تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 299 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 299  {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً * هُنَالِكَ ٱلْوَلَـٰيَةُ لِلَّهِ ٱلْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا * وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلاٌّرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا * ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلْبَـٰقِيَاتُ ٱلصَّـٰلِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً * „ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلاٌّرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَـٰهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا * وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا * وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّـٰلِمِينَ بَدَلاً * مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُد}
قوله تعالى: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هُنَالِكَ ٱلْوَلَـٰيَةُ لِلَّهِ ٱلْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبً}. اعلم أن في هذه الآية الكريمة: قراءات سبعية، وأقوالاً لعلماء التفسير، بعضها يشهد له قرآن، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية قد تكون فيها مذاهب العلماء، يشهد لكل واحد منها قرآن. فنذكر الجميع وأدلته في القرآن. فإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله في هذه الآية: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ} قرأه السبعة ما عدا حمزة والكسائي بالتاء المثناة الفوقية. وقرأه حمزة والكسائي «ولم يكن له فئة» بالياء المثناة التحتية. وقوله {ٱلْوَلَـٰيَةُ لِلَّهِ ٱلْحَقِّ} قرأه السبعة ما عدا حمزة والكسائي أيضاً «الولاية» بفتح الواو. وقرأه حمزة والكسائي بكسر الواو. وقوله «الحق» قرأه السبعة ما عدا أبا عمرو والكسائي بالخفض نعتاً «لله» وقرأه أبو عمرو والكسائي بالرفع نعتاً للولاية. فعلى قراءة من قرأ «الولاية لله» بفتح الواو ـ فإن معناها: الموالاة والصلة، وعلى هذه القراءة ففي معنى الآية وجهان:
الأول ـ أن معنى {هُنَالِكَ ٱلْوَلَـٰيَةُ لِلَّهِ} أي في ذلك المقام، وتلك الحال تكون الولاية من كل أحد لله، لأن الكافر إذا رأى العذاب رجع إلى الله. وعلى هذا المعنى فالآية كقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} ، وقوله في فرعون: {حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَٰءِيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ ءَاأنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ} ونحو ذلك من الآيات.
الوجه الثاني ـ أن الولاية في مثل ذلك المقام وتلك الحال لله وحده، فيوالى فيه المسلمين ولاية رحمة، كما في قوله تعالى: {ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءامَنُو} ، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَـٰفِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ} . وله على الكافرين ولاية الملك والقهر، كما في قوله: {وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوْلَـٰهُمُ ٱلْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} . وعلى قراءة حمزة والكسائي فالولاية بالكسر بمعنى الملك والسلطان، والآية على هذه القراءة كقوله: {لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ} وقوله {ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ} ، وقوله: {ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} . وعلى قراءة «الحق» بالجر نعتاً لله، فالآية كقوله {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّ}. وقوله {فَذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلْحَقُّ} ، وقوله: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ} إلى غير ذلك من الآيات. وعلى قراءة «الحق» بالرفع نعتاً للولاية، على أن الولاية بمعنى الملك، فهو كقوله: {ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}.
وما ذكره جل وعلا عن هذا الكافر: من أنه لم تكن له فئة ينصرونه من دون الله ـ ذكره نحوه عن غيره من الكفار، كقوله في قارون: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلاٌّرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ} ، وقوله: {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ} ، والآيات بمثل هذا كثيرة جداً. وقوله {هُنَالِكَ} قال بعض العلماء. هو متعلق بما بعده، والوقف تام على قوله {وَمَا كَانَ مُنْتَصِر} . وقال بعضهم: هو متعلق بما قبله، فعلى القول الأول فالظرف الذي هو «هنالك» عامله ما بعده، أي الولاية كائنة لله هنالك. وعلى الثاني فالعامل في الظرف اسم الفاعل الذي هو «منتصراً» أي لم يكن انتصاره واقعاً هنالك. وقوله: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابً} أي جزاء كما تقدم. وقوله «عقباً» أي عاقبة ومآلاً. وقرأه السبعة ما عدا عاصماً وحمزة «عقباً» بضمتين. وقراءة عاصم وحمزة «عقباً» بضم العين وسكون القاف والمعنى واحد. وقوله «ثواباً» وقوله «عقباً» كلاهما منصوب على التمييز بعد صيغة التفضيل التي هي «خير» كما قال في الخلاصة: والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلاً كأنت أعلى منزلا

ولفظة ـ خير وشر ـ كلتاهما تأتي صيغة تفضيل حذفت منها الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال، قال ابن مالك في الكافية. وغالباً أغناهم خير وشر عن قولهم أخير منه وأشر

تنبيه
قوله في هذه الآية الكريمة {فِئَةٌ} محذوف منه حرف بلا خلاف، إلا أن العلماء اختلفوا في الحرف المحذوف. هل هو ياء أو واو، وهل هو العين أو اللام؟ قال بعضهم: المحذوف العين، وأصله ياء. وأصل المادة ف ي أ، من فاء يفيء: إذا رجع، لأن فئة الرجل طائفته التي يرجع إليها في أموره، وعلى هذا فالتاء عوض عن العين المحذوفة، ووزنه بالميزان الصرفي «فلة» وقال بعضهم: المحذوف اللام. وأصله واو، من فأوت رأسه: إذا شققته نصفين. وعليه فالفئة الفرقة من الناس. وعلى هذا فوزنه بالميزان الصرفي «فعة» والتاء عوض عن اللام. وكلا القولين نصره بعض أهل العلم، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلْبَـٰقِيَاتُ ٱلصَّـٰلِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَل}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ـ أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، وأن الباقيات الصالحات خير عند الله ثواباً وخير أملاً.
