تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 295 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 295  {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَـٰهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَـٰنٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُواْ إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقًا * وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذٰلِكَ مِنْ ءَايَاتِ ٱللَّهِ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدً}
قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَـٰهُمْ هُدًى}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة لنبيه صلى الله عليه وسلم ـ أنه يقص عليه نبأ أصحاب الكهف بالحق. ثم أخبره مؤكداً له أنهم فتية آمنوا بربهم، وأن الله جل وعلا زادهم هدى.
ويفهم من هذه الآية الكريمة ـ أن من آمن بربه وأطاعه زاده ربه هدى. لأن الطاعة سبب للمزيد من الهدى والإيمان.
وهذا المفهوم من هذه الآية الكريمة جاء مبيناً في مواضع أخر. كقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَـٰهُمْ تَقُوَاهُمْ} ، وقوله: {وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَ} ، وقوله تعالى: {يِـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانً} ، وقوله: {فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ، وقوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِىۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَـٰناً مَّعَ إِيمَـٰنِهِمْ} ، وقوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وهذه الآيات المذكورة نصوص صريحة في أن الإيمان يزيد ـ مفهوم منها أنه ينقص أيضاً، كما استدل بها البخاري رحمه الله على ذلك. وهي تدل عليه دلالة صريحة لا شك فيها، فلا وجه معها للاختلاف في زيادة الإيمان ونقصه كما ترى. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُو}. أي ثبتنا قلوبهم وقويناها على الصبر، حتى لا يجزعوا ولا يخافوا من أن يصدعوا بالحق، ويصبروا على فراق الأهل والنعيم، والفرار بالدين في غار في جبل لا أنيس به، ولا ماء ولا طعام.
ويفهم من هذه الآية الكريمة: أن من كان في طاعة ربه جل وعلا أنه تعالى يقوي قلبه، ويثبته على تحمل الشدائد، والصبر الجميل.
وقد أشار تعالى إلى وقائع من هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله في أهل بدر مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه:
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَـٰنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلاٌّقْدَامَ إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلَـٰئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُو} ، وكقوله في أم موسى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} .
وأكثر المفسرين على أن قوله {إِذْ قَامُو} أي بين يدي ملك بلادهم، وهو ملك جبار يدعو إلى عبادة الأوثان، يزعمون أن اسمه: دقيانوس.
وقصتهم مذكورة في جميع كتب التفسير، أعرضنا عنها لأنها إسرائيليات. وفي قيامهم المذكور هنا أقوال أخر كثيرة. والعامل في قوله «إذ» هو «ربطنا»، على قلوبهم حين قاموا. قوله تعالى: {فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطً}. ذكر جل وعلا هذه الآية الكريمة: أن هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم ربهم هدى قالوا إن ربهم هو رب السموات والأرض، وأنهم لن يدعوا من دونه إلهاً، وأنهم لو فعلوا ذلك قالوا شططاً. أي قولاً ذا شطط. أو هو من النعت بالمصدر للمبالغة. كأن قولهم هو نفس الشطط. والشطط: البعد عن الحق والصواب. وإليه ترجع أقوال المفسرين، كقول بعضهم «شططا»: جواراً، تعدياً، كذباً، خطأ، إلى غير ذلك من الأقوال.
وأصل مادة الشطط: مجاوزة الحد، ومنه أشط في السوم: إذا جاوز الحد. ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تُشْطِطْ} . أو البعد، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: تشط غداً دار جيراننا وللدار بعد غد أبعد

ويكثر استعمال الشطط في الجور والتعدي، ومنه قول الأعشى: أتنتهون وان ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

وهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن من أشرك مع خالق السموات والأرض معبوداً آخر فقد جاء بأمر شطط بعيد عن الحق والصواب في غاية الجور والتعدي. لإن الذي يستحق العبادة هو الذي يبرز الخلائق من العدم إلى الوجود، لأن الذي لا يقدر على خلق غيره مخلوق يحتاج إلى خالق يخلقه ويرزقه. ويدبر شؤونه.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبيناً في آيات أخر كثيرة، كقوله: {يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاٌّرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وقوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، وقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّـٰرُ} أي الواحد القهار الذي هو خالق كل شيء هو المستحق للعبادة وحده جل وعلا. وقوله جل وعلا: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ، وقوله تعالى: {وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءْالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: {لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطً} أي إذا دعونا من دونه إلهاً ـ فقد قلنا شططا. قوله تعالى: {هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَـٰنٍ بَيِّنٍ}. «لولا» في هذه الآية الكريمة للتحضيض، وهو الطلب بحث وشدة. والمراد بهذا الطلب التعجيز، لأنه من المعلوم أنه لا يقدر أحد أن يأتى بسلطان بين على جواز عبادة غير الله تعالى. والمراد بالسلطان البين: الحجة الواضحة.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من تعجيزهم عن الإتيان بحجة على شركهم وكفرهم وإبطال حجة المشركين على شركهم ـ جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} ، وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلاٌّرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ ٱئْتُونِى بِكِتَـٰبٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ أَوْ أَثَـٰرَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ} ، وقوله تعالى منكراً عليهم: {أَمْ ءَاتَيْنَـٰهُمْ كِتَـٰباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} ، وقوله جل وعلا: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} ، وقوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلاٌّرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ أَمْ ءَاتَيْنَـٰهُمْ كِتَـٰباً فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ ٱلظَّـٰلِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُور} ، وقوله تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـهَا ءَاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَـٰفِرُونَ} ، والآيات الدالة على أن المشركين لا مستند لهم في شركهم إلا تقليد آبائهم الضالين كثيرة جداً وقوله في هذه الآية الكريمة «هؤلاء» مبتدأ، و«قوما» قيل عطف بيان، والخبر جملة «اتخذوا» وقيل «قومنا» خبر المبتدأ، وجملة «اتخذوا في محل حال. والأول أظهر، والله تعالى أعلم. قوله تعالى {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبً}. أي لا أحد ظلم ممن افترى على الله الكذب بادعاء أن له شريكاً كما افتراه عليه قوم أصحاب الكهف، كما قال عنهم أصحاب الكهف {هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً} .
وهذا المعنى الذي ذكره هنا من أن افتراء الكذب على الله يجعل الشركاء له هو أعظم الظلم جاء مبيناً في آيات كثيرة، كقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ} ، وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ ٱلاٌّشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً. قوله تعالى:
{وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُواْ إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقً}. «إذ» في قوله {وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ} للتعليل على التحقيق، كما قاله ابن هشام وعليه فالمعنى: ولأجل اعتزالكم قومكم الكفار وما يعبدونه من دون الله، فاتخذوا الكهف مأوى ومكان اعتصام، ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً، وهذا يدل على أن اعتزال المؤمن قومه الكفار ومعبوديهم من أسباب لطف الله به ورحمته.
وهذا المعنى يدل عليه أيضاً قوله تعالى في نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّى عَسَىۤ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّى شَقِيًّا فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّ} . واعتزالهم إياهم هو مجانبتهم لهم، وفرارهم منهم يدينهم.
وقوله: {وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ} اسم موصول في محل نصب معطوف على الضمير المنصوب في قوله: {ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ} أي واعتزلتم معبوديهم من دون الله. وقيل: «ما» مصدرية، أي اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم غير الله تعالى. والأول أظهر.
وقوله: {إِلاَّ ٱللَّهُ} قيل: هو استثناء متصل، بناء على أنهم كانوا يعبدون الله والأصنام. وقيل: هو استثناء منقطع. بناء على القول بأنهم كانوا لا يعبدون إلا الأصنام، ولا يعرفون الله ولا يعبدونه.
وقوله: {مّرْفَقً} أي ما ترتفقون به أي تنتفعون به. وقرأه نافع وابن عامر بفتح الميم وكسر الفاء مع تفخيم الراء. وقرأه باقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء وترقيق الراء، وهما قراءتان ولغتان فيما يرتفق به، وفي عضو الإنسان المعروف. وأنكر الكسائي في «المرفق» بمعنى عضو الإنسان ـ فتح الميم وكسر الفاء، وقال: هو بكسر الميم وفتح الفاء، ولا يجوز غير ذلك.
وزعم ابن الأنباري أن «من» في قوله: {وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ} بمعنى البدلية، أي يهيىء لكم بدلاً من «أمركم» الصعب مرفقاً: وعلى هذا الذي زعم غاية كقوله تعالى: {أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلاٌّخِرَةِ} أي بدلاً منها وعوضاً عنها. ومن هذا المعنى قول الشاعر: فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان

أي بدلاً من ماء زمزم، والله تعالى أعلم.
ومعنى {يَنْشُرْ لَكُمْ}: يبسط لكم: كقوله: {وَهُوَ ٱلَّذِى يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} : وقوله {وَيُهَيِّىءْ} أي أييسر ويقرب ويسهل. قوله تعالى: {وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذٰلِكَ مِنْ ءَايَاتِ ٱللَّهِ}. اعلم أولاً أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها ـ أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول.
وذكرنا من ذلك أمثلة متعددة.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في هذه الآية على قولين وفي نفس الآية قرينة تدل على صحة أحدهما وعدم صحة الآخر.
أما القول الذي تدل القرينة في الآية على خلافه ـ فهو أن أصحاب الكهف كانوا في زاوية من الكهف، وبينهم وبين الشمس حواجز طبيعية من نفس الكهف، تقيهم حر الشمس عند طلوعها وغروبها. على ما سنذكر تفصيله إن شاء الله تعالى.
وأما القول الذي تدل القرينة في هذه الآية على صحته ـ فهو أن أصحاب الكهف كانوا في فجوة من الكهف على سمت تصيبه الشمس وتقابله. إلا أن الله منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم على وجه خرق العادة. كرامة لهؤلاء القوم الصالحين، الذين فروا بدينهم طاعة لربهم جل وعلا.
والقرينة الدالة على ذلك هي قوله تعالى: {ذٰلِكَ مِنْ ءَايَاتِ ٱللَّهِ} إذ لو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول لكان ذلك أمراً معتاداً مألوفاً، وليس فيه غرابة حتى يقال فيه {ذٰلِكَ مِنْ ءَايَاتِ ٱللَّهِ} وعلى هذا الوجه الذي ذكرناه أنه تشهد له القرينة المذكورة. فمعنى تزوار الشمس عن كهفهم ذات اليمين عند طلوعها، وفرضها إياهم ذات الشمال عند غروبها ـ هو أن الله يقلص ضوئها عنهم، وببعده إلى جهة اليمين عند الطلوع، وإلى جهة الشمال عند الغروب. والله جل وعلا قادر على كل شيء، يفعل ما يشاء. فإذا علمت هذا ـ فاعلم أن أصحاب القول الأول اختلفوا في كيفية وضع الكهف. وجزم ابن كثير في تفسير بأن الآية تدل على أن باب الكهف كان من نحو الشمال، قال: لأنه تعالى أخبر بأن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزوار عنه ذات اليمين، أي يتقلص الفيء يمنة. كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: تزاور أي تميل، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في ذلك المكان. ولهذا قال تعالى {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ} أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية الشرق، فدل على صحة ما قلناه وهذا بين لمن تأمله، وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب.
وبيانه ـ أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب. ولو كان من ناحية القبلة لما دخل إليه منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب. ولا تزوار الفيء يميناً وشمالاً. ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب، فتعين ما ذكرناه، ولله الحمد. انتهى كلام ابن كثير.
وقال الفخر الرازي في تفسيره: أصحاب هذا القول قالوا إن باب الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال، فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف، وإذا غربت كانت على شماله، فضوء الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف، وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل إليه. انتهى كلام الرازي. وقال أبو حيان في تفسير هذه الآية: وهذه الصفة مع الشمس تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاوية. وقال عبد الله بن مسلم: كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش، وعلى هذا كان أعلى الكهف مستوراً من المطر.
قال ابن عطية: كان كهفهم مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس عند الطلوع ولا عند الغروب، اختار الله لهم مضجعاً متسعاً في مقنأة لا تدخل عليهم الشمس فتؤذيهم. انتهى الغرض من كلام أبو حيان. والمقنأة: المكان الذي لا تطلع عليه الشمس، وإلى غير ذلك من أقوال العلماء.
والقول الأول أنسب للقرينة القرآنية التي ذكرنا.
وممن اعتمد القول الأول لأجل القرينة المذكورة ـ الزجاج، ومال إليه بعض الميل الفخر الرازي والشوكاني في تفسيريهما، لتوجيههما قول الزجاج المذكور بقرينة الآية المذكورة.
وقال الشوكاني رحمه الله في تفسيره: ويؤيد القول الأول قوله تعالى: {ذٰلِكَ مِنْ ءَايَاتِ ٱللَّهِ} فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة أنسب، بمعنى كونها آية. ويؤيده أيضاً إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا. ومما يدل على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر: ألبست قومك مخزاة ومنقصة حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار

