تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 296 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 296  {وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَـٰزَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَـٰنًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا * سَيَقُولُونَ ثَلَـٰثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّىۤ أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَـٰهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً * وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى لاًّقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَدًا * وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعًا * قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا * وَٱتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَـٰبِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا *وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَـٰرُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى ٱلاٌّرَآئِكِ نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً * وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لاًّحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَـٰبٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَـٰلَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَـٰحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً * قَالَ لَهُ صَـٰحِبُهُ وَهُوَ يُحَـٰوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا * وَلَوْلاۤ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا * فعسَىٰ رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يٰلَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدً}
قوله تعالى:
{قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدً}. لم يبين الله هنا من هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم، هل هم من المسلمين أو من الكفار؟ وذكر ابن جرير وغيره فيهم قولين: أحدهما ـ أنهم كفار، والثاني ـ أنهم مسلمون، وهي قولهم: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدً} لأن اتخاذ المساجد من صفات المؤمنين لا من صفات الكفار. هكذا قال بعض أهل العلم. ولقائل أن يقول: اتخاذ المساجد على القبور من فعل الملعونين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا من فعل المسلمين، وقد قدمنا ذلك مستوفي بأدلته في سورة «الحجر» في الكلام على قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَـٰبُ ٱلحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ} . قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَـٰثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّىۤ أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ}. أخبر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فذكر ثلاثة أقوال. على أنه لا قائل برابع، وجاء في الآية الكريمة بقرينة تدل على أن القول الثالث هو الصحيح والأرلان باطلان، لأنه لما ذكر القولين الأولين بقوله: {سَيَقُولُونَ ثَلَـٰثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} أتبع ذلك بقوله {رَجْماً بِٱلْغَيْبِ} أي قولاً بلا علم، كمن يرمى إلى مكان لا يعرفه فإنه لا يكاد يصيب، وإن أصاب بلا قصد، كقوله: {وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ} وقال القرطبي:
الرجم القول بالظن، يقال لكل ما يخرص رجم فيه ومرجوم ومرجم كما قال زهير:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
ثم حكى القول الثالث بقوله: {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} فأقره، ولم يذكر بعده أن ذلك رجم بالغيب، فدل على أن الصحيح. وقوله {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم، كانوا سبعة. وقوله: {قُل رَّبِّىۤ أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} فيه تعليم للناس أن يردوا علم الأشياء إلى خالقها جل وعلا وإن علموا بها، كما أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بمدة لبثهم في قوله: {وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعً} ثم أمره مع ذلك برد العلم إليه جل وعلا في قوله جل وعلا: {قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ} . وما قدمنا من أنه لا قائل يرابع قاله ابن كثير أخذاً من ظاهر الآية الكريمة. مع أن ابن اسحاق وابن جريج قالا: كانوا ثمانية. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ}. نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول: إنه سيفعل شيئاً في المستقبل إلا معلقاً ذلك على مشيئة الله الذي لا يقع شيء في العالم كائناً ما كان إلا بمشيئته جل وعلا فقوله: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْءٍ} أي لا تقولن لأجل شيء تعزم على فعله في المستقبل إني فاعل ذلك الشيء غداً.
والمراد بالغد: ما يستقبل من الزمان لا خصوص الغد. ومن أساليب العربية إطلاق الغد على المستقبل من الزمان. ومنه قول زهير: واعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم

يعني أنه لا يعلم ما يكون في المستقبل، إذ لا وجه لتخصيص الغد المعين بذلك. وقوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ} إلا قائلاً في ذلك إلا أن يشاء الله، أي معلقاً بمشيئة الله. أو لا تقولنه إلا بإن شاء الله، أي إلا بمشيئة الله. وهو في موضع الحال، يعني إلا متلبساً بمشيئة الله قائلاً إن شاء الله، قاله الزمخشري وغيره.
وسبب نزول هذه الآية الكريمة ـ أن اليهود قالوا لقريش: سلوا محمداً «صلى الله عليه وسلم» عن الروح، وعن رجل طواف في الأرض (يعنون ذا القرنين)، وعن فتية لهم قصة عجيبة في الزمان الماضي (يعنون أصحاب الكهف). فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سأخبركم غداً عما سألتم عنه» ولم يقل إن شاء الله، فلبث عنه الوحي مدة، قيل خمس عشرة ليلة، وقيل غير ذلك. فأحزنه تأخر الوحي عنه، ثم أنزل عليه الجواب عن الأسئلة الثلاثة، قال في الروح: {وَيَسْألُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} . وقال في الفتية {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ} الآيات إلى آخر قصتهم. وقال في الرجل الطواف: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْر} الآيات إلى آخر قصته.
فإذا عرفت معنى هذه الآية الكريمة وسبب نزولها، وأن الله عاتب نبيه فيها على عدم قوله إن شاء الله، لما قال لهم سأخبركم غداً ـ فاعلم أنه دلت آية أخرى بضميمة بيان السنة لها على أن الله عاتب نبيه سليمان على عدم قوله إن شاء الله، كما عاتب نبيه في هذه الآية على ذلك. بل فتنة سليمان بذلك كانت أشد. فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال سليمان بن داود عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ـ وفي رواية تسعين امرأة، وفي رواية مائة امرأة ـ تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله» فقيل له ـ وفي رواية قال له الملك: «قل إن شاء الله» فلم يقل. فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته». وفي رواية «ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعون» ا هـ.
فإذا علمت هذا فاعلم أن هذا الحديث الصحيح بين معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـٰنَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَد} . وأن فتنة سليمان كانت بسبب تركه قوله «إن شاء الله»، وأنه لم يلد من تلك النساء إلا واحدة نصف إنسان، وأن ذلك الجسد الذي هو نصف إنسان هو الذي ألقي على كرسيه بعد موته في قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَد}، فما يذكره المفسرون في تفسير قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَد}، من قصة الشيطان الذي أخذ الخاتم وجلس على كرسي سليمان، وطرد سليمان عن ملكه. حتى وجد الخاتم في بطن السمكة التي أعطاها له من كان يعمل عنده بأجر مطروداً عن ملكه، إلى آخر القصة ـ لا يخفى أنه باطل لا أصل له، وأنه لا يليق بمقام النبوة. فهي من الإسرائيليات التي لا يخفى أنها باطلة.
والظاهر في معنى الآية هو ما ذكرنا، وقد دلت السنة الصحيحة عليه في الجلة، واختاره بعض المحققين. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}. في هذه الآية الكريمة قولان معروفان لعلماء التفسير:
الأول ـ أن هذه الآية الكريمة متعلقة بما قبلها، والمعنى: أنك إن قلت سأفعل غداً كذا ونسيت أن تقول إن شاء الله، ثم تذكرت بعد ذلك فقل إن شاء الله. أي اذكر ربك معلقاً على مشيئته ما تقول أنك ستفعله غداً إذا تذكرت بعد النسيان. وهذا القول هو الظاهر. لأنه يدل عليه قوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ} وهو قول الجمهور. وممن قال به ابن عباس والحسن البصري وأبو العالية وغيرهم.
القول الثاني ـ أن الآية لا تعلق لها بما قبلها. أن المعنى: إذا وقع منك النسيان لشيء فاذكر الله. لأن النسيان من الشيطان. كما قال تعالى عن فتى موسى: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَنْ أَذْكُرَهُ} ، وكقوله: {ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ فَأَنسَـٰهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ} ، وقال تعالى: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَـٰنُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} وذكر الله تعالى يطرد الشيطان، كما يدل لذلك قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ مَلِكِ ٱلنَّاسِ إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِمِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ} . أي الوسواس عند الغفلة عن ذكر الله. الخناس الذي يخنس ويتأخر صاغراً عند ذكر الله، فإذا ذهب الشيطان النسيان. وقال بعضهم: {وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أي صل الصلاة التي كنت ناسياً لها عند ذكرك لها، كما قال تعالى: {وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكْرِىۤ} وقول من قال إذا نسيت، أي إذا غضبت ظاهر السقوط.
مسألة
اشتهر على ألسنة العلماء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه استنبط من هذه الآية الكريمة. أن الاستثناء يصح تأخيره عن المستثنى منه زمناً طويلاً قال بعضهم إلى شهر. وقال بعضهم: إلى سنة. وقال بعضهم عنه: له الاستثناء أبداً. ووجه أخذه ذلك من الآية: أن الله تعالى نهى نبيه أن يقول: إنه سيفعل شيئاً في المستقبل إلا من الاستثناء بإن شاء الله. ثم قال: {وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}، أي إن نسيت تستثنى بإن شاء الله فاستثن إذا تذكرت من غير تقييد باتصال ولا قرب.
والتحقيق الذي لا شك فيه ـ أن الاستثناء لا يصح إلا مقترناً بالمستثنى منه. وأن الاستثناء المتأخر لا أثر له ولا تحل به اليمين. ولو كان الاستثناء المتأخر يصح لما علم في الدنيا أنه تقرر عقد ولا يمين ولا غير ذلك، لاحتمال طرو الاستثناء بعد ذلك، وهذا في غاية البطلان كما ترى. ويحكى عن المنصور أنه بلغه أن أبا حنيفة رحمه الله يخالف مذهب ابن عباس المذكور. فاستحضره لينكر عليه ذلك، فقال الإمام أبو حنيفة للمنصور: هذا يرجع عليكٰ إنك تأخذ البيعة بالأيمان، أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليكٰ؟ فاستحسن كلامه ورضي عنه.
فائدة
قال ابن العربي المالكي: سمعت فتاة ببغداد تقول لجارتها: لو كان مذهب ابن عباس صحيحاً في الاستثناء ما قال الله تعالى لأيوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَٱضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} بل يقول استثن بإن شاء الله ـ انتهى منه بواسطة نقل صاحب نشر البنود في شرح وقوله في مراقي السعود:
بشركة وبالتوطي قالا بعض وأوجب فيه الاتصالا
وفي البواقي دون ما اضطرار وأبطلن بالصمت للتذكار

