تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 301 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 301


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى ٱلْبَحْرِ سَرَباً * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَـٰهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ فَإِنِّى نَسِيتُ ٱلْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى ٱلْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِىۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً * قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * فَٱنْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِى ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً * فَٱنْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً * قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْر}
قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى وفتاه نصبا حوتهما لما بلغ مجمع البحرين، ولكنه تعالى أوضح أن النسيان واقع من فتى موسى، لأنه هو الذي كان تحت يده الحوت، وهو الذي نسيه. وإنما أسند النسيان إليهما، لأن إطلاق المجموع مراداً بعضه ـ أسلوب عربي كثير في القرآن وفي كلام العرب. وقد أوضحنا أن من أظهر أدلته قراءة حمزة والكسائي {فَإِن قَـٰتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ} من القتل في الفعلين لا من القتال، أي فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر. والدليل على أن النسيان إنما وقع من فتى موسى دون موسى قوله تعالى عنهما: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَـٰهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ فَإِنِّى نَسِيتُ ٱلْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَنْ أَذْكُرَهُ} ، لأن قول موسى: «آتنا غداءنا» يعني به الحوت ـ فهو يظن أن فتاه لم ينسه، كما قاله غير واحد. وقد صرح فتاه: بأنه نسيه بقوله: {فَإِنِّى نَسِيتُ ٱلْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَـٰنُ}.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَـٰنُ} دليل على أن النسيان من الشيطان كما دلت عليه آيات أخر. كقوله تعالى: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَـٰنُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} وقوله تعالى:
{ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ فَأَنسَـٰهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ} .
وفتى موسى هو يوشع بن نون. والضمير في قوله تعالى: {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَ} عائد إلى «البحرين» المذكورين في قوله تعالى: {لاۤ أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ} . والمجمع: اسم مكان على القياس، أي مكان اجتماعهما.
والعلماء مختلفون في تعيين «البحرين» المذكورين. فذهب أكثرهم إلى أنهما بحر فارس مما يلي المشرق، وبحر الروم مما يلي المغرب. وقال محمد بن كعب القرطي: «مجمع البحرين» عند طنجة في أقصى بلاد المغرب وروى ابن أبي حاتم من طريق السدى قال: هما الكر والرأس حيث يصبان في البحر. وقال ابن عطية: «مجمع البحرين» ذراع في أرض فارس من جهة أذربيجان، يخرج من البحر المحيط من شماله إلى جنوبه، وطرفيه مما يلي بر الشام. وقيل: هما بحر الأردن والقلزم. وعن ابن المبارك قال: قال بعضهم بحر أرمينية. وعن أبي بن كعب قال: بإفريقية. إلى غير ذلك من الأقوال. ومعلوم أن تعيين «البحرين» من النوع الذي قدمنا أنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، وليس في معرفته فائدة، فالبحث عنه تعب لا طائل تحته، وليس عليه دليل يجب الرجوع إليه. وزعم بعض الملاحدة الكفرة المعاصرين: أن موسى لم يسافر إلى مجمع بحرين، بدعوى أنه لم يعرف ذلك في تاريخه ـ زعم في غاية الكذب والبطلان. ويكفي في القطع بذلك أنه مناقض لقوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَ}. مع التصريح بأنه سفر فيه مشقة وتعب، وذلك لا يكون إلا في بعيد السفر، ولذا قال تعالى عن موسى: {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَب} . ومعلوم أن ما ناقض القرآن فهو باطل، لأن نقيض الحق باطل بإجماع العقلاء لاستحالة صدق النقيضين معاً.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَـٰنُ} قرأه عامة القراء ما عدا حفصاً «أنسانيه» بكسر الهاء. وقرأه حفص عن عاصم «أنسانيه» بضم الهاء. قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمً}. هذا العبد المذكور في هذه الآية الكريمة هو الخضر عليه السلام بإجماع العلماء، ودلالة النصوص الصحيحة على ذلك من كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الرحمة والعلم اللدني اللذان ذكر الله امتنانه عليه بهما ـ لم يبين هنا هل هما رحمة النبوة وعلمها، أو رحمة الولاية وعلمها. والعلماء مختلفون في الخضر: هل هو نبي، أو رسول، أو ولي. كما قال الراجز: واختلفت في خضر أهل العقول قيل نبي أو ولي أو رسول