انتهى كلام الشوكاني.
ومعلوم أن الفجوة: هي المتسع. وهو معروف في كلام العرب ومنه البيت المذكور، وقول الآخر: ونحن ملأنا كل واد وفجوة رجالاً وخيلاً غير ميل ولا عزل

ومنه الحديث: «فإذا وجد فجوة نص».
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت} أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل على كهفهم. والمعنى: أنك لو رأيتهم لرأيتهم كذلك. لا أن المخاطب رآهم بالفعل، كما يدل لهذا المعنى قوله تعالى: {لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارً} والخطاب بمثل هذا مشهور في لغة العرب التي نزل بها هذا القرآن العظيم. وأصل مادة التزاور: الميل، فمعنى تزاور: تميل. والزور: الميل، ومنه شهادة الزور، لأنها ميل عن الحق. ومنه الزيادة، لأن الزائر يميل إلى المزور. ومن هذا المعنى قول عنترة في معلقته:
فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم
وقول عمر بن أبي ربيعة: وخفض عني الصوت أقبلت مشية الـ حباب وشخصي خشية الحي أزور

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {ذَاتَ ٱلْيَمِينِ} أي جهة اليمين، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين. وقال أبو حيان في البحر: وذات اليمين: جهة يمين الكهف، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين، يعني يمين الداخل إلى الكهف، أو يمين الفتية ا هـ وهو منصوب على الظرف. وقوله تعالى: {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ}. من القرض بمعنى القطيعة والصرم. أي تقطعهم وتتجافى عنهم ولا تقربهم. وهذا المعنى معروف من كلام العرب. ومنه قول غيلان ذي الرمة: نظرت بجرعاء السبية نظره ضحى وسواد العين في الماء شامس
إلى ظعن يقرضن أفواز مشرف شمالاً وعن أيمانهن الفوارس

فقوله: «يقرضن أفواز مشرف» أي يقطعنها ويبعدنها ناحية الشمال وعن أيمانهن الفوارس، وهو موضع أو رمال الدهناء. والأقواز: جمع قوز ـ بالفتح ـ وهو العالي من الرمل كأنه جبل. ويروى أجواز مشرف ـ جمع جوز. من المجاز بمعنى الطريق. وهذا الذي ذكرنا هو الصواب في معنى قوله تعالى {تَّقْرِضُهُمْ} خلافاً لمن زعم أن معنى تقرضهم: تقطعهم من ضوئها شيئاً ثم يزول سريعاً كالقرض يسترد. ومراد قائل هذا القول ـ أن الشمس تميل عنهم بالغداة، وتصيبهم بالعشي إصابة خفيفة، بقدر ما يطيب لهم هواء المكان ولا يتعفن. قال أبو حيان في البحر: ولو كان من القرض الذي يعطى ثم يسترد لكان الفعل رباعياً، فتكون التاء في قوله: «تقرضهم» مضمومة، لكن دل فتح التاء من قوله «تقرضهم» على أنه من القرض بمعنى القطع، أي تقطع لهم من ضوئها شيئاً، وقد علمت أن الصواب القول الأول. وقد قدمنا أن الفجوة: المتسع.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ} فيه ثلاث قراءات سبعيات:
قرأه ابن عامر الشامي «تزور» بإسكان الزاي وإسقاط الألف وتشديد الراء. على وزن تحمر، وهو على هذه القراءة من الأزورار بمعنى الميل. كقول عنترة المتقدم: * فازور من وقع القنا *. البيت
وقرأه الكوفيون وهم عاصم وحمزة والكسائي بالزاي المخففة بعدها ألف. وعلى هذه القراءة فأصله «تتزاور» فحذفت منه إحدى التاءين. على حد قوله في الخلاصة: وما بتاءين ابتدى قد يقتصر فيه على تاكتبين العبر

وقرأه نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري «تزاور» بتشديد الزاي بعدها ألف، وأصله «تتزاور» أدغمت فيه التاء في الزاي. وعلى هاتين القراءتين: أعني قراءة حذف إحدى التاءين، وقراءة إدغامها في الزاي فهو من التزاور بمعنى الميل أيضاً. وقد يأتي التفاعل بمعنى مجرد الفعل كما هنا، وكقولهم: سافر وعاقب وعافى.
وعلى قول من قال: إن في الكهف حواجز طبيعية تمنع من دخول الشمس بحسب وضع الكهف فالإشارة في قوله: {ذٰلِكَ مِنْ ءَايَاتِ ٱللَّهِ} راجعة إلى ما ذكر من حديثهم. أي ذلك المذكور إلى هدايتهم إلى التوحيد وإخراجهم من بين عبدة الأوثان، وإيوائهم إلى ذلك الكهف، وحمايتهم من عدوهم إلى آخر حديثهم ـ من آيات الله. وأصل الآية عند المحققين «أيية» بثلاث فتحات، أبدلت فيه الياء الأولى ألفاً. والغالب في مثل ذلك أنه إذا اجتمع موجباً إعلال كان الإعلال في الأخير. لأن التغير عادة أكثر في الأواخر، كما في طوى ونوى، ونحو ذلك. وهنا أعل الأول على خلاف الأغلب، كما أشار له في الخلاصة بقوله: وإن لحرفين ذا الإعلال استحق صحح أول وعكس قد يحق

والآية تطلق في اللغة العربية إطلاقين. وتطلق في القرآن العظيم إطلاقين أيضاً. أما إطلاقاها في اللغة الأول منهما ـ أنها تطلق بمعنى العلامة، وهو الإطلاق المشهور، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ} ، وقول عمر بن أبي ربيعة: بآية ما قالت غداة لقيتها بمدفع أكنان أهذا المشهر

يعني أن قولها ذلك هو العلامة بينها وبين رسوله إليها المذكور في قوله قبله: ألكني إليها بالسلام فإنه يشهر إلمامي بها وينكر

وقد جاء في شعر نابغة ذبيان وهو جاهلي تفسير الآية بالعلامة في قوله: توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع

ثم بين أن مراده بالآيات علامات الدار بقوله بعده: رماد ككحل العين لأياً أبينه ونؤدي كجذم الحوض أثلم خاشع

وأما الثاني منهما ـ فهو إطلاق الآية بمعنى الجماعة، يقولون: جاء القوم بآيتهم، أي بجماعتهم. ومنه قول برج بن مسهر أو غيره: خرجنا من النقبين لاحى مثلنا بآياتنا لزجي اللقاح المطافلا

فقوله «بآياتنا» أي بجماعتنا.
وإما إطلاقاها في القرآن فالأول منهما ـ إطلاقها على الآية الكونية القدرية، كقوله تعالى: {إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لاّيَـٰتٍ لاٌّوْلِى ٱلاٌّلْبَـٰبِ} أي علامات كونية قدرية، يعرف بها أصحاب العقول السليمة أن خالقها هو الرب المعبود وحده جل وعلا. والآية الكونية القدرية في القرآن من الآية بمعنى العلامة لغة.
وأما إطلاقها الثاني في القرآن فهو إطلاقها على الآية الشرعية الدينية، كقوله: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ} ونحوها من الآيات.
والآية الشرعية الدينية قيل: هي من الآية بمعنى العلامة لغة، لأنها علامات على صدق من جاء بها. أو أن فيها علامات على ابتدائها وانتهائها.
وقيل: من الآية. بمعنى الجماعة، لاشتمال الآية الشرعية الدينية على طائفة وجماعة من كلمات القرآن. قوله تعالى: {مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدً}. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الهدى والإضلال بيده وحده جل وعلا، فمن هداه فلا مضل له، ومن أضله فلا هادي له.
وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة جداً، كقوله تعالى: {وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّ} ، وقوله: {مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ} ، وقوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ} ، وقوله: {وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئ} ، وقوله: {إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّـٰصِرِينَ} ، وقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَآءِ} والآيات بمثل هذا كثيرة جداً.
ويؤخذ من هذه الآيات وأمثالها في القرآن ـ بطلان مذهب القدرية: أن العبد مستقل بعمله من خير أو شر، وأن ذلك ليس بمشيئة الله بل بمشيئة العبد. سبحانه جل وعلا عن أن يقع في ملكه شيء بدون مشيئتهٰ وتعالى عن ذلك علواً كبيراً! وسيأتي بسط هذا المبحث إن شاء الله تعالى.
وقد أوضحنا أيضاً في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة «الشمس» في الكلام على قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَ} وقوله {فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدً} أي لن يكون بينه وبينه سبب للموالاة يرشده إلى الصواب والهدى، أي لن يكون ذلك ـ لأن من أضله الله فلا هادي له. وقوله: {فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ} قرأه بإثبات الياء في الوصل دون الوقف نافع وأبو عمرو. وبقية السبعة قرؤوه بحذف الياء في الحالين.
{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَـٰسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَـٰهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذًا أَبَدً}
قوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ}. الحسبان بمعنى الظن. والأيقاظ: جمع يقظ ـ بكسر القاف وضمها ـ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: فلما رأت من قد تنبه منهم وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر

والرقود: جمع راقد وهو النائم، أي تظنهم أيها المخاطب لو رأيتهم أيقاظاً والحال أنهم رقود. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى في نظيره: {لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارً} . وقال بعض العلماء: سبب ظن الرائي أنهم أيقاظ هو أنهم نيام وعيونهم مفتحة. وقيل: لكثرة تقلبهم. وهذا القول يشير له قوله تعالى بعده: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ} . وكلام المفسرين هنا في عدد تقلبهم من كثرة وقلة لا دليل عليه. ولذا أعرضنا عن ذكر الأقوال فيه.
وقوله في هذه الآية: {وَتَحْسَبُهُمْ} قرأه بفتح السين على القياس ابن عامر وعاصم وحمزة. وقرأه بكسر السين نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي، وهما قراءتان سبعيتان، ولغتان مشهورتان، والفتح أقيس والكسر أفصح. قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَـٰسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ}. اختلفت عبارات المفسرين في المراد بـ «الوصيد» فقيل: هو فناء البيت. ويروى عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقيل الوصيد: الباب، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. وقيل: الوصيد العتبة. وقيل الصعيد. والذي يشهد له القرآن أن الوصيد هو الباب. ويقال له «أصيد» أيضاً. لأن الله يقول: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} أي مغلقة مطبقة. وذلك بإغلاق كل وصيد أو أصيد، وهو الباب من أبوابها. ونظير الآية من كلام العرب قول الشاعر: تحن إلى أجبال مكة ناقتي ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة

وقول ابن قيس الرقيات:
إن في القصر لو دخلنا غزالا مصفقاً مؤصداً عليه الحجاب

فالمراد بالإيصاد في جميع ذلك : الإطباق والإغلاق. لأن العادة فيه أن يكون بالوصيد وهو الباب. ويقال فيه أصيد. وعلى اللغتين القراءتان في قوله: «مؤصدة» مهموزاً من الأصيد.. وغير مهموز من الوصيد.
ومن إطلاق العرب الوصيد على الباب قول عبيد بن وهب العبسي، وقيل زهير: بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر

أي لا يسد بابها علي، يعني ليست فيها أبواب حتى تسد علي. كقول الآخر: * ولا ترى الضب بها ينجحر *
فإن قيل: كيف يكون الوصيد هو الباب في الآية، والكهف غار في جبل لا باب له؟
فالجواب: أن الباب يطلق على المدخل الذي يدخل للشيء منه. فلا مانع من تسمية المدخل إلى الكهف باباً. ومن قال: الوصيد الفناء لا يخالف ما ذكرنا. لأن فناء الكهف هو بابه. وقد قدمنا مراراً أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك: أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً وتكون في الآية قرينة تدل على خلافه.
وقد قال بعض أهل العلم في هذه الآية الكريمة: إن المراد بالكلب في هذه الآية ـ رجل منهم لا كلب حقيقي. واستدلوا لذلك ببعض القراءات الشاذة، كقراءة «وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد» وقراءة «وكالئهم باسط ذراعيه».
وقوله جل وعلا: {بَـٰسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} قرينة على بطلان ذلك القول. لأن بسط الذراعين معروف من صفات الكلب الحقيقي، ومنه حديث أنس المتفق عليه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» وهذا المعنى مشهور في كلام العرب، فهو قرينة على أنه كلب حقيقي. وقراءة «وكالئهم» بالهمزة لا تنافي كونه كلباً، لأن الكلب يحفظ أهله ويحرسهم. والكلاءة: الحفظ.
فإن قيل: ما وجه عمل اسم الفاعل الذي هو «باسط» في مفعوله الذي هو «ذراعيه» والمقرر في النحو أن اسم الفاعل إذا لم يكن صلة «ال» لا يعمل إلا إذا كان واقعاً في الحال أو المستقبل؟
فالجواب ـ أن الآية هنا حكاية حال ماضية، ونظير ذلك من القرآن قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً} ، وقوله تعالى: {وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} .
واعلم أن ذكره جل وعلا في كتابه هذا الكلب، وكونه باسطاً ذراعيه بوصيد كهفهم في معرض التنويه بشأنهم ـ يدل على أن صحبة الأخيار عظيمة الفائدة. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: وشملت كلبهم بركتهم، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذا فائدة صحبة الأخيار، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن ا هـ.
ويدل لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال إني أحب الله ورسوله: «أنت مع من أحببت» متفق عليه من حديث أنس.
ويفهم من ذلك أن صحبة الأشرار فيها ضرر عظيم. كما بينه الله تعالى في سورة «الصافات» في قوله: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ} إلى قوله ـ {قَالَ تَٱللَّهِ إِن كِدتَّوَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّى لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ} .
وما يذكره المفسرون من الأقوال في اسم كلبهم، فيقول بعضهم: اسمه قطمير. ويقول بعضهم: اسمه حمران، إلى غير ذلك ـ لم نطل به الكلام لعدم فائدته.
ففي القرآن العظيم أشياء كثيرة لم يبينها الله لنا ولا رسوله، ولم يثبت في بيانها شيء، والبحث عنها لا طائل تحته ولا فائدة فيه.
وكثير من المفسرين يطنبون في ذكر الأقوال فيها بدون علم ولا جدوى، ونحن نعرض عن مثل ذلك دائماً. كلون كلب أصحاب الكهف، واسمه، وكالبعض الذي ضرب به القتيل من بقرة بني إسرائيل، وكاسم الغلام الذي قتله الخضر، وأنكر عليه موسى قتله، وكخشب سفينة نوح من أي شجر هو، وكم طول السفينة وعرضها، وكم فيها من الطبقات، إلى غير ذلك مما لا فائدة في البحث عنه، ولا دليل على التحقيق فيه.
وقد قدمنا في سورة «الأنعام» في الكلام على قوله تعالى: {قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمً} ـ حكم أكل لحم الكلب وبيعه، وأخذ قيمته إن قتل، وما يجوز افتناؤه منها وما يجوز. وأوضحنا الأدلة في ذلك وأقوال العلماء فيه. قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَـٰهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه بعث أصحاب الكهف من نومتهم الطويلة ليتساءلوا بينهم، أي ليسأل بعضهم بعضاً عن مدة لبثهم في الكهف في تلك النومة، وأن بعضهم قال إنهم لبثوا يوماً أو بعض يوم، وبعضهم رد علم ذلك إلى الله جل وعلا.
ولم يبين هنا قدر المدة التي تساءلوا عنها في نفس الأمر، ولكنه بين في موضع آخر أنها ثلاثمائة سنة بحساب السنة الشمسية، وثلاثمائة سنة وتسع سنين بحساب السنة القمرية، وذلك في قوله تعالى: {وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعً} كما تقدم. قوله تعالى: {فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ}. في قوله هذه الآية «ازكى» قولان للعلماء.
أحدهما ـ أن المراد بكونه «أزكى» أطيب لكونه حلالاً ليس مما فيه حرام ولا شبهة.
والثاني ـ أن المراد بكونه أزكى أنه أكثر، كقولهم: زكا الزرع إذا كثر، وكقول الشاعر: قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة وللسبع أزكى من ثلاث وأطيب
أي أكثر من ثلاثة.
والقول الأول هو الذي يدل له القرآن، لأن أكل الحلال والعمل الصالح أمر الله المؤمنين كما أمر المرسلين قال: {يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَـٰتِ وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِح} ، وقال: {يـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . ويكثر في القرآن إطلاق مادة الزكاة على الطهارة كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ} ، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـٰهَ} ، وقوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَد} ، وقوله: {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـوٰةً وَأَقْرَبَ رُحْم} وقوله: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
فالزكاة في هذه الآيات ونحوها: يراد الطهارة من أدناس الذنوب والمعاصي، فاللائق بحال هؤلاء الفتية الأخيار المتقين أن يكون مطلبهم في مأكلهم ـ الحلبة والطهارة، لا الكثرة. وقد قال بعض العلماء: إن عهدهم بالمدينة فيها مؤمنون يخفون إيمانهم، وكافرون. وأنهم يريدون الشراء من طعام المؤمنين دون الكافرين. وأن ذلك هو مرادهم بالزكاة في قوله {أَزْكَىٰ طَعَامً} وقيل: كان فيها أهل كتاب ومجوس. والعلم عند الله تعالى.
والورق في قوله تعالى: {فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} الفضة، وأخذ علماء المالكية وغيرهم من هذه الآية الكريمة مسائل من مسائل الفقة:
المسألة الأولى ـ جواز الوكالة وصحتها، لأن قولهم {فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} الآية يدل على توكيلهم لهذا المبعوث لشراء الطعام. وقال بعض العلماء: لا تدل الآية على جواز التوكيل مطلقاً بل مع التقية والخوف، لأنهم لو خرجوا كلهم لشراء حاجتهم لعلم بهم أعداؤهم في ظنهم فهم معذورون، فالآية تدل على توكيل المعذور دون غيره. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. وهو قول سحنون من أصحاب مالك في التوكيل على الخصام.
قال ابن العربي: وكان سحنون تلقه من أسد بن الفرات، فحكم به أيام قضائه. ولعله كان يفعل ذلك لأهل الظلم والجبروت إنصافاً منهم وإذلالاً لهم. وهو الحق، فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل ا هـ.
وقال القرطبي: كلام ابن العربي هذا حسن. فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحاء. والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ـ ما أخرجه الصحيحان وغيرهما عن أبي هريرة قال: كان لرجل على النَّبي صلى الله عليه وسلم من الإبل، فجاء يتقاضاه فقال: «أعطوه» فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سناً فوقها. فقال «أعطوه» فقال: أوفيتني أوفي الله لك. وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إن خيركم أحسنكم قضاء» لفظ البخاري.
فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن، فإن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي عليه وذلك توكيل منه لهم على ذلك، ولم يكن النَّبي صلى الله عليه وسلم مريضاً ولا مسافراً. وهذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما: إنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح إلا برضا خصمه» وهذا الحديث خلاف قولهما ا هـ كلام القرطبي. ولا يخفى ما فيه، لأن أبا حنيفة وسحنوناً إنما خالفا في الوكالة على المخاصمة بغير إذن لخصم فقط، ولم يخالفا في الوكالة في دفع الحق.
وبهذه المناسبة سنذكر إن شاء الله الأدلة من الكتاب والسنة على صحة الوكالة وجوازها، وبعض المسائل المحتاج إليها من ذلك، تنبيهاً بها على غيرها.
اعلم أولاً ـ أن الكتاب والسنة والإجماع كلها دل على جواز الوكالة وصحتها في الجملة. فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى هنا: {فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} هذه الآية، وقوله تعالى: {وَٱلْعَـٰمِلِينَ عَلَيْهَ} ، فإن عملهم عليها توكيل لهم على أخذها.
واستدل لذلك بعض العلماء أيضاً بقوله: {ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِى} . فإنه توكيل لهم من يوسف على إلقائهم قميصه على وجه أبيه ليرتد بصيراً.
واستدل بعضهم لذلك أيضاً بقوله تعالى عن يوسف: {قَالَ ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلاٌّرْضِ} ، فإنَّه توكيل على ما في خزائن الأرض.
وأما السنة فقد دلت أحاديث كثيرة على جواز الوكالة وصحتها. من ذلك حديث أبي هريرة للتقدم في كلام القرطبي، الدال على التوكيل في قضاء الدين، وهو حديث متفق عليه. وأخرج الجماعة إلا البخاري من حديث أبي رافع عن النَّبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
ومنها حديث عروة بن أبي الجعد البارقي: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به له شاة، فاشترى له شاتين: فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فدعا بالبركة في بيعه. وكان لو اشترى التراب لربح فيه، رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني وفيه التوكيل على الشراء.
ومنها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أردت الخروج إلى خيبر؟ فقال: «إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته» أخرجه أبو داود والدارقطني. وفيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن له وكيلاً.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
«واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» وهو صريح في التوكيل في إقامة الحدود.
ومنها حديث علي رضي الله عنه قال: «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها، وألا أعطي الجازر منها شيئاً ـ وقال: نحن نعطيه من عندنا» متفق عليه. وفيه التوكيل على القيام على البدن والتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها. وعدم إعطاء الجازر شيئاً منها.
ومنها حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه ـ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنماً يقسمها على أصحابه فبقي عتود، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال «ضح أنت به» متفق عليه أيضاً. وفيه الوكالة في تقسيم الضحايا، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة. وقد أخرج الشيخان في صحيحهما طرفاً كافياً منها ذكرنا بعضه هنا.