فإن قيل: فما الجواب الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما نسب إليه من القول بصحة الاستثناء المتأخر.
فالجواب ـ أن مراد ابن عباس رضي الله عنهما أن الله عاتب نبيه على قوله إنه سيفعل كذا غداً ولم يقل إن شاء الله، وبين له أن التعليق بمشيئة الله هو الذي ينبغي أن يفعل، لأنه تعالى لا يقع شيء إلا بمشيئته، فإذا نسي التعليق بالمشيئة ثم تذكر ولو بعد طول فإنه يقول إن شاء الله، ليخرج بذلك من عهدة عدم التعليق بالمشيئة، ويكون قد فوض الأمر إلى من لا يقع إلا بمشيئة. فنتيجة هذا الاستثناء ـ هي الخروج من عهدة تركة الموجب للعتاب السابق، لا أنه يحل اليمين لأن تداركها قد فات بالأنفصال. هذا هو مراد ابن عباس كما جزم به الطبري وغيره. وهذا لا محذور فيه ولا إشكال.
وأجاب بعض أهل العلم بجواب آخر وهو ـ أنه نوى الاستثناء بقلبه ونسي النطق به بلسانه. فأظهر بعد ذلك الاستثناء الذي نواه وقت اليمين، هكذا قاله بعضهم. والأول هو الظاهر. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ}. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو المختص بعلم الغيب في السموات والأرض. وذكر هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وٱلاٌّرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} وقوله تعالى: {عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلْكَبِيرُ ٱلْمُتَعَالِ} ، وقوله تعالى: {مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَكِنَّ} ، وقوله تعالى: {وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلاٌّمْرُ كُلُّهُ} ، وقوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلاٌّرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ} ، وقوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلاٌّرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} ، وقوله تعالى: {عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَلاَ فِى ٱلاٌّرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ} ، وقوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي ٱلاٌّرْضِ وَلاَ فِى} . وبين في مواضع أخر: أنه يطلع من شاء من خلقه على ما شاء من وحيه، كقوله تعالى: {عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداًإِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ} . وقد أشار إلى ذلك بقوله: {وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ}. أي ما أبصره وما أسمعه جل وعلا. وما ذكره في هذه الآية الكريمة من اتصافه جل وعلا بالسمع والبصر، ذكره أيضاً في مواضع أخر، كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ} وقوله: {قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِىۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} وقوله تعالى: {ٱللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} . والآيات بذلك كثيرة جداً. قوله تعالى: {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ـ أن أصحاب الكهف ليس لهم ولي من دونه جل وعلا، بل هو وليهم جل وعلا. وهذا المعنى مذكور في آيات أخر، كقوله تعالى: {ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ} ، وقوله تعالى: {أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فبين أنه ولي المؤمنين، وأن المؤمنين أولياؤه ـ والولي: هو من انعقد بينك وبينه سبب يواليك وتواليه به. فالإيمان سبب يوالي به المؤمنين ربهم بالطاعة، ويواليهم به الثواب والنصر والإعانة. وبين في مواضع أخر: أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، كقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُو} ، وقوله: {وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} . وبين في مواضع أخر: أن نبينا صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو قوله تعالى: {ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَٰجُهُ أُمَّهَـٰتُهُمْ} .
وبين في مواضع أخر: أنه تعالى مولى المؤمنين دون الكافرين، وهو قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَـٰفِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ} ، وهذه الولاية المختصة بالمؤمنين هي ولاية الثواب والنصر والتوفيق والإعانة، فلا تنافي أنه مولى الكافرين ولاية ملك وقهر ونفوذ مشيئة، كقوله: {وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوْلَـٰهُمُ ٱلْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} . وقال بعض العلماء: الضمير في قوله: {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ} راجع لأهل السموات والأرض المفهومين من قوله تعالى: {لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ} وقيل: الضمير في قوله «ما لهم» راجع لمعاصري النَّبي صلى الله عليه وسلم من الكفار. ذكره القرطبي. وعلى كل حال فقد دلت الآيات المتقدمة أن ولاية الجميع لخالقهم جل وعلا، وأن منها ولاية ثواب وتوفيق وإعانة، وولاية ملك وقهر ونفوذ مشيئة. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدً}. قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر «ولا يشرك» بالياء المثناة التحتية، وضم الكاف على الخبر، ولا نافية ـ والمعنى: ولا يشرك الله جل وعلا أحداً في حكمه، بل الحكم له وحده جل وعلا لا حكم لغيره ألبتة، فالحلال ما أحله تعالى، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه. والقضاء ما قضاه. وقرأه ابن عامر من السبعة. «ولا تشرك» بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي، أي لا تشرك يا نبي الله. أو لا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله جل وعلا، بل أخلص الحكم لله من شوائب شرك غيره في الحكم. وحكمه جل وعلا المذكور في قوله: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدً} شامل لكل ما يقضيه جل وعلا. ويدخل في ذلك التشريع دخولاً أولياً.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه على كلتا القراءتين جاء مبيناً في آيات أخر. كقوله تعالى: {إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ} وقوله تعالى: {وَقَالَ يٰبَنِىَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَٱدْخُلُو} ، وقوله تعالى: {وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ} ، وقوله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَٱلْحُكْمُ للَّهِ ٱلْعَلِـىِّ ٱلْكَبِيرِ} ، وقوله تعالى: {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وقوله تعالى: {لَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلاٍّولَىٰ وَٱلاٌّخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وقوله: {أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ ٱلَّذِىۤ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مُفَصَّل} ، إلى غير ذلك من الآيات.
ويفهم من هذه الآيات كقوله {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدً} أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله. وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر. كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّه
لَفِسْقٌ وَإِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَـٰدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ
} فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم. وهذا الإشراك في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى ـ هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِىۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌوَأَنِ ٱعْبُدُونِى هَـٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ} ، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم: {يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّ} ، وقوله تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَـٰثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَـٰناً مَّرِيد} أي ما يعبدون إلا شيطاناً، أي وذلك باتباع تشريعه. ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَـٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} . وقد بين النَّبي صلى الله عليه وسلم هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى: {ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَـٰرَهُمْ وَرُهْبَـٰنَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ} ـ فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم في ذلك، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً.
ومن أصرح الأدلة في هذا: أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب. وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـٰلاً بَعِيد} .
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم.
تنبيه
اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضى تحكيمه الكفر بخالق السموات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضى ذلك.
وإيضاح ذلك ـ أن النظام قسمان: إداري، وشرعي. أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه، ولا مخالف فيه من الصحابة، فمن
