعنـي: ضعف عذاب الدنـيا والاَخرة.
17018ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول الله: ضِعْفَ الـحَياةِ قال: عذابها وَضِعْفَ الـمَـماتِ قال: عذاب الاَخرة.
حدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.
17019ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إذا لأَذَقْناكَ ضِعْفَ الـحَياة وَضِعْفَ الـمَـماتِ: أي عذاب الدنـيا والاَخرة.
حدثنا مـحمد، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ضِعْفَ الـحَياةِ وضِعْفَ الـمَـمَاتِ قال: عذاب الدنـيا وعذاب الاَخرة.
17020ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله ضِعْفَ الـحَياةِ وَضِعْفَ الـمَـماتِ يعنـي عذاب الدنـيا وعذاب الاَخرة.
وكان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يقول فـي قوله: إذا لأَذَقْناكَ ضِعْفَ الـحَياةِ مختصر، كقولك: ضعف عذاب الـحياة وَضِعْفَ الـمَـماتِ فهما عذابـان، عذاب الـمـمات به ضوعف عذاب الـحياة. وقوله ثُمّ لا تَـجِدُ لَكَ عَلَـيْنا نَصِيرا يقول: ثم لا تـجد لك يا مـحمد إن نـحن أذقناك لركونك إلـى هؤلاء الـمشركين لو ركنت إلـيهم، عذاب الـحياة وعذاب الـمـمات علـينا نصيرا ينصرك علـينا، ويـمنعك من عذابك، وينقذك مـما نالك منا من عقوبة