وقد قال ابن حجر في فتح الباري في كتاب الوكالة ما نصه: اشتمل كتاب الوكالة ـ يعني من صحيح البخاري ـ على ستة وعشرين حديثاً، المعلق منها ستة، والبقية موصولة. المكرر منها فيه وفيما مضى اثنا عشر حديثاً، والبقية خالصة وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عبد الرحمن بن عوف في قتل أمية بن خلف، وحديث كعب بن مالك في الشاة المذبوحة، وحديث وفد هوازن من طريقيه، وحديث أبي هريرة في حفظ زكاة رمضان، وحديث عقبة بن الحارث في قصة النعيمان، وفيه من الآثار عن الصحابة وغيرهم ستة آثار، والله أعلم. انتهى من فتح الباري. وكل تلك الأحاديث دالة على جواز الوكالة وصحتها.
وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على جواز الوكالة وصحتها في الجملة وقال ابن قدامة في المغني: وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك. فإن لا يمكن كل أحد فعل ما يحتاج إليه فدعت الحاجة إليها، انتهى منه. وهذا مما لا نزاع فيه.
فروع تتعلق بمسألة الوكالة
الفرع الأول ـ لا يجوز التوكيل إلا في شيء تصح النيابة فيه. فلا تصح في فعل محرم، لأن التوكيل من التعاون، والله يقول: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ} .
ولا تصح في عبادة محضة كالصلاة والصوم ونحوهما، لأن ذلك مطلوب من كل أحد بعينه، فلا ينوب فيه أحد من أحد، لأن الله يقول: {وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} . أما الحج عن الميت والمعضوب، والصوم عن الميت ـ فقد دلت أدلة أخر على النيابة في ذلك. وإن خالف كثير من العلماء في الصوم عن الميت، لأن العبرة بالدليل الصحيح من الوحي، لا بآراء العلماء إلا عند عدم النص من الوحي.
الفرع الثاني ـ ويجوز التوكيل في المطالبة بالحقوق وإثباتها والمحاكمة فيها. سواء كان الموكل حاضراً أو غائباً، صحيحاً أو مريضاً. وهذا قول جمهور العلماء، منهم مالك والشافعي وأحمد وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وغيرهم. وقال أبو حنيفة: للخصم أن يمتنع من محاكمة الوكيل إذا كان الموكل حاضراً غير معذور، لأن حضوره مجلس الحكم ومخاصمته حق لخصمه عليه فلم يكن له نقله إلى غيره بغير رضا خصمه. وقد قدمنا في كلام القرطبي: أن هذا قول سحنون أيضاً من أصحاب مالك. واحتج الجمهور بظواهر النصوص لأن الخصومة أمر لا مانع من الاستنابة فيه.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي ـ والله تعالى أعلم ـ في مسألة التوكيل على الخصام والمحاكمة: أن الصواب فيها التفصيل.
فإن كان الموكل ممن عرف بالظلم والجبروت والادعاء بالباطل ـ فلا يقبل منه التوكيل لظاهر قوله تعالى: {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيم} . وإن كان معروفاً بغير ذلك فلا مانع من توكيله على الخصومة.
والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث ـ ويجوز التوكيل بجعل وبدون جعل، والدليل على التوكيل بغير جعل أنه صلى الله عليه وسلم وكل أنيساً في إقامة الحد على المرأة، وعروة البارقي في شراء الشاة من غير جعل. ومثال ذلك كثير في الأحاديث التي ذكرنا غيرها.
والدليل على التوكيل بجعل قوله تعالى: {وَٱلْعَـٰمِلِينَ عَلَيْهَ} فإنه توكيل على جباية الزكاة وتفريقها بجعل منها كما ترى.
الفرع الرابع ـ إذا عزل الموكل وكيله في غيبته وتصرف الوكيل بعد العزل وقبل العلم به، أو مات موكله وتصرف بعد موته وقبل العلم به، فهل يمضي تصرفه نظراً لاعتقاده، أو لا يمضي نظراً للواقع في نفس الأمر. في ذلك خلاف معروف بين أهل العلم مبني على قاعدة أصولية، وهي:
هل يستقل الحكم بمطلق وروده وإن لم يبلغ المكلف. أو لا يكون ذلك إلا بعد بلوغه للمكلف، ويبنى على الخلاف في هذه القاعدة الاختلاف في خمس وأربعين صلاة التي نسخت من الخمسين بعد فرضها ليلة الإسراء، هل يسمى ذلك نسخاً في حق الأمة لوروده، أو لا يسمى نسخاً في حقهم. لأنه وقع قبل بلوغ التكليف بالمنسوخ لهم. وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله:
هل يستقل الحكم بالورود أو ببلوغه إلى الموجود
فالعزل بالموت أو العزل عرض كذا قضاء جاهل للمفترض
ومسائل الوكالة معروفة مفصلة في كتب فروع المذاهب الأربعة، ومقصودنا ذكر أدلة ثبوتها بالكتاب والسنة والإجماع، وذكر أمثلة من فروعها تنبيهاً بها على غيرها. لأنها باب كبير من أبواب الفقه.
المسألة الثانية ـ أخذ بعض علماء المالكية من هذه الآية الكريمة جواز الشركة، لأنهم كانوا مشتركين في الورق التي أرسلوها ليشتري لهم طعام بها.
وقال ابن العربي المالكي: لا دليل في هذه الآية على الشركة، لاحتمال أن يكون كل واحد منهم أرسل معه نصيبه منفرداً ليشتري له به طعامه منفرداً. وهذا الذي ذكره ابن العربي متجه كما ترى. وقد دلت أدلة أخرى على جواز الشركة. وسنذكر إن شاء الله بهذه المناسبة أدلة ذلك، وبعض مسائله المحتاج إليها، وأقوال العلماء في ذلك.
اعلم أولاً ـ أن الشركة جائزة في الجملة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
أما الكتاب فقد دلت على ذلك منه آيات في الجملة، كقوله تعالى: {فَإِن كَانُوۤاْ أَكْثَرَ مِن ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى ٱلثُّلُثِ} ، وقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِىۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ} عند من يقول: إن الخلطاء الشركاء، وقوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} ، وهي تدل على الاشتراك من جهتين.
وأما السنة ـ فقد دلت على جواز الشركة أحاديث كثيرة سنذكر هنا إن شاء الله طرفاً منها. فمن ذلك ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أعتق شركاً له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم، وإلا فقد عتق عليه ما عتق». وقد ثبت نحوه في الصحيح عن أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بالاشتراك في الرقيق. وقد ترجم البخاري رحمه الله في صحيحه لحديث ابن عمر وأبي هريرة المذكورين بقوله (باب الشركة في الرقيق)، ومن ذلك، ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري رحمهما الله عن أبي المنهال قال:
اشتريت أنا وشريك لي شيئاً يداً بيد ونسيئة، فجاءنا البراء بن عازب فسألناه فقال: فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم وسألنا النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «ما كان يداً بيد فخذوه، وما كان نسيئه فذروه». وفيه إقراره صلى الله عليه وسلم البراء وزيداً المذكورين على ذلك الاشتراك. وترجم البخاري رحمه الله لهذا الحديث في كتاب الشركة بقوله: (باب الاشتراك في الذهب والفضة وما يكون فيه الصرف). ومن ذلك إعطاؤه صلى الله عليه وسلم أرض خيبر لليهود ليعلموا فيها ويزرعوها، على أن لهم شطر ما يخرج من ذلك، وهو اشتراك في الغلة الخارجة منها، وقد ترجم البخاري رحمه الله لهذا الحديث في كتاب الشركة بقوله (باب مشاركة الذميين والمشركين في المزارعة) ومن ذلك ما أخرجه أحمد والبخاري عن جابر رضي الله عنه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة. في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. وترجم البخاري لهذا الحديث في كتاب الشركة بقوله (باب الشركة في الأرضين وغيرها). ثم ساق الحديث بسند آخر، وترجم له أيضاً بقوله (باب إذا قسم الشركاء الدور وغيرها، فليس لهم رجوع ولا شفعة) ومن ذلك ما رواه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً قال: إن الله يقول: «أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما» قال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى (في نيل الأوطار) في هذا الحديث: صححه الحاكم وأعله ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حيان. وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وأعله أيضاً ابن القطان بالإرسال، فلم يذكر فيه أبا هريرة وقال إنه الصواب. ولم يسنده غير أبي همام محمد بن الزبرقان وسكت أبو داود والترمذي على هذا الحديث، وأخرج نحوه أبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب عن حكيم بن حزام. انتهى منه. ومن المعروف عن أبي داود رحمه الله ـ أنه لا يسكت الكلام في حديث إلا وهو يعتقد صلاحيته للاحتجاج. والسند الذي أخرجه به أبو داود الظاهر منه أنه صالح للاحتجاج، فإنه قال: حدثنا محمد بن سليمان المصيصي ثنا محمد بن الزبرقان عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن أبي هريرة رحمه الله رفعه قال: إن الله يقول: «أنا ثالث الشريكين». إلى آخر الحديث.
فالطبقة الأولى من هذا الإسناد هي محمد بن سليمان، وهو أبو جعفر العلاف الكوفي. ثم المصيصي لقبه لوين بالتصغير، وهو ثقة.
والطبقة الثانية منه محمد بن الزبرقان أبو همام الأهوازي، وهو من رجال الصحيحين، وقال في التقريب: صدوق، ربما وهم.
والطبقة الثالثة منه ـ هي أبو حيان التيمي، وهو يحيى بن سعد بن حيان الكوفي، وهو ثقة.
والطبقة منه ـ هي أبوه سعيد بن حيان المذكور الذي قدمنا في كلام الشوكاني: أن ابن القطان أعل هذا الحديث بأنه مجهول، ورد ذلك بأن ابن حبان قد ذكره في الثقات. وقال ابن حجر (في التقريب): إنه وثقه العجلي أيضاً.
والطبقة الخامسة منه ـ أبو هريرة رفعه.
فهذا إسناد صالح كما ترى. وإعلال الحديث بأنه روي موقوفاً من جهة أخرى يقال فيه إن الرفع زيادة. وزيادة العدول مقبولة كما تقرر في الأصول وعلوم الحديث. ويؤيده كونه جاء من طريق أخرى عن حكيم بن حزام كما ذكرناه في كلام الشوكاني آنفاً. ومن ذلك حديث السائب بن أبي السائب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك، لا تداريني ولا تماريني. أخرجه أبو داود وابن ماجه. ولفظه: كنت شريكي ونعم الشريك. كنت لا تداري ولا تماري. وأخرجه أيضاً النسائي والحاكم وصححه. وفيه إقرار النَّبي صلى الله عليه وسلم له على كونه كان شريكاً له. والأحاديث الدالة على الشركة كثيرة جداً.
وقد قال ابن حجر في فتح الباري في آخر كتاب الشركة ما نصه: اشتمل كتاب الشركة (يعني من صحيح البخاري) من الأحاديث المرفوعة على سبعة وعشرين حديثاً، المعلق منها واحد، والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثلاثة عشر حديثاً، والخالص أربعة عشر، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث النعمان «مثل القائم على حدود الله»، وحديثي عبد الله بن هشام، وحديثي عبد الله بن عمر، وحديث عبد الله بن الزبير في قصته، وحديث ابن عباس الأخير. وفيه من الآثار أثر واحد. والله أعلم انتهى كلام ابن حجر. وبهذا تعلم كثرة الأحاديث الدالة على الشركة في الجملة.
وأما الإجماع فقد أجمع جميع علماء المسلمين على جواز أنواع من أنواع الشركات، وإنما الخلاف بينهم في بعض أنواعها.
اعلم أولاً ـ أن الشركة قسمان: شركة أملاك، وشركة عقود.
فشركة الأملاك ـ أن يملك عيناً اثنان أو أكثر بإرث، أو شراء، أو هبة ونحو ذلك. وهي المعروفة عند المالكية بالشركة الأعمية.
وشركة العقود ـ تنقسم إلى شركة مفاوضة، وشركة عنان، وشركة وجوه، وشركة أبدان، وشركة مضاربة. وقد تتداخل هذه الأنواع فيجتمع بعضها مع بعض.
أما شركة الأملاك فقد جاء القرآن الكريم بها في قوله تعالى: {فَإِن كَانُوۤاْ أَكْثَرَ مِن ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى ٱلثُّلُثِ} ولا خلاف فيها بين العلماء.
وأما أنواع شركة العقود فسنذكر إن شاء الله هنا معانيها، وكلام العلماء فيها، وأمثلة للجائز منها تنبيهاً بها على غيرها، وما ورد من الأدلة في ذلك.
اعلم ـ أن شركة المفاوضة مشتقة من التفويض. لأن كل واحد منهما يفوض أمر التصرف مال الشركة إلى الآخر. ومن هذا قوله تعالى عن مؤمن آل فرعون : {وَأُفَوِّضُ أَمْرِىۤ إِلَى ٱللَّهِ} .
وقيل: أصلها من المساواة. لاستواء الشريكين فيها في التصرف والضمان. وعلى هذا فهي من الفوضى بمعنى التساوي. ومنه قول الأفوه الأودي: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
إذا تولى سراة الناس أمرهم نما على ذاك أمر القوم وازدادوا