بعدهم. وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم. ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط، ومعرفة من غاب ومن حضر كما قدمنا إيضاح المقصود منه في سورة «بني إسرائيل» في الكلام على العاقلة التي تحمل دية الخطأ، مع أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد أن وصل تبوك صلى الله عليه وسلم. وكاشترائه ـ أعني عمر رضي الله عنه ـ دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجناً في مكة المكرمة، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجناً هو ولا أبو بكر. فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع ـ لا بأس به. كتنظيم شؤون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع. فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة.
وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالقي السموات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض. كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث. وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان، ونحو ذلك.
فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم ـ كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى عن أن يكون معه مشرع آخر علواً كبيراً {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ} ، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ} ، {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} وقد قدمنا جملة وافية من هذا النوع في سورة «بني إسرائيل» في الكلام على قوله تعالى:
{إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} . قوله تعالى: {وَٱتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَـٰبِ رَبِّكَ}. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يتلو هذا القرآن الذي أوحاه إليه ربه. والأمر في قوله «واتل» شامل للتلاوة بمعنى القراءة. والتلو: بمعنى الاتباع. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن العظيم واتباعه جاء مبيناً في آيات أخر. كقوله تعالى في سورة «العنكبوت»: {ٱتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ} ، وكقوله تعالى في آخر سورة «النمل»: {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ ٱلَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَىءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ ٱلْقُرْءَانَ} ، {وَرَتِّلِ ٱلْقُرْءَانَ تَرْتِيل} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الأمر بتلاوته، وكقوله تعالى على الأمر باتباعه {ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ} ، وقوله تعالى: {فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِىۤ أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، وقوله تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَىَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} ، وقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِىۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِىۤ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىۤ إِلَىَّ إِنِّىۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الأمر باتباع هذا القرآن العظيم. وقد بين في مواضع أخر بعض النتائج التي تحصل بسبب تلاوة القرآن واتباعه. كقوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَـٰرَةً لَّن تَبُورَ} ، وقوله تعالى: {ٱلَّذِينَ آتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ} والعبرة في هذه الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله تعالى: {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِهِ}. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا مبدل لكلماته. أي لأن أخبارها صدق: وأحكامها عدل، فلا يقدر أحد أن يبدل صدقها كذباً. ولا أن يبدل عدلها جوراً: وهذا الذي ذكره هنا جاء مبيناً في مواضع أخر، كقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَـٰتِهِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ} . فقوله: «صدقاً» يعني في الإخبار. وقوله «عدلاً» أي في الأحكام. وكقوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَـٰهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِ ٱللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ} .
وقد بين تعالى في مواضع أخر، أنه هو يبدل ما شاء من الآيات مكان ما شاء منها. كقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} .
وقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَ} ، وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ٱئْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَـٰذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِىۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِىۤ} . قوله تعالى: {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدً}. أصل الملتحد: مكان الالتحاد وهو الافتعال: من اللحد بمعنى الميل، ومنه اللحد في القبر، لأنه ميل في الحفر، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىۤ ءَايَـٰتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَ} ، وقوله: {وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىۤ أَسْمَـٰئِهِ} ، فمعنى اللحد والإلحاد في ذلك: الميل عن الحق. والملحد المائل عن دين الحق. وقد تقرر في فن الصرف أن الفعل إن زاد ماضيه على ثلاثة أحرف فمصدره الميمى واسم مكانه واسم زمانه كلها بصيغة اسم المفعول كما هنا. فالملتحد بصيغة اسم المفعول، والمراد به مكان الالتحاد، أي المكان الذي يميل فيه إلى ملجإ أو منجي ينجيه مما يريد الله أن يفعله به.
وهذا الذي ذكره هنا من أن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يجد من دونه ملتحداً. أي مكاناً يميل إليه ويلجأ إليه إن لم يبلغ رسالة ربه ويطعه ـ جاء مبيناً في مواضع أخر. كقوله: {قُلْ إِنِّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداًإِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَـٰلَـٰتِهِ} ، وقوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلاٌّقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَـٰجِزِينَ} .
وكونه ليس له ملتحد، أي مكان يلجأ إليه تكرر نظيره في القرآن بعبارات مختلفة. كالمناص، والمحيص، والملجإ، والموئل، والمفر، والوزر، كقوله: {فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} وقوله: {وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيص} ، وقوله: {فَنَقَّبُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ} ، وقوله: {مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ} ، وقوله: {يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} ، وقوله: {يَقُولُ ٱلإِنسَـٰنُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَر } فكل ذلك راجع في المعنى إلى شيء واحد، وهو انتفاء مكان يلجؤون إليه ويعتصمون به. قوله تعالى: {وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يصبر نفسه، أي يحبسها مع المؤمنين الذي يدعون ربهم أول النهار وآخره مخلصين له، لا يريدون بدعائهم إلا رضاه جل وعلا.
وقد نزلت هذه الآية الكريمة في فقراء المهاجرين كعمار، وصهيب، وبلال، وابن مسعود ونحوهم. لما أراد صناديد الكفار من النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يطردهم عنه، ويجالسهم بدون حضور أولئك الفقراء المؤمنين، وقد قدمنا في سورة «الأنعام» أن الله كما أمره هنا بأن يصبر نفسه معهم أمره أمره بألا يطردهم، وأنه إذا رآهم يسلم عليهم، وذلك في قوله: {وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} ـ إلى قوله ـ {وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأايَـٰتِنَا فَقُلْ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ} وقد أشار إلى ذلك المعنى في قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ أَن جَآءَهُ ٱلاٌّعْمَىٰوَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَى ٰفَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰوَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ وَهُوَ يَخْشَىٰ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ كَل} . وقد قدمنا أن ما طلبه الكفار من نبينا صلى الله عليه وسلم من طرده فقراء المؤمنين وضعفاءهم تكبراً عليهم وازدراء بهم ـ طلبه أيضاً قوم نوح من نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأنه امتنع من طردهم أيضاً، كقوله تعالى عنهم: {قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلاٌّرْذَلُونَ} ، وقوله عنهم أيضاً: {وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ ٱلرَّأْى} ، وقال عن نوح في امتناعه من طردهم: {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} ، وقوله تعالى عنه: {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ ءامَنُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـٰكِنِّىۤ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} .
وقوله {وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ} فيه الدليل على أن مادة الصبر تتعدى بنفسها للمفعول، ونظير ذلك من كلام العرب قول أبي ذؤيب أو عنترة:
فصبرت عارفة بذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع

والغداة: أول النهار. والعشي آخره. وقال بعض العلماء: {يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ} أي يصلون صلاة الصبح والعصر. والتحقيق أن الآية تشمل أعم من مطلق الصلاة. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَ}. نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة ـ أن تعدو عيناه عن ضعفاء المؤمنين وفقرائهم، طموحاً إلى الأغنياء وما لديهم من زينة الحياة الدنيا. ومعنى {لاَ تَعْدُواْ عَيْنَاكَ}: أي لا تتجاوزهم عيناك وتنبوا عن رثاثة زيهم، محتقراً لهم طامحاً إلى أهل الغنى والجاه والشرف بدلاً منهم. وعدا يعدو: تتعدى بنفسها إلى المفعول وتلزم. والجملة في قوله {تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَ} في محل حال والرابط الضمير، على حد قوله في الخلاصة: وذات بدء بمضارع ثبت حوت ضميراً ومن الواو خلت

وصاحب الحال المذكورة هو الضمير المضاف إليه في قوله «عيناك» وإنما ساغ ذلك لأن المضاف هنا جزء من المضاف إليه، على حد قوله في الخلاصة: ولا تجز حالاً من المضاف له إلا إذا اقتضى المضاف عمله
أو كان جزء ماله أضيفا أو مثل جزئه فلا تحيفا

وما نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة من طموح العين إلى زينة الحياة الدنيا، مع الاتصاف بما يرضيه جل وعلا من الثبات على الحق، كمجالسة فقراء المؤمنين ـ أشار له أيضاً في مواضع أخر، كقوله {فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَآءِ ٱلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَٰجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَ} ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْءَانَ ٱلْعَظِيمَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} . قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطً}. نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة عن طاعة من أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه، وكان أمره فرطاً. وقد كرر في القرآن نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن اتباع مثل هذا الغافل عن ذكر الله المتبع هواه، كقوله تعالى: {فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُور} ، وقوله: {وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} ، وقوله تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيم ٍمَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أمره في موضع آخر بالإعراض عن المتولين عن ذكر الله، والذين لا يريدون غير الحياة الدنيا، وبين له أن ذلك هو مبلغهم من العلم. وذلك في قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ} .
وقوله في هذه الآية الكريمة: {مَنْ أَغْفَلْنَ} يدل على أن ما يعرض للعبد من غفلة ومعصية، إنما هو بمشيئة الله تعالى. إذ لا يقع شيء البتة كائناً ما كان إلا بمشيئته الكونية القدرية، جل وعلا، {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ} ، {وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُو} ، {وَلَوْ شِئْنَا لاّتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَ} ، {وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ}، {خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} ، {وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْر} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل شيء من خير وشر، لا يقع إلا بمشيئة خالق السموات والأرض. فما يزعمه المعتزلة، ويحاول الزمخشري في تفسيره دائماً ـ تأويل آيات القرآن على نحو ما يطابقه من استقلال قدرة العبد وإرادته فأفعاله دون مشيئة الله، لا يخفى بطلانه كما تدل عليه الآيات المذكورة آنفاً، وأمثالها في القرآن كثيرة.
ومعنى اتباعه هواه: أنه يتبع ما تميل إليه نفسه الأمارة بالسوء وتهواه من الشر، كالكفر والمعاصي.
وقوله: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطً} قيل: هو من التفريط الذي هو التقصير، وتقديم العجز بترك الإيمان. وعلى هذا فمعنى {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطً} أي كانت أعماله سفهاً وضياعاً وتفريطاً. وقيل: من الإفراط الذي هو مجاوزة الحد، كقول الكفار المحتقرين لفقراء المؤمنين: نحن أشراف مضر وساداتهاٰ إن اتبعناك اتبعك جميع الناس. وهذا من التكبر والإفراط في القول. وقيل «فرطاً» أي قدما في الشر.. من قولهم: فرط منه أمر، أي سبق. وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة عندي بحسب اللغة العربية التي نزل بها للقرآن أن معنى قوله «فرطاً»: أي متقدماً للحق والصواب، نابذاً له وراء ظهره. من قولهم: فرس فرط، أي متقدم للخيل. ومنه قول لبيد في معلقته: ولقد حميت الخيل تحمل شكتي فرط وشاحي إذ غدوت لجامها