والمراد من الآية الكريمة ـ تنبيه الناس للعمل الصالح. لئلا يشتغلوا بزينة الحياة الدنيا من المال والبنين عما ينفعهم في الآخرة عند الله من الأعمال الباقيات الصالحات. وهذا المعنى الذي أشار له هنا جاء مبيناً في آيات أخر. كقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَـٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَـٰمِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلْمَأَبِقُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاٌّنْهَارُ خَـٰالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ} ، وقوله: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ} ، وقوله: {إِنَّمَآ أَمْوَٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ، وقوله: {وَمَآ أَمْوَٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ بِٱلَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِح} ، وقوله: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَإِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الإنسان لا ينبغى له الاشتغال بزينة الحياة الدنيا عما ينفعه في آخرته. وأقوال العلماء في الباقيات الصالحات كلها راجعة إلى شيء واحد، وهو الأعمال التي ترضي الله، سواء قلنا: إنها الصلوات الخمس، كما هو مروي عن جماعة من السلف. منهم ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبو ميسرة، وعمرو بن شرحبيل. أو أنها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وعلى هذا القول جمهور العلماء، وجاءت دالة عليه أحاديث مرفوعة عن أبي سعيد الخدري، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، والنعمان بن بشير، وعائشة رضي الله عنهم.
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق أن «الباقيات الصالحات» لفظ عام، يشمل الصلوات الخمس، والكلمات الخمس المذكورة، وغير ذلك من الأعمال التي ترضي الله تعالى: لأنها باقية لصاحبها غير زائلة. ولا فانية كزينة الحياة الدنيا، ولأنها أيضاً صالحة لوقوعها على الوجه الذي يرضي الله تعالى. وقوله {خَيْرٌ ثَوَابً} تقدم معناه. وقوله {وَخَيْرٌ أَمَل} أي الذي يؤمل من عواقب الباقيات الصالحات، خير مما يؤمله أهل الدنيا من زينة حياتهم الدنيا وأصل الأمل: طمع الإنسان بحصول ما يرجوه في المستقبل. ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى في «مريم»: {وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَواْ هُدًى وَٱلْبَـِّقِيَـٰتُ ٱلصَّـٰلِحَـٰتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّ} والمرد:
المرجع إلى الله يوم القيامة. وقال بعض العلماء: «مرداً» مصدر ميمي، أي وخير رداً للثواب على فاعلها، فليست كأعمال الكفار التي لا ترد ثواباً على صاحبها.
قوله تعالى: {„ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلاٌّرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَـٰهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَد}.
قوله «ويوم» منصوب باذكر مقدراً. أو بفعل القول المحذوف قبل قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ} أي قلنا لهم يوم نسير الجبال: لقد جئتمونا فرادى. وقول من زعم أن العامل فيه «خير» يعني والباقيات الصالحات خير يوم نسير الجبال ـ بعيد جداً كما ترى.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن يوم القيامة يختل فيه نظام هذا العام الدنيوي، فتسير جباله، وتبقى أرضه بارزة لا حجر فيها ولا شجر، ولا بناء ولا وادي ولا علم ـ ذكره في مواضع أخر كثيرة، فذكر أنه يوم القيامة يحمل الأرض والجبال من أماكنهما، ويدكهما دكة واحدة، وذلك في قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَٰحِدَةٌوَحُمِلَتِ ٱلاٌّرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَٰحِدَةًفَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ} .