فقوله: «لا يصلح الناس فوضى» أي لا تصلح أمورهم في حال كونهم فوضى، أي متساوين لا أشراف لهم يأمرونهم وينهونهم. والقول الأول هو الصواب. هذا هو أصلها في اللغة.
وأما شركة العنان ـ فقد اختلف في أصل اشتقاقها اللغوي. فقيل: أصلها من عن الأمر يعن ـ بالكسر والضم ـ عنا وعنوناً: إذا عرض. ومنه قول امرىء القيس: فعن لنا سرب كأن نعاجه عذارى دوار في ملاء مذيل

قال ابن منظور في اللسان: وشرك العنان وشركة العنان: شركة في شيء خاص دون سائر أموالهما. كأنه عن لهما شيء فاشترياه واشتركا فيه. واستشهد لذلك بقول النابغة الجعدي: فشاركنا قريشاً في تقاها وفي أحسابها شرك العنان
بما ولدت نساء بني هلال وما ولدت نساء بني أبان

وبهذا تعلم: أن شركة العنان معروفة في كلام العرب، وأن قول ابن القاسم من أصحاب مالك: إنه لا يعرف شركة العنان عن مالك، وأنه لم ير أحداً من أهل الحجاز يعرفها، وإنما يروى عن مالك والشافعي من أنهما لم يطلقا هذا الإسم على هذه الشركة، وأنهما قالا:
هي كلمة تطرق بها أهل الكوفة ليمكنهم التمييز بين الشركة العامة والخاصة من غير أن يكون مستعملاً في كلام العرب. كل ذلك فيه نظر لما عرفت أن كان ثابتاً عنهم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له.
اعلم ـ أن مراد النابغة في بيتيه المذكورين: * بما ولدت نساء بني هلال *
ابن عامر بن صعصعة، أن منهم لبابة الكبرى، ولبابة الصغرى، وهما أختان، ابنتا الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن روبية بن عبد الله بن هلال، وهما أختا ميمونة بنت الحارث زوج للنبي صلى الله عليه وسلم.
أما لبابة الكبرى ـ فهي زوج العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهي أم أبنائه: عبد الله، وعبيد الله، والفضل وبه كانت تكنى، وفيها يقول الراجز: ما ولدت نجيبة من فحل كستة من بطن أم الفضل

وأما لبابة الصغرى ـ فهي أم خالد بن الوليد رضي الله عنه، وعمتهما صفية بنت حزن هي أم أبي سفيان بن حرب. وهذا مراده: * بما ولدت نساء بني هلال *
وأما نساء بني أبان ـ فإنه يعني أن أبا العاص، والعاص، وأبا العيص، والعيص أبناء أمية بن عبد شمس، أمهم آمنة بنت أبان بن كليب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة فهذه الأرحام المختلطة بين العامريين وبين قريش هي مراد النابغة بمشاركتهم لهم في الحسب والتقى ـ شرك العنان.
وقيل: إن شركة العنان أصلها من عنان الفرس. كما يأتي إيضاحه إن شاء الله. وهو المشهور عند العلماء.
وقيل هي من المعاناة بمعنى المعارضة، يقال عاننته إذا عارضته بمثل ماله أو فعاله، فكل واحد من الشريكين يعارض الآخر بماله وفعاله ـ وهي بكسر العين على الصحيح خلافاً لمن زعم فتحها، ويروى عن عياض وغيره وادعاء أن أصلها من عنان السماء بعيد جداً كما ترى.
وأما شركة الوجوه ـ فأصلها من الوجاهة. لأن الوجيه تتبع ذمته بالدين، وإذا باع شيئاً باعه بأكثر مما يبيع به الخامل.
وأما شركة الأبدان ـ فأصلها اللغوي واضح، لأنهما يشتركان بعمل أبدانهما، ولذا تسمى شركة العمل، إذ ليس الاشتراك فيها بالمال، وإنما هو بعمل البدن.
وأما شركة المضاربة وهي القراض ـ فأصلها من الضرب في الأرض، لأن التاجر يسافر في طلب الربح. والسفر يكنى عنه بالضرب في الأرض، كما في قوله تعالى: {يَضْرِبُونَ فِى ٱلاٌّرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ} ، وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاٌّرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ} .
فإذا عرفت معاني أنواع الشركة في اللغة، فسنذكر لك إن شاء الله تعالى هنا معانيها المرادة بها في الاصطلاح عند الأئمة الأربعة وأصحابهم، وأحكامها، لأنهم مختلفون في المراد بها اصطلاحاً، وفي بعض أحكامها.
أما مذهب مالك في أنواع الشركة وأحكامها فهذا تفصيله:
اعلم ـ أن شركة المفاوضة جائزة عند مالك وأصحابه. والمراد بشركة المفاوضة عندهم هو أن يطلق كل واحد منهما التصرف لصاحبه في المال الذي اشتركا فيه غيبة وحضوراً، وبيعاً وشراء، وضماناً وتوكيلاً. وكفالة وقراضاً. فما فعل أحدهما من ذلك لزم صاحبه إذا كان عائداً على شركتهما.
ولا يكونان شريكين إلا فيما يعقدان عليه الشركة من أموالهما، دون ما ينفرد به كل واحد منهما من ماله. وسواء اشتركا في كل ما يملكانه أو في بعض أموالهما، وتكون يد كل منهما كيد صاحبه، وتصرفه كتصرفه ما لم يتبرع بشيء ليس في مصلحة الشركة.
وسواء كانت المفاوضة بينهما في جميع أنواع المتاجر أو في نوع واحد منها، كرقيق يتفاوضان في التجارة فيه فقط ، ولكل واحد منهما أن يبيع بالدين ويشتري فيه ويلزم ذلك صاحبه وهذا هو الصواب. خلافاً لخليل في مختصره في الشراء بالدين.
وقد أشار خليل في مختصره إلى جواز شركة المفاوضة في مذهب مالك مع تعريفها، وما يستلزمه عقدها من الأحكام بالنسبة إلى الشريكين بقوله: ثم إن أطلقا التصرف وإن بنوع فمفاوضة، ولا يفسدها انفراد أحدهما بشيء وله أن يتبرع إن استألف به أوخف كإعارة آلة ودفع كسرة ويبضع ويقارد ويودع لعذر وإلا ضمن، ويشارك في معين ويقيل ويولى ويقبل المعيب وإن أبى الآخر، ويقر بدين لمن لا يتهم عليه، ويبيع بالدين لا الشراء به. ككتابة وعتق على مال، وإذن لعبد في تجارة ومفاوضة وقد قدمنا أن الشراء بالدين كالبيع به. فللشريك فعله بغير إذن شريكه على الصحيح من مذهب مالك خلافاً لخليل: وأما الكتابة والعتق على المال وما عطف عليه ـ فلا يجوز شيء منه إلا بإذن الشريك.
واعلم ـ أن الشركة المفاوضة هذه في مذهب مالك لا تتضمن شيئاً من أنواع الغرر التي حرمت من أجلها شركة المفاوضة عند الشافعية ومن وافقهم لأن ما استفاده أحد الشريكين المتفاوضين من طريق أخرى كالهبة والإرث، واكتساب مباح كاصطياد واحتطاب ونحو ذلك لا يكون شيء منه لشريكه. كما أن ما لزمه غرمه خارجاً عن الشركة كأرش جناية، وثمن مغصوب ونحو ذلك، لا شيء منه على شريكه، بل يقتصر كل ما بينهما على ما كان متعلقاً بمال الشركة، فكل منهما وكيل عن صاحبه، وكفيل عليه في جميع ما يتعلق بمال الشركة، وهكذا اقتضاه العقد الذي تعاقدا عليه. فلا موجب للمنع ولا غرر في هذه الشركة عند المالكية، لأنهم لا يجعلون المتفاوضين شريكين في كل ما اكتسبا جميعاً حتى يحصل الغرر بذلك، ولا متضامنين في كل ما جنيا حتى يحصل الغرر بذلك. بل هو عقد على أن كل واحد منهما نائب عن الآخر في كل التصرفات في مال الشركة، وضامن عليه في كل ما يتعلق بالشركة.. وهذا لا مانع منه كما ترى، وبه تعلم أن اختلاف المالكية والشافعية في شركة المفاوضة خلاف في حال، لا في حقيقة.
وأما شركة العنان ـ فهي جائزة عند الأئمة الأربعة. مع اختلافهم في تفسيرها ـ وفي معناها في مذهب مالك قولان، وهي جائزة على كلا القولين: الأول وهو المشهور ـ أنها هي الشركة التي يشترط كل واحد من الشريكين فيها على صاحبه ألا يتصرف في مال الشركة إلا بحضرته وموافقته، وعلى هذا درج خليل في مختصره بقوله: وإن اشترطا نفى الاستبداد فعنان، وهي على هذا القول من عنان الفرس. لأن عنان كل واحد من الشريكين بيد الآخر فلا يستطيع الاستقلال دونه بعمل، كالفرس التي يأخذ راكبها بعنانها فإنها لا تستطيع الذهاب إلى جهة بغير رضاه.
والقول الثاني عند المالكية: أن شركة العنان هي الاشتراك في شيء خاص. وبهذا جزم ابن رشد ونقله عنه المواق في شرح قول خليل وإن اشترطا نفى الاستبداد الخ. وهذا المعنى الأخير أقرب للمعروف في اللغة كما قدمنا عن ابن منظور في اللسان وأما شركة الوجوه ـ فلها عند العلماء معان:
الأول منها ـ هو أن يشترك الوجيهان عند الناس بلا مال ولا صنعة. بل ليشتري كل واحد منهما بمؤجل في ذمته لهما معاً. فإذا باعا كان الربح الفاضل عن الأثمان ببينهما.
وهذا النوع من شركة الوجوه هو المعروف عند المالكية بشركة الذمم، وهو فاسد عند المالكية والشافعية. خلافاً للحنيفة والحنابلة. ووجه فساد ظاهر. لما فيه مر الغرر، لاحتمال أن يخسر هذا ويربح هذا كالعكس. وإلى فساد هذا النوع من الشركة أشار ابن عاصم المالكي في تحفته بقوله: وفسخها إن وقعت على الذمم ويقسمان الربح حكم ملتزم