وإلى ما ذكرنا في معنى الآية ترجع أقوال المفسرين كلها، كقول قتادة ومجاهد «فرطاً» أي ضياعاً. وكقول مقاتل بن حيان «فرطاً» أي سرفاً. كقول الفراء «فرطاً» أي متروكاً. وكقول الأخفش «فرطاً» أي مجاوزاً للحد، إلى غير ذلك من الأقوال. قوله تعالى: {وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ}. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة ـ أن يقول للناس:
الحق من ربكم. وفي إعرابه وجهان: أحدهما ـ أن «الحق» مبتدأ، والجار والمجرور خبره، أي الحق الذي جئتكم به في هذا القرآن العظيم، المتضمن لدين الإسلام كائن مبدؤه من ربكم جل وعلا. فليس من وحي الشيطان، ولا من افتراء الكهنة، ولا من أساطير الأولين، ولا غير ذلك. بل هو من خالقكم جل وعلا، الذي تلزمكم طاعته وتوحيده، ولا يأتي من لدنه إلا الحق الشامل للصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام، فلا حق إلا منه جل وعلا.
الوجه الثاني ـ أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا الذي جئتكم به الحق.
وهذا الذي ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة ـ ذكره أيضاً في مواضع أخر. كقوله في سورة «البقرة»: {ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ} ، وقوله في «آل عمران»: {ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ} إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ}. ظاهر هذه الآية الكريمة بحسب الوضع اللغوي ـ التخيير بين الكفر والإيمان ـ ولكن المراد من الآية الكريمة ليس هو التخيير، وإنما المراد بها التهديد والتخويف. والتهديد بمثل هذه الصيغة التي ظاهرها التخيير أسلوب من أساليب اللغة العربية. والدليل من القرآن العظيم على أن المراد في الآية التهديد والتخويف ـ أنه أتبع ذلك بقوله {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقً} وهذا أصرح دليل على أن المراد التهديد والتخويف. إذ لو كان التخيير على بابه لما توعد فاعل أحد الطرفين المخير بينهما بهذا العذاب الأليم. وهذا واضح كما ترى. وقوله في هذه الآية الكريمة {أَعْتَدْنَ} أصله من الاعتاد، والتاء فيه أصلية وليست مبدلة من دال على الأصح.
ومنه العتاد بمعنى العدة للشيء. ومعنى «أعتدنا»: أرصدنا وأعددنا. والمراد بالظالمين هنا: الكفار. بدليل قوله قبله {وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} وقد قدمنا كثرة إطلاق الظلم على الكفر في القرآن. كقوله: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، وقوله تعالى: {وَٱلْكَـٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} ، وقوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} ونحو ذلك من الآيات. وقد قدمنا أن الظلم في لغة العرب: وضع الشيء في غير محله، ومن أعظم ذلك وضع العبادة في مخلوق. وقد جاء في القرآن إطلاق الظلم على النقص في قوله: {وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئً} وأصل معنى مادة الظلم هو ما ذكرنا من وضع الشيء في غير موضعه، ولأجل ذلك قيل الذي يضرب اللبن قبل أن يروب: ظالم لوضعه ضرب لبنه في غير موضعه، لأن ضربه قبل أن يروب يضيع زبده. ومن هذا المعنى قول الشاعر: وقائلة ظلمت لكم سقائي وهل يخفى على العكد الظليم

فقوله «ظلمت لكم سقائي» أي ضربته لكم قبل أن يروب. ومنه قول الآخر في سقاء له ظلمه بنحو ذلك: وصاحب صدق لم تربني شكاته ظلمت وفي ظلمي له عامداً أجر

وفي لغز الحريري في مقاماته في الذي يضرب لبنه قبل أن يروب قال: أيجوز أن يكون الحاكم ظالماً؟ قال: نعم، إذا كان عالماً. ومن ذلك أيضاً قولهم للأرض التي حفر فيها وليست محل حفر في السابق: أرض مظلومة، ومنه قول نابغة ذبيان:
إلا الأواري لأياً ما أبينها والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد

وما زعمه بعضهم من أن «المظلومة» في البيت هي التي ظلمها المطر بتخلفه عنها وقت إبانه المعتاد ـ غير صواب. والصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى. ولأجل ما ذكرنا قالوا للتراب المخرج من القبر عند حفره ظليم بمعنى مظلوم، لأنه حفر في غير محل الحفر المعتاد، ومنه قول الشاعر يصف رجلاً مات ودفن: فأصبح في غبراء بعد إشاحة على العيش مرود عليها ظليمها

وقوله {أَحَاطَ بِهِمْ} أي أحدق بهم من كل جانب. وقوله {سُرَادِقُهَ} أصل السرادق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار. وكل بيت من كرسف فهو سرادق. والكرسف: القطن، ومنه قول رؤبة أو الكذاب الحرمازي: يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق المجد عليك ممدود

وبيت مسردق: أن مجعول له سرادق، ومنه قول سلامة بن جندل يذكر أبريويز وقتله للنعمان بن المنذر تحت أوجل الفيلة: هو المدخل النعمان بيتاً سماؤه صدور الفيول بعد بيت مسردق

هذا هو أصل معنى السرادق في اللغة. ويطلق أيضاً في اللغة على الحجرة التي حول الفسطاط.
وأما المراد بالسرادق في الآية الكريمة ففيه للعلماء أقوال مرجعها إلى شيء واحد، وهو إحداق النار بهم من كل جانب، فمن العلماء من يقول «سرداقها»: أي سورها، قاله ابن الأعرابي وغيره. ومنهم من يقول «سرداقها»: سور من نار، وهو مروي عن ابن عباس. ومنهم من يقول «سرداقه»: عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة، قاله الكلبي: ومنهم من يقول: هو دخان يحيط بهم. وهو المذكور في «المرسلات» في قوله تعالى: {ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِى ثَلَـٰثِ شُعَبٍ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ ٱللَّهَبِ} ، و«الواقعة» في قوله: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ} .
ومنهم من يقول: هو البحر المحيط بالدنيا. وروى يعلى بن أمية عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «البحر هو جهنم ـ ثم تلا ـ ناراً أحاط بهم سرادقها ـ ثم قال ـ والله لا أدخلها أبداً ما دمت حياً ولا تصيبني منها قطرة» ذكره الماوردي. وروى ابن المبارك من حديث أبي سعيد الخدري عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لسرادق النار أربعة جدر كثف، كل جدار مسيرة أربعين سنة» وأخرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه: حديث حسن صحيح غريب. انتهى من القرطبي. وهذا الحديث رواه أيضاً الإمام أحمد وابن جرير وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه وابن أبي الدنيا. قاله صاحب الدر المنثور وتبعه الشوكاني. وحديث يعلى بن أمية رواه أيضاً ابن جرير في تفسيره. قال الشوكاني: ورواه أحمد والبخاري وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، ورواه صاحب الدر المنثور عن البخاري في تاريخه، وأحمد وابن أبي الدنيا وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي. وعلى كل حال، فمعنى الآية الكريمة: أن النار محيطة بهم من كل جانب، كما قال تعالى: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} ، وقال: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} ، وقال: {لَوْ يَعْلَمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَإِن يَسْتَغِيثُو} يعني إن يطلبوا الغوث مما هم فيه من الكرب يغاثوا، يؤتوا بغوث هو ماء كالمهل. والمهل في اللغة: يطلق على ما أذيب من جواهر الأرض، كذائب الحديد والنحاس، والرصاص ونحو ذلك.
ويطلق أيضاً على دردي الزيت وهو عكره. والمراد بالمهل في الآية: ما أذيب من جواهر الأرض. وقيل: دردي الزيت. وقيل: هو نوع من القطران. وقيل السم.
فإن قيل: أي إغاثة في ماء كالمهل مع أنه من أشد العذاب، وكيف قال الله تعالى: {يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ}.
فالجواب ـ أن هذا من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن. ونظيره من كلام العرب قول بشر بن أبي حازم: غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار فأعتبوا بالصيلم