وما ذكره من تسيير الجبال في هذه الآية الكريمة ذكره أيضاً في مواضع أخر، كقوله: {يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراًوَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْر} ، وقوله: {وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاب} ، وقوله: {وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ} ، وقوله: {وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ} .
ثم ذكر في مواضع أخر ـ أنه جل وعلا َفتتها حتى تذهب صلابتها الحجرية وتلين، فتكون في عدم صلابتها ولينها كالعهن المنفوش، وكالرمل المتهايل، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ} ، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ ٱلنَّاسُ كَٱلْفَرَاشِ ٱلْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ} والعهن: الصوف. وقوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلاٌّرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيل} ، وقوله تعالى: {وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّ} أي فتتت حتى صارت كالبسيسة، وهي دقيق ملتوت بسمن، على أشهر التفسيرات.
ثم ذكر جل وعلا بـ أنه يجعلها هباء وسراباً. قال: {وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّ} ، وقال: {وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاب} .
وبين في موضع آخر ـ أن السراب عبارة عن لا شيء. وهو قوله {وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَـٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} ـ إلى قوله ـ {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئ} .
وقوله: {„ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ} قرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو «تسير الجبال» بالتاء المثناة الفوقية وفتح الياء المشددة من قوله «تسير» مبيناً للمفعول. و{ٱلْجِبَالُ} بالرفع نائب فاعل {تسير} والفاعل المحذوف ضمير يعود إلى الله جل وعلا. وقرأه باقي السبعة «نسير» بالنون وكسر الياء المشددة مبنياً للفاعل، و«الجبال» منصوب مفعول به، والنون في قوله «نسير» التعظيم.
وقوله في هذه الآية الكريمة:
{وَتَرَى ٱلاٌّرْضَ بَارِزَةً} البروز: الظهور. أي ترى الأرض ظاهرة منكشفة لذهاب الجبال والظراب والآكام، والشجر والعمارات التي كانت عليها. وهذا المعنى الذي ذكره هنا ـ بينه أيضاً في غير هذا الموضع. كقوله تعالى: {وَيَسْألُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْت} . وأقوال العلماء في معنى ذلك راجعة إلى شيء واحد، وهو أنها أرض مستوية لا نبات فيها، ولا بناء ولا ارتفاع ولا انحدار. وقول من قال: إن معنى {وَتَرَى ٱلاٌّرْضَ بَارِزَةً} أي بارزاً ما كان في بطنها من الأموات والكنوز ـ بعيد جداً كما ترى. وبروز ما في بطنها من الأموات والكنوز دلت عليه آيات أخر. كقوله تعالى: {وَإِذَا ٱلاٌّرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} ، وقوله تعالى: {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى ٱلْقُبُور ِوَحُصِّلَ مَا فِى ٱلصُّدُورِ} ، وقوله: {وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ أَثْقَالَهَ} ، وقوله: {وَإِذَا ٱلْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} .
وقوله في هذه الآية الكريمة: {بَارِزَةً وَحَشَرْنَـٰهُمْ} أي جمعناهم للحساب والجزاء. وهذا الجمع المعير عنه بالحشر هنا ـ جاء مذكوراً في آيات أخر، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ ٱلاٌّوَّلِينَ وَٱلاٌّخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَـٰتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} ، وقوله تعالى: {ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ} ، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ} ، وقوله تعالى: {ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} . وقوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيع} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وبين في مواضع آخر ـ أن هذا الحشر المذكور شامل للعقلاء وغيرهم من أجناس المخلوقات، وهو قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى ٱلاٌّرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـٰلُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} .
وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَد} أي لم نترك. والمغادرة: الترك. ومنه الغدر. لأنه ترك الوفاء والأمانة. وسمي الغدير من الماء غديراً، لأن السيل ذهب وتركه. ومن المغادرة بمعنى الترك قول عنترة في مطلع معلقته: هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم

وقوله أيضاً: غادرته متعفراً أوصاله والقوم بين مجرح ومجدل

وما ذكره في هذه الآية الكريمة ـ من أنه حشرهم ولم يترك منهم أحداً ـ جاء مبيناً في مواضع أخر، كقوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيع} ، ونحوها من الآيات، لأن حشرهم جميعاً هو معنى أنه لم يغادر منهم أحداً. قوله تعالى: {وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ـ أن الخلائق يوم القيامة يعرضون على ربهم صفاً، أي في حال كونهم مصطفين. قال بعض العلماء: صفاً بعد صف. وقال بعضهم: صفاً واحداً وقال بعض العلماء «صفاً» أي جميعاً، كقوله {ثُمَّ ٱئْتُواْ صَفّ} على القول فيه بذلك. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: وخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل ـ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع: يا عبادي، أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين. يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون. أحضروا حجتكم ويسروا جواباً فإنكم مسؤولون محاسبون. يا ملائكتي، أقيموا عبادي صفوفاً على أطراف أنامل أقدامهم للحساب». قلت: هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية. ولم يذكره كثير من المفسرين، وقد كتبناه في كتاب التذكرة ومنه نقلناه، والحمد لله. انتهى كلام القرطبي. والحديث المذكور يدل على أن «صفا» في هذه الآية يراد به صفوفاً. كقوله في الملائكة: {وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّ} . ونظير الآية قوله في الملائكة: {يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاب} .