المعنى الثاني من معانيها ـ أن يبيع وجيه مال خامل بزيادة ربح، على أن يكون له بعض الربح الذي حصل في المبيع بسبب وجاهته. لأن الخامل لو كان هو البائع لما حصل ذلك الربح. وهذا النوع أيضاً فاسد. لأنه عوض جاه، كما قاله غير واحد من أهل العلم والمعنى الثالث ـ أن يتفق وجيه وخامل على أن يشتري الوجيه في الذمة ويبيع الخامل ويكون الربح بينهما. وهذا النوع أيضاً فاسد عند المالكية والشافعية، لما ذكرنا من الغرر سابقاً.
وأما شركة الأبدان عند المالكية ـ فهو جائز بشروط، وهي أن يكون عمل الشركين متحدا كخياطين. أو متلازماً كأن يغزل أحدهما وينسج الآخر، لأن النسج لا بد له من الغزل، وأن يتساويا في العمل جودة ورداءة وبطأ وسرعة، أو يتقاربا في ذلك، وأن يحصل التعاون بينهما. وإلى جواز هذا النوع من الشركة بشروطه أشار خليل في مختصره بقوله: وجازت بالعمل إن اتحد أو تلازم وتساويا فيه، أو تقاربا وحصل التعاون، وإن يمكانين. وفي جواز إخراج كل آلة واستئجاره من الآخر. أو لا بد من ملك أو كراء تأويلان، كطبيبين اشتركا في الدواء، وصائدين في البازين، وهل وإن افترقا رويت عليهما وحافرين بكركاز ومعدن، ولم يستحق وارثه بقيته وأقطعه الإمام. وقيد بما لم يبد، ولزمه ما يقبله صاحبه وإن تفاصلا وألغى مرض كيومين الخ. وبهذا تعلم أن شركة الأبدان جائزة عند المالكية في جميع أنواع العمل: من صناعات بأنواعها، وطب واكتساب مباح. كالاصطياد والاحتشاش والاحتطاب، وغير ذلك بالشروط المذكورة. وقال ابن عاصم في تحفته:
شركة بمال أو بعمل أو بهما تجوز لا لأجل