فمعنى قوله «أعتبوا بالصيلم»: أي أرضوا بالسيف. يعني ليس لهم منا إرضاء إلا بالسيف. وقول عمرو بن معد يكرب: وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع

يعني لا تحية لهم إلا الضرب الوجيع. وإذا كانوا لا يغاثون إلا بماء كالمهل ـ علم من ذلك أنهم لا إغاثة لهم البتة. والياء في قوله «يستغيثوا» والألف في قوله «يغاثوا» كانا هما مبدلة من واو، لأن مادة الاستغاثة من الأحرف الواوي العين، ولكن العين أعلت للساكن الصحيح قبلها، على حد قوله في الخلاصة: لساكن صح انقل التحريك من ذي لين آت عين فعل كأبن

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {يَشْوِى ٱلْوجُوهَ} أي يحرقها حتى تسقط فروة الوجه، أعاذنا الله والمسلمين منهٰ وعن النَّبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية الكريمة أنه قال: «كالمهل يشوي الوجوه»، هو كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه. قال ابن حجر رحمه الله في (الكافي الشاف، في تخريج أحاديث الكشاف): أخرجه الترمذي من طريق رشدين ابن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، واستغربه وقال: لا يعرف إلا من حديث رشدين بن سعد، وتعقب قوله بأن أحمد وأبا يعلى أخرجاه من طريق ابن لهيعة عن دراج، وبأن ابن حبان والحاكم أخرجاه من طريق وهب عن عمرو بن الحارث.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {بِئْسَ ٱلشَّرَابُ} المخصوص بالذم فيه محذوف، تقديره: بئس الشراب ذلك الماء الذي يغاثون به. والضمير الفاعل في قوله «ساءت» عائد إلى النار.
والمرتفق: مكان الارتفاق. وأصله أن يتكىء الإنسان معتمداً على مرفقه. وللعلماء في المراد بالمرتفق في الآية أقوال متقاربة في المعنى. قيل مرتفقاً. أي منزلاً، وهو مروي عن ابن عباس. وقيل مقراً، وهو مروي عن عطاء. وقيل مجلساً وهو مروي عن العتبي. وقال مجاهد: مرتفقاً أي مجتمعاً. فهو عنده مكان الارتفاق بمعنى مرافقة بعضهم لبعض في النار.
وحاصل معنى الأقوال ـ أن النار بئس المستقر هي، وبئس المقام هي. ويدل لهذا قوله تعالى: {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَام} ، وكون أصل الارتفاق هو الاتكاء على المرفق ـ معروف في كلام العرب، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي: نام الخلى وبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مذبوح

ويروى «وبت الليل مشتجراً» وعليه فلا شاهد في البيت. ومنه قول أعشى باهلة: قد بت مرتفقاً للنجم أرقبه حيران ذا حذر لو ينفع الحذر

وقول الراجز: قالت له وارتفقت ألا فتى يسوق بالقوم غزالات الضحا

وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من صفات هذا الشراب، الذي يسقى به أهل النار ـ جاء نحوه في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {ٱلَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} ، وقوله تعالى: {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} ، وقوله تعالى: {تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ} ، وقوله تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} والحميم الآني من الماء المتناهي في الحرارة.
وقوله تعالى: {وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيد ٍيَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} ، وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} ، وقوله تعالى: {فَشَـٰرِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ فَشَـٰرِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ} .
وقوله تعالى: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاق} ، وقوله تعالى: {هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} {هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا طرقاً من هذا في سورة «يونس». قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَل}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من عمل صالحاً وأحسن في عمله أنه جلا وعلا لا يضيع أجره، أي جزاء عمله: بل يجازى بعمله الحسن الجزاء الأوفى.
وبين هذا المعنى في آيات كثيرة جداً، كقوله تعالى: {فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ} . وقوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} وقوله {هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَـٰنِ إِلاَّ ٱلإِحْسَـٰنُ} والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جداً. وفي هذا المعنى الكريمة سؤلان معروفان عند العلماء:
الأول ـ أن يقال أين خبر «إن» في قوله تعالى {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُو}؟ فإذا قيل: خبرها جملة {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَل} توجه السؤال.
الثاني ـ وهو أن يقال: أين رابط الجملة الخبرية بالمبتدأ الذي هو اسم «إن»؟.
اعلم أن خبر «إن» في قوله: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُو} قيل هو جملة {أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} وعليه فقوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَل} جملة اعتراضية. وعلى هذا فالرابط موجود ولا إشكال فيه. وقيل: «إن» الثانية واسمها وخبرها، كل ذلك خبر «إن» الأولى. ونظير الآية من القرآن في الإخبار عن «إن» بـ«إن» وخبرها واسمها قوله تعالى في سورة «الحج»: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّـٰبِئِينَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ} ، وقول الشاعر: إن الخليفة إن الله ألبسه سربال ملك به ترجى الخواتيم