فإذا علمت أن الله جل وعلا ذكر في هذه الآية الكريمة حالاً من أحوال عرض الخلائق عليه يوم القيامة ـ فاعلم أنه بين في مواضع أخر أشياء أخر من أحوال عرضهم عليه. كقوله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ} . وبين في مواضع أخر ما يلاقيه الكفار، وما يقال لهم عند ذلك العرض على ربهم. كقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ ٱلاٌّشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِٱلاٌّخِرَةِ هُمْ كَـٰفِرُونَ} .
وقوله في هذه الآية الكريمة {صَفَّ} أصله مصدر، والمصدر المنكر قد يكون حالاً على حد قوله في الخلاصة: ومصدر منكر حالاً يقع بكثرة كبغتة زيد طلع
قوله تعالى: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. هذا الكلام مقول قول محذوف. وحذف القول مطرد في اللغة العربية، كثير جداً في القرآن العظيم. والمعنى: يقال لهم يوم القيامة لقد جئتمونا، أي والله لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة، أي حفاة عراة غرلاً، أي غير مختونين، كل واحد منكم فرد لا مال معه ولا ولد، ولا خدم ولا حشم.
وقد أوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ، وقوله: {لَّقَدْ أَحْصَـٰهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَرْد} وقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَ} ، وقوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} تقدم.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ} «ما» مصدرية، والمصدر المنسبك منها ومن صلتها نعت لمصدر محذوف على حذف مضاف. وإيضاح تقريره: ولقد جئتمونا كما خلقناكم، أي مجيئاً مثل مجيء خلقكم، أي حفاة غراة غرلاً كما جاء في الحديث، وخالين من المال والولد. وهذا الإعراب هو مقتضى كلام أبي حيان في البحر. ويظهر لي أنه يجوز إعرابه أيضاً حالاً، أي جئتمونا في حال كونكم مشابهين لكم في حالتكم الأولى، لأن التشبيه يؤول بمعنى الوصف، كما أشار له في الخلاصة بقوله: ويكثر الجمود في سعر وفي مبدي تأول بلا تكلف
كبعه مدا بكذا يداً بيد وكر زيد أسداً أي كأسد

فقوله «وكر زيد أسداً أي كأسد» مثال لمبدي التأول، لأنه في تأويل كر في حال كونه مشابهاً للأسد كما ذكرنا ـ واعلم أن حذف القول وإثبات مقوله مطرد في اللغة العربية، وكثير في القرآن العظيم كما ذكرناه آنفاً. لكن عكسه وهو إثبات القول وحذف مقوله قليل جداً، ومنه قول الشاعر: لنحن الألى قلتم فأني ملئتم برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا

لأن المراد لنحن الألى قلتم نقاتلهم، فحذف جملة نقاتلهم التي هي مقول القول. وقوله {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَ} عبر فيه بالماضي وأراد المستقبل، لأن تحقيق وقوع ذلك ينزله منزلة الواقع بالفعل. والتعبير بصيغة الماضي عن المستقبل لما ذكرنا كثير جداً في القرآن العظيم، ومنه قوله هنا: {وَحَشَرْنَـٰهُمْ} ، وقوله: {وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ} ، وقوله: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَ}. ومنه قوله: {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ} ، وقوله: {وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ} ، وقوله: {وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤ} وقوله: {وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ} ونحو ذلك كثير في القرآن لما ذكرنا. قوله تعالى: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدً}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ـ أن الكفار زعموا أن الله لن يجعل لهم موعداً. والموعد يشمل زمان الوعد ومكانه. والمعنى: أنهم زعموا أن الله لم يجعل وقتاً ولا مكاناً لإنجاز ما وعدهم على ألسنة رسله من البعث والجزاء والحساب.. وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من إنكارهم البعث ـ جاء مبيناً في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُو} . وقوله عنهم: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} ، {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} ونحو ذلك من الآيات.