وبقي نوع معروف عند المالكية من أنواع الشركة يسمى في الاصطلاح بـ«شركة الجبر» وكثير من العلماء يخالفهم في هذا النوع الذي هو «شركة الجبر».
وشركة الجبر: هي أن يشتري شخص سلعة بسوقها المعهود لها، ليتجر بها بحضرة بعض تجار جنس تلك السلعة الذين يتجرون فيها، ولم يتكلم أولئك التجار الحاضرون. فإن لهم إن أرادوا الاشتراك في تلك السلعة مع ذلك المشتري أن يجبروه على ذلك، ويكونون شركاءه في تلك السلعة شاء أو أبى.
وشركتهم هذه معه جبراً عليه ـ هي «شركة الجبر» المذكورة. فإن كان اشتراها ليقتنيها لا ليتجر بها، أو اشتراها ليسافر بها إلى محل آخر ولو للتجارة بها فيه ـ فلا جبر لهم عليه. وأشار خليل في مختصره إلى «شركة الجبر» بقوله: وأجبر عليها إن اشترى شيئاً ِسوقه لا لكفر أو قنية، وغيره حاضر لم يتكلم من تجاره. وهل في الزقاق لا كبيته قولان. وأما شركة المضاربة ـ فهي القراض، وهو أن يدفع شخص إلى آخر مالاً ليتجر به على جزء من ربحه يتفقان عليه. وهذا النوع جائز بالإجماع إذا استوفى الشروط كما سيأتي إن شاء الله دليله.
وأما أنواع الشركة في مذهب الشافعي رحمه الله فهي أربعة: ثلاثة منها باطلة في مذهبه، والرابع صحيح.
وأما الثلاثة الباطلة ـ فالأول منها «شركة الأبدان» كشركة الحمالين، وسائر المحترفين: كالخياطين، والنجارين، والدلالين، ونحو ذلك، ليكون بينهما كسبهما متساوياً أو متفاوتاً مع اتفاق الصنعة أو اختلافها.
فاتفاق الصنعة كشركة خياطين، واختلافها كشركة خياط ونجار ونحو ذلك. كل ذلك باطل في مذهب الشافعي، ولا تصح عنده الشركة إلا بالمال فقط لا بالعمل.
ووجه بطلان شركة الأبدان عند الشافعية ـ هو أنها شركة لا مال فيها، وأن فيها غررا، لأن كل واحد منهما لا يدري أيكتسب صاحبه شيئاً أم لا، ولأن كل واحد منهما متميز ببدنه ومنافعه فيختص بفوائده، كما لو اشتركا في ماشيتهما وهي متميزة على أن يكون النسل والدر بينهما، وقياماً على الاحتطاب والاصطياد. هكذا توجيه الشافعية للمنع في هذا النوع من الشركة.
وقد علمت فيما مد من شروط جواز هذا النوع عند المالكية، إذ بتوفر الشروط المذكورة ينتفي الغرر.
والثاني من الأنواع الباطلة عند الشافعية ـ هو شركة المفاوضة، وهي عندهم أن يشتركا على أن يكون بينهما جميع كسبهما بأموالهما وأبدانهما، وعليهما جميع ما يعرض لكل واحد منهما من غرم، سواء كان يغصب أو إتلاف أو بيع فاسد أو غير ذلك. ولا شك أن هذا النوع مشتمل على أنواع من الغرر فبطلانه واضح، وهو ممنوع عند المالكية، ولا يجيزون هذا ولا يعنونه بـ«شركة المفاوضة» كما قدمنا.
وقد قال الشافعي رحمه الله في هذا النوع: إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة، فلا باطل أعرفه في الدنيا ـ يشير إلى كثرة الغرر والجهالات فيها: لاحتمال أن يكسب كل واحد منهما كسباً دون الآخر، وأن تلزم كل واحد منهما غرامات دون الآخر، فالغرر ظاهر في هذا النوع جداً.
والثالث من الأنواع الباطلة عند الشافعية ـ هو «شركة الوجوه» وهي عندهم أن يشترط الوجيهان ليبتاع كل واحد منهما بمؤجل في ذمته لهما معاً فإذا باعا كان الفاضل من الأثمان بينهما. وهذا النوع هو المعروف عند المالكية بـ«شركة الذمم». ووجه فساده ظاهر، لما فيه من الغرر، لأن كل منهما يشتري في ذمته ويجعل كل منهما للآخر نصيباً من ربح ما اشترى في ذمته، مقابل نصيب من ربح ما اشترى الآخر في ذمته. والغرر في مثل هذا ظاهر جداً. وبقية أنواع «شركة الوجوه» ذكرناه في الكلام عليها في مذهب مالك، وكلها ممنوعة في مذهب مالك ومذهب الشافعي، ولذا اكتفينا بما قدمنا عن الكلام على بقية أنواعها في مذهب الشافعي أما النوع الرابع من أنواع الشركة الذي هو صحيح عند الشافعية ـ فهو «شركة العنان» وهي: أن يشتركا في مال لهما ليتجرا فيه. ويشترط فيها عندهم صيغة تدل على الإذن في التصرف في مال الشركة، فلو اقتصرا على لفظ «اشتركنا» لم يكف على الأصح عندهم.
ويشترط في الشريكين أهلية التوكيل والتوكل، وهذا الشرط مجمع عليه. وتصح «شركة العنان» عند الشافعية في المثليات مطلقاً دون المقومات وقيل: تختص بالنقد المضروب.
ويشترط عندهم فيها خلط المالين. بحيث لا يتميز أحدهما من الآخر. والحيلة عندهم في الشركة في العروض ـ هي أن يبيع كل واحد بعض عرضه ببعض عرض الآخر ويأذن له في التصرف، ولا يشترط عندهم تساوي المالين. والربح والخسران على قدر المالين، سواء تساويا في العمل أو تفاوتا. وإن شرطا خلاف ذلك فسد العقد، ويرجع كل واحد منهما على الآخر بأجرة عمله في ماله.
عقد الشركة المذكورة يسلط كل واحد منهما على التصرف في مال الشركة بلا ضرر، فلا يبيع بنسيئة، ولا بغبن فاحش، ولا يبضعه بغير إذن شريكه، ولكل منهما فسخها متى شاء.
وأما تفصيل أنواع الشركة في مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله ـ فهو أن الشركة تنقسم إلى ضربين:
شركة ملك، وشركة عقد.
فشركة الملك واضحة. كأن يملكان شيئاً بإرث أو هبة ونحو ذلك كما تقدم. وشركة العقد عندهم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
شركة بالمال، وشركة بالأعمال، وشركة بالوجوه. وكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة عندهم ينقسم قسمين: مفاوضة، وعنان. فالمجموع ستة أقسام.
أما شركة المفاوضة عندهم ـ فهي جائزة إن توفرت شروطها، وهي عندهم الشركة التي تتضمن وكالة كل من الشريكين للآخر، وكفالة كل منهما الآخر، ولا بد فيها من مساواة الشريكين في المال والدين والتصرف.
فبتضمنها الوكالة يصح تصرف كل منهما في نصيب الآخر.
وبتضمنها الكفالة يطلب كل منهما بما لزم الآخر.
وبمساواتهما في المال يمتنع أحد أن يستبد أحدهما بشيء تصح الشركة فيه دون الآخر. ولذا لو ورث بعد العقد شيئاً تصح الشركة فيه كالنقد بطلت المفاوضة، ورجعت الشركة شركة عنان.
وبتضمنها المساواة في الدين تمتنع بين مسلم وكافر.
وبتضمنها المساواة في التصرف تمتنع بين بالغ وصبى، وبين حر وعبد، وكل ما اشتراه واحد من شريكي المفاوضة فهو بينهما. الإطعام أهله وكسوتهم وكل دين لزم أحدهما بتجارة وغصب وكفالة لزم الآخر.
ولا تصح عندهم شركة مفاوضة أو عنان بغير النقدين والتبر والفلوس النافقه. والحيلة في الشركة في العروض عندهم هي ما قدمناه عن الشافعية، فهم متفقون في ذلك.
وأما شركة العنان فهي جائزة عند الحنفية. وقد قدمنا الإجماع على جوازها على كل المعاني التي تراد بها عند العلماء.
وشركة العنان عند الحنفية ـ هي الشركة التي تتضمن الوكالة وحدها، ولم تتضمن الكفالة. وهي: أن يشتركا في نوع بز أو طعام أو في عموم التجارة ولم يذكر الكفالة.
ويعلم من هذا ـ أن كل ما اشتراه أحدهما كان بينهما، ولا يلزم أحدهما ما لزم الآخر من الغرامات، وتصح عندهم شركة العنان المذكورة مع التساوي في المال دون الربح وعكسه إذا كانت زيادة الربح لأكثرهما عملاً. لأن زيادة الربح في مقابلة زيادة العمل وفاقاً للحنابلة. وعند غيرهم لا بد أن يكون الربح بحسب المال. ولو اشترى أحد الشريكين «شركة العنان» بثمن فليس لمن باعه مطالبة شريكه الآخر، لأنها لا تتضمن الكفالة بل يطالب الشريك الذي اشترى منه فقط، ولكن الشريك يرجع على شريكه بحصته. ولا يتشرط في هذه الشركة عندهم خلط المالين، فلو اشترى أحدهما بماله وهلك مال الآخر كان المشتري بينهما، ويرجع على شريكه بحصته منه.
وتبطل هذه الشركة عندهم بهلاك المالين أو أحدهما قبل الشراء. وتفسد عندهم باشتراط دراهم مسماة من الربح لأحدهما. ويجوز عندهم لكل من شريكي المفاوضة والعنان ـ أن يبضع ويستأجر. ويودع ويضارب ويوكل. ويد كل منهما في مال الشركة يد أمانة، كالوديعة والعارية وأما شركة الأعمال ففيها تفصيل عند الحنفية. فإن كان العمل من الصناعات ونحوها جازت عندهم شركة الأعمال، ولا يشترطون اتحاد العمل أو تلازمه ـ خلافاً للمالكية كما تقدم فيجوز عند الحنفية: أن يشترك خياطان مثلاً، أو خياط وصباغ على أن يتقبلا الأعمال، ويكون الكسب بينهما، وكل عمل يتقبله أحدهما يلزمهما: وإذا عمل أحدهما دون الآخر فما حصل من عمله فهو بينهما. وإنما استحق فيه الذي لم يعمل لأنه ضمنه بتقبل صاحبه له، فاستحق نصيبه منه بالضمان.
وهذا النوع الذي أجازه الحنفية لا يخفى أنه لا يخلو من غرر في الجملة عند اختلاف صنعة الشريكين. لاحتمال أن يحصل أحدهما أكثر مما حصله الآخر. فالشروط التي أجاز بها المالكية «شركة الأعمال» أحوط وأبعد من الغرر كما ترى.
وأما إن كانت الأعمال من جنس اكتساب المباحات فلا تصح فيها الشركة عند الحنفية، كالاحتطاب والأحتشاش، والاصطياد واجتناه الثمار من الجبال والبراري، خلافاً للمالكية والحنابلة.
ووجه منعه عند الحنفية ـ أن من اكتسب مباحاً كحطب أو حشيش أو صيد ملكه ملكاً مستقلاً. فلا وجه لكون جزء منه لشريك آخر، لأنه لا يصح التوكيل فيه ومن أجازه قال: إن كل واحد منهما جعل للآخر نصيباً من ذلك المباح الذي يكتسبه في مقابل النصيب الذي يكتسبه الآخر. والمالكية القائلون بجواز هذا يشترطون اتحاد العمل أو تقاربه، فلا غرر في ذلك، ولا موجب للمنع. وفي اشتراط ذلك عند الحنابلة خلاف كما سيأتي إن شاء الله.
وأما «شركة الوجوه» التي قدمنا أنها هي المعروفة عند المالكية «بشركة الذمم» وقدمنا منعها عند المالكية والشافعية ـ فهي جائزة عند الحنفية، سواء كانت مفاوضة أو عناناً. وقد علمت مما تقدم أن المفاوضة عندهم تتضمن الوكالة والكفالة.
وأن العنان تتضمن الوكالة فقط، وإن اشترط الشريكان في «شركة الوجوه» مناصفة المشتري أو مثالثته ـ فالربح كذلك عندهم وبطل عندهم شرط الفضل. لأن الربح عندهم لا يستحق إلا بالعمل. كالمضارب أو بالمال كرب المال. أو بالضمان كالأستاذ الذي يتقبل العمل من الناس ويلقيه على التلميذ بأقل مما أخذ، فيطيب له الفضل بالضمان ـ هكذا يقولونه. ولا يخفى ما في «شركة الوجوه» من الغرر.
واعلم أن الربح في الشركة الفاسدة على حسب المال إن كانت شركة مال، وعلى حسب العمل إن كانت شركة عمل، وهذا واضح، وتبطل الشركة بموت أحدهما. وأما تفصيل أنواع الشركة في مذهب الإمام أحمد رحمه الله ـ فهي أيضاً قسمان: شركة أملاك، وشركة عقود.
وشركة العقود عند الحنابلة خمسة أنواع: شركة العنان، والأبدان، والوجوه، والمضاربة، والمفاوضة.
أما شركة الأبدان فهي جائزة عندهم، سواء كان العمل من الصناعات أو اكتساب المباحات. أما مع اتحاد العمل فهي جائزة عندهم بلا خلاف. وأما مع اختلاف العمل فقال أبو الخطاب: لا تجوز وفاقاً للمالكية. وقال القاضي: تجوز وفاقاً للحنفية في الصناعات دون اكتساب المباحات.
وإن اشتركا على أن يتقبل أحدهما للعمل ويعمله الثاني والأجرة بينهما صحت الشركة عند الحنابلة والحنفية خلافاً لزفر. والربح في شركة الأبدان على ما انفقوا عليه عند الحنابلة.
وأما شركة الوجوه التي قدمنا أنها هي المعروفة بشركة الذمم عند المالكية فهي جائزة أيضاً في مذهب الإمام أحمد وفاقاً لأبي حنيفة، وخلافاً لمالك والشافعي. وأما شركة العنان فهي جائزة أيضاً عند الإمام أحمد. وقد قدمنا الإجماع على جوازها. وهي عندهم: أن يشترك رجلان بماليهما على أن يعملا فيهما بأبدانهما والربح بينهما. وهذه الشركة إنما تجوز عندهم بالدنانير والدراهم، ولا تجوز بالعروض.
وأما شركة المفاوضة ـ فهي عند الحنابلة قسمان: أحدهما جائز، والآخر ممنوع.
وأما الجائز منهما فهو أن يشتركا في جميع أنواع الشركة. كأن يجمعا بين شركة العنان والوجوه والأبدان فيصح ذلك، لأن كل نوع منها يصح على انفراده فصح مع غيره.
وأما النوع الممنوع عندهم منها فهو أن يدخلا بينهما في الشركة الاشتراك فيما يحصل لكل واحد منهما من ميراث أو يجده من ركاز أو لقطة. ويلزم كل واحد منهما ما لزم الآخر من أرش جناية وضمان غصب، وقيمة متلف، وغرامة ضمان، وكفالة وفساد هذا النوع ظاهر لما فيه من الغرر كما ترى.
وأما شركة المضاربة ـ وهي القراض ـ فهي جائزة عند الجميع ـ وقد قدمنا أنها هي: أن يدفع شخص لآخر ما لا يتجر فيه على أن يكون الربح بينهما بنسبة يتفقان عليها، وكون الربح في المضاربة بحسب ما اتفقا عليه لا خلاف فيه بين العلماء، سواء كان النصف أو أقل أو كثر لرب المال أو للعامل.
وأما شركة العنان عند الشافعية والحنابلة والحنفية والمالكية، وشركة المفاوضة عند المالكية ـ فاختلف في نسبة الربح، فذهب مالك والشافعي إلى أنه لا بد من كون الربح والخسران بحسب المالين، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أن الربح بينهما على ما اتفقا عليه، فلهما أن يتساويا في الربح مع تفاضل المالين.
وحجة القول الأول ـ أن الربح تبع للمال، فيلزم أن يكون بحسبه. وحجة القول الأخير أن العمل مما يستحق به الربح، وقد يكون أحدهما أبصر بالتجارة وأقوى على العمل من الآخر، فتزاد حصته لزيادة عمله.
هذا خلاصة مذاهب الأئمة الأربعة في أنواع الشركة. وقد علمت أنهم أجمعوا على جواز شركة العنان، وشركة المضاربة، وشركة الأملاك. واختلفوا فيما سوى ذلك. فأجاز الحنفية والحنابلة شركة الوجوه، ومنعها المالكية والشافعية.
وأجاز المالكية والحنفية والحنابلة شركة الأبدان إلا في اكتساب المباحات فقط فلم يجزه الحنفية.
ومنع الشافعية شركة الأبدان مطلقاً.
وأجاز المالكية شركة المفاوضة، وصورها بصورة العنان عند الشافعية والحنابلة.