على أظهر الوجهين في خبر «إن» الأولى في البيت. وعلى هذا فالجواب عن السؤال الثاني من وجهين:
الأول ـ أن الضمير الرابط محذوف، تقديره: لا نضيع أجر من أحسن منهم عملاً: كقولهم: السمن منوان بدرهم، أي منوان منه بدرهم، كما تقدم في قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَٰجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} . أي يتربصن بعدهم.
الوجه الثاني ـ أن {مَنْ أَحْسَنَ عَمَل} هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وإذا كان الذين آمنوا، ومن أحسن عملاً ينظمها معنى واحد قام ذلك مقام الربط بالضمير. وهذا هو مذهب الأخفش، وهو الصواب. لأن الربط حاصل بالاتحاد في المعنى. قوله تعالى: {أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَـٰرُ} ـ إلى قوله ـ {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَق}. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أجر من أحسن عملاً، فذكر أنه جنات عدن تجري من تحتهم فيها الأنهار، ويحلون فيها أساور الذهب، ويلبسون فيها الثياب الخضر من السندس والاستبرق، في حال كونهم متكئين فيها على الأرائك وهي السرر في الحجال والحجال: جمع حجلة وهو بيت يزين للعروس بجميع أنواع الزينة. ثم أثنى على ثوابهم بقوله: {نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَق}: وهذا الذي بينه هنا من صفات جزاء المحسنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ـ جاء مبيناً في مواضع كثيرة جداً من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى في سورة «الإنسان»: {إِنَّ ٱلاٌّبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَـٰفُور} ـ إلى قوله ـ {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُور} ، وكقوله في سورة «الواقعة»، {وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلسَّـٰبِقُونَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَفِى جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ} ـ إلى قوله ـ {لاًّصْحَـٰبِ ٱلْيَمِينِ} وأمثال ذلك كثيرة في القرآن:
وقد بين في سورة «السجدة» أن ما أخفاه الله لهم من قرة أعين لا يعلمه إلا هو جل وعلا، وذلك في قوله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} .
وقوله في هذه الآية الكريمة. {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي إقامة لا رحيل بعدها ولا تحول. كما قال تعالى: {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَل} أصله من عدن بالمكان: إذا أقام به. وقد تقدم في سورة «النحل» معنى السندس والاستبرق بما أغنى عن إعادته هنا، والأساور: جمع سوار. وقال بعضهم: جمع أسورة. والثواب: الجزاء مطلقاً على التحقيق. ومنه قول الشاعر:
لكل أخي مدح ثواب علمته وليس لمدح الباهلي ثواب
وقول من قال: إن الثواب في اللغة يختص بجزاء الخير بالخير ـ غير صواب: بل يطلق الثواب أيضاً على جزاء الشر بالشر. ومنه قوله تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} ، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} .
وقوله: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَق} الضمير في قوله «حسنت» راجع إلى «جنات عدن». والمرتفق قد قدمنا أقوال العلماء فيه. وقوله هنا في الجنة «وحسنت مرتفقاً» يبين معناه قوله تعالى: {أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَـٰماً خَـٰلِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَام} . قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَد}وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَب}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن هذا الرجل الكافر الظالم لنفسه، الذي ضربه مثلاً مع الرجل المؤمن في هذه الآيات لرؤساء الكفار، الذين افتخروا بالمال والجاه على ضعفاء المسلمين الفقراء كما تقدم ـ أنه دخل جنته في حال كونه ظالماً لنفسه وقال: إنه ما يظن أن تهلك جنته ولا تفنى: لما رأى من حسنها ونضارتها؟ وقال: إنه لا يظن الساعة قائمة، وإنه إن قدر أنه يبعث ويرد إلى ربه ليجدن عنده خيراً من الجنة التي أعطاه في الدنيا.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة: من جهل الكفار واغترارهم بمتاع الحياة الدنيا، وظنهم أن الآخرة كالدنيا ينعم عليهم فيها أيضاً بالمال والولد، كما أنعم عليهم في الدنيا ـ جاء مبيناً في آيات أخر، كقوله في «فصلت»: {}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن هذا الرجل الكافر الظالم لنفسه، الذي ضربه مثلاً مع الرجل المؤمن في هذه الآيات لرؤساء الكفار، الذين افتخروا بالمال والجاه على ضعفاء المسلمين الفقراء كما تقدم ـ أنه دخل جنته في حال كونه ظالماً لنفسه وقال: إنه ما يظن أن تهلك جنته ولا تفنى: لما رأى من حسنها ونضارتها؟ وقال: إنه لا يظن الساعة قائمة، وإنه إن قدر أنه يبعث ويرد إلى ربه ليجدن عنده خيراً من الجنة التي أعطاه في الدنيا.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة: من جهل الكفار واغترارهم بمتاع الحياة الدنيا، وظنهم أن الآخرة كالدنيا ينعم عليهم فيها أيضاً بالمال والولد، كما أنعم عليهم في الدنيا ـ جاء مبيناً في آيات أخر، كقوله في «فصلت»: {وَلَئِنْ أَذَقْنَـٰهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـٰذَا لِى وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَىٰ رَبِّىۤ إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ} ، وقوله في «مريم»: {أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِى كَفَرَ بِأايَـٰتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَد} وقوله في «سبأ»: {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَٰلاً وَأَوْلَـٰداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} . وقوله في هذه السورة الكريمة: {فَقَالَ لَصَـٰحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَر} .
وبين جل وعلا كذبهم واغترارهم فيما ادعوه: من أنهم يجدون نعمة الله في الآخرة كما أنعم عليهم بها في الدنيا في مواضع كثيرة، كقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ بَل} ، وقوله {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} ، وقوله {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاًّنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} ، وقوله: {وَمَآ أَمْوَٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ بِٱلَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ} ، وقوله تعالى: {مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: {مُنْقَلَب} أي مرجعاً وعاقبة. وانتصابه على التمييز. وقوله: {لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَ} قرأه ابن عامر ونافع وابن كثير «منهما» بصيغة تثنية الضمير. وقرأه الباقون «منها» بصيغة إفراد هاء الغائبة. فالضمير على قراءة تثنيته راجع إلى الجنتين في قوله {جَعَلْنَا لاًّحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} ، وقوله: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَـٰسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبً} . وعلى قراءة الإفراد راجع إلى الجنة في قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ}.
فإن قيل: ما وجه إفراد الجنة مع أنهما جنتان؟ فالجواب ـ أنه قال ما ذكره الله عنه حين دخل إحداهما، إذ لا يمكن دخوله فيهما معاً في وقت واحد. وما أجاب به الزمخشري عن هذا السؤال ظاهر السقوط، كما نبه عليه أبو حيان في البحر.
قوله تعالى: {قَالَ لَهُ صَـٰحِبُهُ وَهُوَ يُحَـٰوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاًلَّكِنَّ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدً}. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن ذلك الرجل المؤمن المضروب مثلاً للمؤمنين، الذين تكبر عليهم أولو المال والجاه من الكفار، قال لصاحبه الآخر الكافر المضروب مثلاً لذوي المال والجاه من الكفار، منكراً عليه كفره ـ أكفرت بالذي خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم سواك رجلاً، لأن خلقه إياه من تراب ثم من نطفة، ثم تسويته إياه رجلاً، كل ذلك يقتضي إيمانه بخالقه الذي أبرزه من العدم إلى الوجود، وجعله بشراً سوياً، ويجعله يستبعد منه كل البعد الكفر بخالقه الذي أبرزه من العدم إلى الوجود. وهذا المعنى المبين هنا بينه في مواضع أخر، كقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وقوله تعالى: {وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقوله تعالى: {قَالَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمُ ٱلاٌّقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِىۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَٱلَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِين ِوَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين ِوَٱلَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ} ، وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱلَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا كثيراً من الآيات الدالة على أن ضابط من يستحق العبادة وحده دون غيره ـ أن يكون هو الذي يخلق المخلوقات، ويظهرها من العدم إلى الوجوه بما أغنى عن إعادته هنا.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {بِٱلَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} معنى خلقه إياه من تراب: أي خلق آدم الذي هو أصله من التراب. كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} . ونظير الآية التي نحن بصددها قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ} .
وقوله: {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أي بعد أن خلق آدم من التراب، وخلق حواء من ضلعه، وجعلها زوجاً له ـ كانت طريق إيجاد الإنسان بالتناسل. فبعد طور التراب طور النطفة، ثم طور العلقة إلى آخر أطواره المذكورة في قوله: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَار} ، وقوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُلُمَـٰتٍ ثَلَـٰثٍ} وقد أوضحها تعالى إيضاحاً تاماً في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ مِن سُلَـٰلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَـٰهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَـٰماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَـٰمَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَـٰهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَـٰلِقِينَ} .
ومما يبين خلق الإنسان من تراب، ثم من نطفة، قوله تعالى في «السجدة»: {ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ٱلَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَـٰنِ مِن طِين ٍثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلاٌّبْصَـٰرَ وَٱلاٌّفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} . وقوله في هذه الآية: {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُل} كقوله {خَلَقَ ٱلإِنْسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} ، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} أي بعد أن كان نطفة سار إنساناً خصيماً شديد الخصومة في توحيد ربه. وقوله {سَوَّاكَ} أي خلقك مستوي الأجزاء، معتدل القامة والخلق، صحيح الأعضاء في أكمل صورة، وأحسن تقويم. كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن} ، وقوله: {وَصَوَّرَكُـمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـمْ} ، وقوله: {يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ ٱلَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِىۤ أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ} ، وقوله «رجلاً» أي ذكراً بالغاً مبلغ الرجال، وربما قالت العرب للمرأة: رجلة، ومنه قول الشاعر:
كل جار ظل مغتبطا غير جيران بني جبلة
مزقوا ثوب فتاتهم لم يراعوا حرمة الرجلة