وقد بين الله تعالى كذبهم في إنكارهم للبعث في آيات كثيرة. كقوله في هذه السورة الكريمة: {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِل} ، وقوله {قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} ، وقوله: {وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَىٰ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّ} ، وقوله: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَـٰعِلِينَ} والآيات بمثل هذا كثيرة جداً.
وقد قدمنا في سورة «البقرة» وسورة «النحل» ـ البراهين التي يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {بَلْ زَعَمْتُمْ} إضراب انتقالي من خبر إلى خبر آخر، لا إبطالي كما هو واضح. وأن في قوله {أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ}. مخففة من الثقيلة، وجملة الفعل الذي بعدها خبرها، والاسم ضمير الشأن المحذوف. على حد قوله في الخلاصة: وإن تخفف أن.. البيت والفعل المذكور متصرف وليس بدعاء، ففصل بينه وبينها بالنفي. على حد قوله في الخلاصة: وإن يكن فعلاً ولم يكن دعا.. البيتين. قوله تعالى: {وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكتاب يوضع يوم القيامة. والمراد بالكتاب: جنس الكتاب. فيشمل جميع الصحف التي كتبت فيها أعمال المكلفين في دار الدنيا. وأن المجرمين يشفقون مما فيه. أي يخافون منه، وأنهم يقولون {يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لاَ يُغَادِرُ}. أي لا يترك {صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} من المعاصي التي عملنا {إِلاَّ أَحْصَاهَ} أي ضبطها وحصرها.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في مواضع أخر. كقوله: {وَكُلَّ إِنْسَـٰنٍ أَلْزَمْنَـٰهُ طَـٰئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ كِتَابًا يَلْقَـٰهُ مَنْشُوراًٱقْرَأْ كَتَـٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبً} . وبين أن بعضهم يؤتى كتابه بيمينه. وبعضهم يؤتاه بشماله. وبعضهم يؤتاه وراء ظهره. قال: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـٰبِيَهْ} ، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيرا ًوَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَىٰ سَعِير} وقد قدمنا هذا في سورة «بني إسرائيل». وما ذكره من وضع الكتاب هنا ذكره في «الزمر» في قوله: {وَأَشْرَقَتِ ٱلاٌّرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ وَجِـىءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ} .
وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ} تقدم معنى مثله في الكلام على قوله: {وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت} . والمجرمون: جمع المجرم، وهو اسم فاعل الإجرام. والإجرام: ارتكاب الجريمة، وهي الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه عليه النكال. ومعنى كونهم «مشفقين مما فيه»: أنهم خائفون مما في ذلك الكتاب من كشف أعمالهم السيئة، وفضيحتهم على رؤوس الأشهاد، وما يترتب على ذلك من العذاب السرمدي. وقولهم {يٰوَيْلَتَنَ} الويلة: الهلكة، وقد نادوا هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات فقالوا: يا ويلتناٰ أي يا هلكتنا احضري فهذا أوان حضوركٰ وقال أبو حيان في البحر: المراد من بحضرتهم: كأنهم قالوا: : يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا. وكذا ما جاء من نداء ما لا يعقل كقوله {يٰأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ} ، {يٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ٱللَّهِ} ، {يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَ} ، وقوله: يا عجباً لهذه الفليقة، فيا عجباً من رحلها المتحمل، إنما يراد به تنبيه من يعقل بالتعجب مما حل بالمنادى انتهى كلام أبي حيان. وحاصل ما ذكره: أن أداة النداء في قوله «يا ويلتنا» ينادى بها محذوف، وأن ما بعدها مفعول فعل محذوف، والتقدير كما ذكره: يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا. ومعلوم أن حذف المنادى مع إثبات أداة النداء، ودلالة القرينة على المنادى المحذوف مسموع في كلام العرب. ومنه قول عنترة في معلقته: يا شاة ما قنص لمن حلت له حرمت على وليتها لم تحرم

يعني: يا قوم انظروا شاة قنص. وقول ذي الرمة: ألا يا اسلمي يا دارمي على البلا ولا زال منهلا بجر عائك القطر

يعني: يا هذه اسلمي. وقوله تعالى: {مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ} أي أي شيء ثبت لهذا الكتاب {لاَ يُغَادِرُ} أي لا يترك {صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} أي من المعاصي. وقول من قال: الصغيرة القبلة، والكبيرة الزنى، ونحو ذلك من الأقوال في الآية ـ إنما هو على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر. وللعلماء اختلاف كثير في تعريف الكبيرة معروف في الأصول. وقد صرح تعالى بأن المنهيات منها كبائر. ويفهم من ذلك أن منها صغائر. وبين أن اجتناب الكبائر يكفر الله به الصغائر. وذلك في قوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ} . ويروى عن الفضيل بن عياض في هذه الآية أنه قال: ضجوا من الصغائر قبل الكبائر. وجملة «لا يغادر» حال من «الكتاب».