وأجاز الحنفية شركة المفاوضة، وصوروها بغير ما صورها به المالكية، وأجاز الحنابلة نوعاً من أنواع المفاوضة وصوروه بصورة مخالفة لتصوير غيرهم لها. ومنع الشافعية المفاوضة كما منعوا شركة الأبدان والوجوه. وصوروا المفاوضة بصورة أخرى كما تقدم.
والشافعية إنما يجيزون الشركة بالمثلى مطلقاً نقداً أو غيره، لا بالمقومات.
والحنفية لا يجيزونها إلا بالنقدين والتبر والفلوس النافقة. والحنابلة لا يجيزونها إلا بالدنانير والدراهم كما تقدم جميع ذلك.
وقد بينا كيفية الحيلة في الاشتراك بالعروض عند الشافعية والحنفية، وعند المالكية تجوز بدنانير من كل واحد منهما، وبدراهم من كل واحد منهما، وبدنانير ودراهم من كل واحد منهما، وبنقد من أحدهما وعرض من الآخر، وبعرض من كل واحد منهما سواء اتفقا أو اختلفا، وقيل: إن اتفقا لا إن اختلفا، إلا أن العروض تقوم. وأما خلط المالين فلا بد منه عند الشافعي رحمه الله حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر كما تقدم. ويكفي في مذهب مالك أن يكون المالان في حوز واحد. ولو كان كل واحد من المالين في صرته لم يختلط بالآخر. ولا يشترط خلط المالين عند الحنفية كما تقدم. وكذلك لا يشترط خلط المالين عند الحنابلة.
فتحصل أنه لم يشترط خلط المالين إلا الشافعية: وأن المالكية إنما يشترطون كون المالين في محل واحد. كحانوت أو صندوق، وإن كان كل واحد منهما متميزاً عن الآخر.
فإذا عرفت ملخص كلام العلماء في أنواع الشركة، فسنذكر ما تيسر من أدلتها. أما النوع الذي تسميه المالكية «مفاوضة» ويعبر عنه الشافعية والحنابلة بشركة العنان. فقد يستدل له بحديث البراء بن عازب الذي قدمنا عن البخاري والإمام أحمد، فإنه يدل على الاشتراك في التجارة والبيع، والشراء لأن المقصود بالإشتراك التعاون على العمل المذكور فينوب كل واحد من الشريكين عن الآخر. ويدل لذلك أيضاً حديث أبي هريرة يرفعه قال: إن الله يقول «أنا ثالث الشريكين..» الحديث المتقدم. وقد بينا كلام العلماء فيه، وبينا أنه صالح للاحتجاج، وهو ظاهر في أنهما يعملان معاً في مال الشركة بدليل قوله: «ما لم يخن أحدهما صاحبه..» الحديث. ويدل لذلك أيضاً حديث السائب بن أبي السائب المتقدم في أنه كان شريك النَّبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وهو اشتراك في التجارة والبيع والشراء.
وأما شركة الأبدان فيحتج لها بما رواه أبو عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر قال: فجاء سعد بأسيرين ولم أجىء أنا وعمار بشيء: رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وقال المجد في «منتقى الأخبار» بعد أن ساقه: وهو حجة في شركة الأبدان وتملك المباحات. وأعلى هذا الحديث بأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه عبد الله المذكور فالحديث مرسل. وقد قدمنا مراراً أن الأئمة الثلاثة يحتجون بالمرسل خلافاً والمحدثين.
وأما المضاربة فلم يثبت فيها حديث صحيح مرفوع، ولكن الصحابة أجمعوا عليها لشيوعها وانتشارها فيهم من غير نكير. وقد مضى على ذلك عمل المسلمين من لدن الصحابة إلى الآن من غير نكير. قال ابن حزم في مراتب الإجماع: كل أبواب الفقه فلها أصل من الكتاب والسنة، حاشا القراض فما وجدنا له أصلاً فيهما ألبتة، ولكنه إجماع صحيح مجرد. والذي يقطع به أنه كان في عصر النَّبي صلى الله عليه وسلم فعلم به وأقره، ولولا ذلك لما جاز ا هـ. منه بواسطة نقل الشوكاني في نيل الأوطار.
واعلم أن اختلاف الأئمة الذي قدمنا في أنواع الشركة المذكورة راجع إلى الاختلاف في تحقيق المناط، فبعضهم يقول: هذه الصورة يوجد فيها الغرر وهو مناط المنع فهي ممنوعة، فيقول الآخر: لا غرر في هذه الصورة يوجب المنع فمناط المنع ليس موجوداً فيها. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة ـ أخذ بعض علماء المالكية وغيرهم من هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها أيضاً: جواز خلط الرفقاء طعامهم وأكل بعضهم مع بعض وإن كان بعضهم أكثر أكلاً من الآخر؛ لأن أصحاب الكهف بعثوا ورقهم ليشتري لهم بها طعام يأكلونه جميعاً. وقد قدمنا في كلام ابن العربي أنه تحتمل انفراد ورق كل واحد منهم وطعامه؛ فلا تدل الآية على خلطهم طعامهم. كما قدمنا عنه: أنها لا تدل على الاشتراك للاحتمال المذكور، وله وجه كما ترى.
وقال ابن العربي: ولا معول في هذه المسألة إلا على حديثين، أحدهما: أن ابن عمر مر بقوم يأكلون تمراً فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاقتران إلا أن يستأذن الرجل أخاه. والثاني: حديث أبي عبيدة في جيش الخبط. وهذا دون الأول في الظهور، لأنه يحتمل أن يكون أبو عبيدة يعطيهم كفافاً من ذلك القوت ولا يجمعهم ا هـ كلام ابن العربي المالكي رحمه الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا النوع من الاشتراك وهو خلط الرفقة طعامهم واشتراكهم في الأكل فيه ـ هو المعروف بـ«النهد» بكسر النون وفتحها، ولجوازه أدلة من الكتاب والسنة. أما دليل ذلك من الكتاب ـ فقوله تعالى: {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَٰنُكُمْ} فإنها تدل على خلط طعام اليتيم مع طعام وصيه وأكلهما جميعاً، وقوله تعالى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَات} ومن صور أكلهم جميعاً أن يكون الطعام بينهم فيأكلون جميعاً. وأما السنة ـ فقد دلت على ذلك أحاديث صحيحة. منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً إلى الساحل، فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلثمائة نفر، وأنا فيهم. فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فتى الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كله، فكان مزودي تمر فكان يقوتنا كل يوم قليلاً حتى فنى، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة. فقلت: وما تغنى تمرة؟ فقال لقد وجدنا فقدها حين فنيت. ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت».. الحديث. وهذا الحديث ثابت في الصحيح، واللفظ الذي سقناه به لفظ البخاري في كتاب «الشركة» وفيه. جمع أبي عبيدة بقية أزواد القوم وخلطها في مزودي تمر، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم بعد قدومهم إليه، ومنها حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: خفت أزواد القوم وأملقوا، فأتوا النَّبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم، فأذن لهم فلقيهم عمر فأخبروه فقال: ما بقاؤكم بعد إبلكم، فدخل على النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناد في الناس فيأتون بفضل أزوادهم» فبسط لذلك نطع وجعلوه على النطع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا وبرك عليه، ثم دعاهم بأوعيتهم فاحتثى الناس حتى فرغوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» هذا الحديث ثابت في الصحيح، واللفظ الذي سقناه به للبخاري أيضاً في كتاب «الشركة» وفيه: خلط طعامهم بعضه مع بعض.
ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين التمرتين جميعاً حتى يستأذن أصحابه. في رواية في الصحيح أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران إلا أن يستأذن الرجل منكم أخاه.
كل هذا ثابت في الصحيح واللفظ للبخاري رحمه الله في كتاب «الشركة». وإذن صاحبه له يدل على اشتراكهما في التمر كما ترى. وهذا الذي ذكرنا جوازه من خلط الرفقاء طعامهم وأكلهم منه جميعاً ـ هو مراد البخاري رحمه الله بلفظ النهد في قوله «كتاب الشركة. الشركة في الطعام والنهد ـ إلى قوله ـ لم ير المسلمون في النهد بأساً أن يأكل هذا بعضاً وهذا بعضاً وهذا بعضاً الخ.
فروع تتعلق بمسألة الشركة
الأول ـ إن دفع شخص دابته لآخر ليعمل عليها وما يرزق الله بينهما نصفين أو أثلاثاً أو كيفما شرطا ـ ففي صحة ذلك خلاف بين العلماء، فقال بعضهم: يصح ذلك. وهو مذهب الإمام أحمد، ونقل نحوه عن الأوزاعي. وقال بعضهم: لا يصح ذلك، وما حصل فهو العامل وعليه أجرة مثل الدابة. وهذا هو مذهب مالك: قال ابن قدامة في «المغني» وكره ذلك الحسن والنخعي. وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي: لا يصح، والربح كله لرب الدابة، وللعامل أجرة مثله، هذا حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة.
وأقوى الأقوال دليلاً عندي فيها ـ مذهب من أجاز ذلك، كالإمام أحمد، بدليل حديث رويفع بن ثابت قال: إن كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ نضو أخيه على أن له النصف مما يغنم ولنا النصف، وإن كان أحدنا لطير له النصل والريش وللآخر القدح. هذا الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. قال الشوكاني في «نيل الأوطار»: إسناد أبي داود فيه شيبان بن أمية القتباني وهو مجهول، وبقية رجاله ثقات. وقد أخرجه النسائي من غير طريق هذا المجهول بإسناد رجاله كلهم ثقات. والحديث دليل صريح على جواز دفع الرجل إلى الآخر راحلته في الجهاد على أن تكون الغنيمة بينهما. وهو عمل على الدابة على أنما يرزقه الله بينهما كما ترى. والتفريق بين العمل في الجهاد وبين غيره لا يظهر. والعلم عند الله تعالى. الفرع الثاني ـ أن يشترك ثلاثة: من أحدهم دابة، ومن آخر رواية، ومن الثالث العمل: على أن ما رزقه الله تعالى فهو بينهم، فهل يجوز هذا؟ اختلف في ذلك. فمن العلماء من قال لا يجوز هذا. وهو مذهب مالك، وهو ظاهر قول الشافعي: وممن قال بذلك: القاضي من الحنابلة وأجازه بعض الحنابلة. وقال ابن قدامة في «المغني»: إنه صحيح في قياس قول أحمد رحمه الله. الفرع الثالث ـ أن يشترك أربعة: من أحدهم دكان، ومن آخر رحى، ومن آخر بغل، ومن الرابع العمل، على أن يطحنوا بذلك، فما رزقه الله تعالى فهو بينهم فهل يصح ذلك أولاً. اختلف فيه، فقيل: يصح ذلك وهو مذهب الإمام أحمد. وخالف فيه القاضي من الحنابلة وفاقاً للقائلين بمنع ذلك كالمالكية. قال ابن قدامة: ومنعه هو ظاهر قول الشافعي. لأن هذا لا يجوز أن يكون مشاركة ولا مضاربة: فلو كان صاحب الرحى، وصاحب الدابة، وصاحب الحانوت اتفقوا على أن يعملوا جميعاً وكان كراء الحانوت والرحى والدابة متساوياً، وعمل أربابها متساوياً فهو جائز عند المالكية.. وهذه المسألة هي التي أشار إليها خليل في مختصره بقوله عاطفاً على ما لا يجوز: وذي رحاً، وذي بيت، وذي دابة ليعلموا إن لم يتساو الكراء وتساووا في الغلة وترادوا الأكربة. وإن اشترط عمل رب الدابة فالغلة له وعليه كراؤهما. ولا يخفى أن «الشركة» باب كبير من أبواب الفقه، وأن مسائلها مبينة باستقصاء في كتب فروع الأئمة الأربعة رضي الله عنهم. وقصدنا هنا أن نبين جوازها بالكتاب والسنة والإجماع. ونذكر أقسامها ومعانيها اللغوية والاصطلاحية، واختلاف العلماء فيها. وبيان أقوالهم، وذكر بعض فروعها تنبيهاً بها على غيرها، وقد أتينا على جميع ذلك. والحمد لله رب العالمين. قوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذًا أَبَدً}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن أصحاب الكهف ـ أنهم قالوا إن قومهم الكفار الذين فروا منهم بدينهم إن يظهروا عليهم، أي يطلعوا عليهم ويعرفوا مكانهم، يرجموهم بالحجارة، وذلك من أشنع أنواع القتل. وقيل: يرجموهم بالشتم والقذف، أو يعيدوهم في ملتهم، أي يردوهم إلى ملة الكفر:
وهذا الذي ذكره هنا من فعل الكفار مع المسلمين ـ من الأذى أو الرد إلى الكفر ـ ذكر في مواضع أخر أنه هو فعل الكفار مع الرسل وأتباعهم. كقوله جل وعلا: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَ} ، وقوله تعالى:{قَالَ ٱلْمَلأ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يـٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَـٰرِهِينَقَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ} ، وقوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُو} إلى غير ذلك من الآيات.
مسألة
أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة، لأن قوله عن أصحاب الكهف {إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ} ظاهر في إكراههم على ذلك وعدم طواعيتهم، ومع هذا قال عنهم: {وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذًا أَبَدً} فدل ذلك على أن ذلك الإكراه ليس بعذر. ويشهد لهذا المعنى حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه مع الإكراه بالخوف من القتل. لأن صاحبه الذي امتنع أن يقرب ولو ذباباً قتلوه.
ويشهد له أيضاً دليل الخطاب، أي مفهوم المخالفة في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فإنه يفهم من قوله: «تجاوز لي عن أمتي» أن غير أمته من الأمم لم يتجاوز لهم عن ذلك. وهذا الحديث وإن أعله الإمام أحمد وابن أبي حاتم فقد تلقاه العلماء قديماً وحديثاً بالقبول، وله شواهد ثابتة في القرآن العظيم والسنة الصحيحة. وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة «الكهف»، في الكلام على قوله {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ}. ولذلك اختصرناها هنا. أما هذه الأمة فقد صرح الله تعالى بعذرهم بالإكراه في قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ} . والعلم عند الله تعالى.