وانتصاب «رجلاً» على الحال. وقيل مفعول ثان لسوى على تضمينه معنى جعلك أو صيرك رجلاً. وقيل: هو تمييز. وليس بظاهر عندي، والظاهر أن الإنكار المدلول عليه بهمزة الإنكار في قوله {أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} مضمن معنى الاستبعاد، لأنه يستبعد جداً كفر المخلوق بخالقه، الذي أبرزه من العدم إلى الوجود، ويستبعد إنكار البعث ممن علم الله أن الله خلقه من تراب، ثم من نطفة، ثم سواه رجلاً. كقوله: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ} . ونظير الآية في الدلالة على الاستعباد لوجود موجبه قول الشاعر: ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها

لأن من عاين غمرات الموت يستبعد منه اقتحامها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {لَّكِنَّ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدً} بين فيه أن هذا الرجل المؤمن قال لصاحبه الكافر: أنت كافرٰ لكن أنا لست بكافرٰ بل مخلص عبادتي لربي الذي خلقني. أي لأنه هو الذي يستحق في أن أعبده، لأن المخلوق محتاج مثلي إلى خالق يخلقه، تلزمه عبادة خالقه كما تلزمني. ونظير قول هذا المؤمن ما قدمنا عن الرجل المؤمن المذكور في «يس» في قوله تعالى: {وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِى فَطَرَنِى} أي أبدعني وخلقني وإليه ترجعون. وما قدمنا عن إبراهيم في قوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِىۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} ، وقوله: {إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱلَّذِى فَطَرَنِى} .
وقوله في هذه الآية الكريمة: {أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} بعد قوله: {وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً} يدل على أن الشك في البعث كفر بالله تعالى. وقد صرح بذلك في أول سورة «الرعد» في قوله تعالى: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ} .
وقوله في هذه الآية الكريمة: {لَكُنَّ} أصله «لكن أنا» فحذفت همزة «أنا» وأدغمت نون «لكن» في نون «أنا» بعد حذف الهمزة. وقال بعضهم: نقلت حركة الهمزة إلى نون «لكن» فسقطت الهمزة بنقل حركتها، ثم أدغمت النون في النونٰ ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر: وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكنا إياك لم أقل

أي لكن أنا إياك لم أقل. وقال بعضهم: لا يتعين في البيت ما ذكر. لجواز أن يكون المقصود لكنني فحذف اسم «لكن» كقول الآخر: فلو كنت ضبياً عرفت قرابتي ولكن زنجي عظيم المشافر

أي لكنك زنجي في رواية من روى زنجي بالرفع. وأنشد الكسائي لنحو هذا الحذف من «لكن أنا» قول الآخر: لهنك من عبسية لوسمية على منوات كاذب من يقولها

قال: أراد بقوله «لهنك» لله إنك. فحذف إحدى اللامين من «لله»، وحذف الهمزة من «إنك» نقله القرطبي عن أبي عبيد. وقوله تعالى: {لَّكِنَّ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّى}. قرأه جماهير القراء في الوصل «لكن» بغير ألف بعد النون المشددة. وقرأه ابن عامر من السبعة «لكنا» بالألف في الوصل. ويروى ذلك عن عاصم، ورواه المسيلي عن نافع، ورويس عن يعقوب. واتفق الجميع على إثبات الألف في الوقف. ومد نون «أنا» لغة تميم إن كان بعدها همزة. وقال أبو حيان في البحر: إن إثبات ألف «أنا» مطلقاً في الوصل لغة بني تميم، وغيرها ما يثبتونها على الاضطرار. قال: فجاءت قراءة «لكنا» بإثبات الألف في الوصل على لغة تميم. ومن شواهد مد «أنا» قبل غير الهمزة قو الشاعر: أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميداً قد تذريت السناما

وقول الأعشى: فكيف أنا وانتحال القوافي بعد المشيب كفى ذاك عارا

وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} جملة حالية. والمحاورة: المراجعة في الكلام: ومنه قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِىۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُم} ، وقول عنترة في معلقته: لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الجواب مكلمي

وكلام المفسرين في الرجلين المذكورين هنا في قصتهما كبيان أسمائها، ومن أي الناس هما ـ أعرضنا عنه لما ذكرنا سابقاً من عدم الفائدة فيه، وعدم الدليل المقنع عليه. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبً}.
معنى قوله: «غوراً» أي غائراً. فهو من الوصف بالمصدر. كما قال في الخلاصة: ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا

والغائر: ضد النابع. وقوله: {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبً} لأن الله إذا أعدم ماءها بعد وجوده، لا تجد من يقدر على أن يأتيك به غيره جل وعلا. وأشار إلى نحو هذا المعنى في قوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} ولا شك أن الجواب الصحيح: لا يقدر على أن يأتينا به إلا الله وحده. كما قال هنا: {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا}.