تنبيه
هذه الآية الكريمة يفهم منها ـ أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. لأنهم وجدوا في كتاب أعمالهم صغائر ذنوبهم محصاة عليهم، فلو كانوا غير مخاطبين بها لما سجلت عليهم في كتاب أعمالهم. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرً}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ـ أنهم في يوم القيامة يجدون أعمالهم التي عملوها في الدنيا حاضرة محصاة عليهم. وأوضح هذا أيضاً في غير هذا الموضع، كقوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدً} ، وقوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} ، وقوله: {يُنَبَّأُ ٱلإِنسَـٰنُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} ، وقوله: {يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ} إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ـ أنه لا يظلم أحداً، فلا ينقص من حسنات محسن، ولا يزيد من سيئات مسيء، ولا يعاقب على غير ذنب.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئًا وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، وقوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيم} ، وقوله تعالى: {وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَـٰسِبِينَ} ، وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ} وقوله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَـٰهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} والآيات بمثل ذلك كثيرة. قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}. قدمنا في سورة «البقرة» أن قوله تعالى: {ٱسْجُدُواْ لاًّدَمَ} محتمل لأن يكون أمرهم بذلك قبل وجود آدم أمراً معلقاً على وجوده. ومحتمل لأنه أمرهم بذلك تنجيزاً بعد وجود آدم. وأنه جل وعلا بين في سورة «الحجر» وسورة «ص» أن أصل الأمر بالسجود متقدم على خلق آدم معلق عليه. قال في «الحجر» وسورة «الحجر»: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنِّى خَـٰلِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَـٰلٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍفَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـٰجِدِينَ} وقال في «ص»: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنِّى خَـٰلِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍفَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـٰجِدِينَ} ولا ينافي هذا أنه بعد وجود آدم جدَّدَ لهم الأمر بالسجود له تنجيزاً.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَسَجَدُو} محتمل لأن يكونوا سجدوا كلهم أو بعضهم، ولكنه بين في مواضع أخر أنهم سجدوا كلهم، كقوله: {فَسَجَدَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} ونحوها من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة، {كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ظاهر في أن سبب فسقه عن أمر ربه كونه من الجن. وقد تقرر في الأصول في «مسلك النص» وفي «مسلك الإيماء والتنبيه»: أن الفاء من الحروف الدالة على التعليل، كقولهم: سرق فقطعت يده، أي لأجل سرقته. وسها فسجد، أي لأجل سهوه، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَ} أي لعلة سرقتهما. وكذلك قوله هنا {كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ} أي لعلة كينونته من الجن، لأن هذا الوصف فرق بينه وبين الملائكة، لأنهم امتثلوا الأمر وعصا هو. ولأجل ظاهر هذه الآية الكريمة ذهبت جماعة من العلماء إلى أن إبليس ليس من الملائكة في الأصل بل من الجن، وأنه كان يتعبد معهم، فأطلق عليهم اسمهم لأنه تبع لهم، كالحليف في القبيلة يطلق عليه اسمها. والخلاف في إبليس هل هو ملك في الأصل وقد مسخه الله شيطاناً، أو ليس في الأصل بملك، وإنما شمله لفظ الملائكة لدخوله فيهم وتعبده معهم ـ مشهور عند أهل العلم. وحجة من قال: إن أصله ليس من الملائكة أمران: أحدهما ـ عصية الملائكة من ارتكاب الكفر الذي ارتكبه إبليس. كما قال تعالى عنهم: {لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ، وقال تعالى: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} . والثاني ـ: أن الله صرح في هذه الآية الكريمة بأنه من الجن، والجن غير الملائكة. قالوا: وهو نص قرآني في محل النزاع. واحتج من قال: إنه ملك في الأصل بما تكرر في الآيات القرآنية من قوله: {فَسَجَدَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون َإِلاَّ إِبْلِيسَ} قالوا:
فإخراجه بالاستثناء من لفظ الملائكة دليل على أنه منهم. وقال بعضهم: والظواهر إذا كثرت صارت بمنزلة النص. ومن المعلوم أن الأصل في الاستثناء الاتصال لا الانقطاع. قالوا: ولا حجة لمن خالفنا في قوله تعالى {كَانَ مِنَ ٱلْجِنّ} لأن الجن قبيلة من الملائكة، خلقوا من بين الملائكة من نار السموم كما روي عن ابن عباس. والعرب تعرف في لغتها إطلاق الجن على الملائكة. ومنه قول الأعشى في سليمان بن داود: وسخر من جن الملائك تسعة قياماً لديه يعملون بلا أجر

قالوا: ومن إطلاق الجن على الملائكة قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَب} عند من يقول: بأن المراد بذلك قولهم: الملائكة بنات الله. سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله علواً كبيراً! وممن جزم بأنه ليس من الملائكة في الأصل لظاهر هذه الآية الكريمة: الحسن البصري، وقصره الزمخشري في تفسيره. وقال القرطبي في تفسير سورة «البقرة»: إن كونه من الملائكة هو قول الجمهور: ابن عباس، وابن مسعود، وابن جريج، وابن المسيب، وقتادة وغيرهم. وهو اختيار الشيخ أبي الحسن، ورجحه الطبري، وهو ظاهر قوله «إلا إبليس» اهـ وما يذكره المفسرون عن جماعة من السلف كابن عباس وغيره: من أنه كان من أشراف الملائكة، ومن خزان الجنة، وأنه كان يدبر أمر السماء الدنيا، وأنه كان اسمه عزازيل ـ كله من الإسرائيليات التي لا معول عليها.
وأظهر الحجج في المسألة ـ حجة من قال: إنه غير ملك. لأن قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ} ، وهو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحي. والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي خرج عن طاعة أمر ربه. والفسق في اللغة: الخروج. ومنه قول رؤبة بن العجاج: يهوين في نجد وغوراً غائرا فواسقاً عن قصدها جوائرا

وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه. فلا حاجة لقول من قال: إن «عن» سببية، كقوله: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِىۤ ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} أي بسببه وأن المعنى: ففسق عن أمر ربه، أي بسبب أمره حيث لم يمتثله، ولا غير ذلك من الأقوال.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّـٰلِمِينَ بَدَل} الهمزة فيه للإنكار والتوبيخ، ولا شك أن فيها معنى الاستبعاد كما تقدم نظيره مراراً. أي أبعد ما ظهر منه من الفسق والعصيان، وشدة العداوة لكم ولأبويكم آدم وحواء ـ تتخذونه وذريته أولياء من دون خالقكم جل وعلاٰ بئس للظالمين بدلاً من الله إبليس وذريتهٰ وقال {لّلظَّـٰلِمِينَ} لأنهم اعتاضوا الباطل من الحق، وجعلوا مكان ولايتهم لله ولايتهم لإبليس وذريته. وهذا من أشنع الظلم الذي هو في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه. كما تقدم مراراً. والمخصوص بالذم في الآية محذوف دل عليه المقام، وتقديره: بئس البدل من الله إبليس وذريته. وفاعل «بئس» ضمير محذوف يفسره التمييز الذي هو «بدلاً» على حد قوله له في الخلاصة: ويرفعان مضمراً يفسره مميز كنعم قوماً معشره

والبدل: العوض من الشيء، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من عداوة الشيطان لبني آدم جاء مبيناً في آيات أخر.
كقوله: {إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّ} . وكذلك الأبوان، كما قال تعالى: {فَقُلْنَا يٰأادَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ} .
وقد بين في غير هذا الموضع: أن الذين اتخذوا الشياطين أولياء بدلاً من ولاية الله يحسبون أنهم في ذلك على حق. كقوله تعالى: {إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَـٰطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} . وبين في مواضع أخر أن الكفار أولياء الشيطان. كقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱلطَّـٰغُوتِ فَقَـٰتِلُوۤاْ أَوْلِيَاءَ ٱلشَّيْطَـٰنِ} ، وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَـٰطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} ، وقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ} ، وقوله: {إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَذُرّيَّتَهُ} دليل على أن للشيطان ذرية. فادعاء أنه لا ذرية له مناقض لهذه الآية مناقضة صريحة كما ترى. وكل ما ناقض صريح القرآن فهو باطل بلا شكٰ ولكن طريقة وجود نسله هل هي عن تزويج أو غيره. لا دليل عليها من نص صريح، والعلماء مختلفون فيها. وقال الشعبي: سألني الرجل: هل لإبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك عرس لم أشهدهٰ ثم ذكرت قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى} فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة فقلت: نعم. وما فهمه الشعبي من هذه الآية من أن الذرية تستلزم الزوجة روي مثله عن قتادة. وقال مجاهد: إن كيفية وجود النسل منه أنه أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات: قال: فهذا أصل ذريته. وقال بعض أهل العلم: إن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكراً، وفي اليسرى فرجاً، فهو ينكح هذا بهذا فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطاناً وشيطانة. ولا يخفى أن هذه الأقوال ونحوها لا معول عليها لعدم اعتضادها بدليل من كتاب أو سنة. فقد دلت الآية الكريمة على أن له ذرية. أما كيفية ولادة تلك الذرية فلم يثبت فيه نقل صحيح، ومثله لا يعرف بالرأي. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: قلت: الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميري في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني: أنه خرج في كتابه مسنداً عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ، من رواية عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فيها باض الشيطان وفرخ» وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الحديث إنما يدل على أنه يبيض ويفرخ، ولكن لا دلالة فيه على ذلك. هل هي من أنثى هي زوجة له، أو من غير ذلك. مع أن دلالة الحديث على ما ذكرنا لا تخلو من احتمال. لأنه يكثر في كلام العرب إطلاق باض وفرخ على سبيل المثل. فيحتمل معنى باض وفرخ على سبيل المثل؛ فيحتمل معنى باض وفرخ أنه فعل بها ما شاء من إضلال وإغواء ووسوسة ونحو ذلك على سبيل المثل، لأن الأمثال لا تغير ألفاظها. وما يذكره كثير من المفسرين وغيرهم من تعيين أسماء أولاده ووظائفهم التي قلدهم إياها؛ كقوله: زلنبور صاحب الأسواق. وتبر صاحب المصائب يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب ونحو ذلك.
والأعور صاحب أبواب الزنى. ومسوط صاحب الأخبار يلقها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلاً. وداسم هو الشيطان الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره ما لم يرفع من المتاع وما لم يحسن موضعه يثير شره على أهله. وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. والولهان صاحب المزامير وبه كان يكنى إبليس، إلى غير ذلك من تعيين أسمائهم ووظائفهم ـ كله لا معلو عليه؛ إلا ما ثبت منه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. ومما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من تعيين وظيفة الشيطان واسمه ما رواه مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن خلف الباهلي، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد الجريري عن أبي العلاء: أن عثمان بن أبي العاص أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليٰ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذاك شيطان يقال له خنرب. فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثاً» قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني.
وتحريش الشيطان بين الناس وكون إبليس يضع عرشه على البحر، ويبعث سرايا فيفتنون الناس فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة ـ كل ذلك معروف ثابت في الصحيح. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُد} . التحقيق في معنى هذه الآية الكريمة ـ أن الله يقول: ما أشهدت إبليس وجنوده؛ أي ما أحضرتهم خلق السموات والأرض، فأستعين بهم على خلقها ولا خلق أنفسهم، أي ولا أشهدتهم خلق أنفسهم، أي ما أشهدت بعضهم خلق بعضهم فأستعين به على خلقه، بل تفردت بخلق جميع ذلك يغير معين ولا ظهيرٰ فكيف تصرفون لهم حقي وتتخذونهم أولياء من دوني وأنا خالق كل شيءٰ؟
وهذا المعنى الذي أشارت له الآية من أن الخالق هو المعبود وحده ـ جاء مبيناً في آيات كثيرة، وقد قدمنا كثيراً منها في مواضع متعددة، كقوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، وقوله: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلِّ
شَىْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّـٰرُ
} ، وقوله: {هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ} ، وقوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلاٌّرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ} ، وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلاٌّرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ} ، إلى غير ذلك من الآيات كما قدمناه مراراً. وقال بعض العلماء {وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} أي: ما أشهدتهم خلق أنفسهم؛ بل خلقتهم على ما أردت وكيف شئت. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُد} فيه الإظهار في محل الإضمار، لأن الأصل الظاهر. وما كنت متخذهم عضداً، كقوله: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ} والنكتة البلاغية في الإظهار في محل الإضمار هي ذمه تعالى لهم بلفظ الإضلال. وقوله «عَضُداً» أي أعواناً.
وفي هذه الآية الكريمة ـ التنبيه على أن الضالين المضلين لا تنبغي الاستعانة بهم، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
والمعنى المذكور أشير له في مواضع أخر؛ كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} والظهير: المعين. والمضلون: الذين يضلون أتباعهم عن طريق الحق. وقد قدمنا معنى الضلال وإطلاقاته في القرآن بشواهده العربية.

وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِىَ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً * وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا

سيتم شرحها في الصفحه التي بعدها ان شاء الله