وقيل ملك. ولكنه يفهم من بعض الآيات أن هذه الرحمة المذكورة هنا رحمة نبوة. وأن هذا العلم اللدني علم وحي، مع العلم بأن في الاستدلال بها على ذلك مناقشات معروفة عند العلماء.
اعلم أولاً ـ أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن. وكذلك العلم المؤتى من الله تكرر إطلاقه فيه على علم الوحي. فمن إطلاق الرحمة على النبوة قوله تعالى في «الزخرف»: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} . أي نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين. وقوله تعالى في سورة «الدخان»: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} {أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِين َرَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} ، وقوله تعالى في آخر «القصص»: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوۤ أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} . ومن إطلاق إيتاء العلم على النبوة قوله تعالى: {وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيم} ، وقوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} ، إلى غير ذلك من الآيات. ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها. والاستدلال بالأعم على الأخص فيه أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف. ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى عنه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى} أي وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا. وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي، إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا. ولا سيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها. لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى. وقد حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلْوَحْىِ} و«إنما» صيغة حصر. فإن قيل: قد يكون ذلك عن طريق الإلهام؟ فالجواب ـ أن المقرر في الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء، لعدم العصمة، وعدم الدليل على الاستدلال به. بل لوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به، وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره، وما يزعمه بعض الجبرية أيضاً من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره جاعلين الإلهام كالوحي المسموع مستدلين بظاهر قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ} ، وبخبر «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» كله باطل لا يعول عليه، لعدم اعتضاده بدليل. وغير المعصوم لا ثقة بخواطره، لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان. وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات. والإلهام في الاصطلاح: إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بوحي ولا نظر في حجة عقلية، يختص الله به من يشاء من خلقه. أما ما يلهمه الأنبياء مما يلقيه الله في قلوبهم فليس كالإلهام غيرهم، لأنهم معصومون بخلاف غيرهم. قال في مراقي السعود في كتاب الاستدلال: وينبذ الإلهام بالعراء أعني به إلهام الأولياء
وقد رآه بعض من تصوفا وعصمة النَّبي توجب اقتفا

وبالجملة، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه، وما يتقرب إليه به من فعل وترك ـ إلا عن طريق الوحي. فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل، وما جاؤوا به ولو في مسألة واحدة ـ فلا شك في زندقته. والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُول} ولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاماً. وقال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ} . وقال: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـٰهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَـٰتِكَ} .
والآيات والأحاديث بمثل هذا كثيرة جداً. وقد بينا طرفاً من ذلك في سورة «بني إسرائيل» في الكلام على قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُول} . وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى ـ زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره.
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره ما نصه: قال شيخنا الإمام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق لا تلزم منه هذه الأحكام الشرعية فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة. وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص. بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم. ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وقد جاء فيما ينقلون «استفت قلبك وإن أفتاك المفتون». قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول زندقة وكفر، يقتل قائله ولا يستتاب. لأنه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عنه رسالتهم وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى: {ٱللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ، وقال تعالى: {ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقال تعالى: {كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} ، إلى غير ذلك من الآيات. وعلى الجملة، فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري، واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل. فمن قال إن هناك طريقاً أخرى يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل حيث يستغني عن الرسل ـ فهو كافر يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال وجواب. ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم. الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول.
وبيان ذلك ـ أن من قال: يأخذ عن قلبه. وأن ما يقع فيه حكم الله تعالى، وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه ولا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة ـ فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة. فإن هذا نحو ما قاله صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث في روعي..» الحديث. انتهى من تفسير القرطبي.
وما ذكره في كلام شيخه المذكور من أن الزنديق لا يستتاب هو مذهب مالك ومن وافقه، وقد بينا أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم، وما يرجحه الدليل في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة «آل عمران». وما يستدل به بعض الجهلة ممن يدعي التصوف على اعتبار الإلهام من ظواهر بعض النصوص كحديث «استفت قلبك وأن أفتاك الناس وأفتوك» ـ لا دليل فيه البتة على اعتبار الإلهام: لأنه لم يقل أحد ممن يعتد به أن المفتي الذي تتلقى الأحكام الشرعية من قبله القلب، بل من الحديث: التحذير من الشبه، لأن الحرام بين والحلال بين، وبينهما أمور مشتبهة لا يعلمها كل الناس.
فقد يفتيك المفتي بحلية شيء وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حراماً، وذلك باستناد إلى الشرع، فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة، والحديث، كقوله «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وقوله صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس» رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، وحديث وابصة بن معبد رضي الله عنه المشار إليه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «جئت تسأل عن البر»؟ قلت نعم: قال: «استفت قلبك. البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأنت إليه القلب. والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك» قال النووي في (رياض الصالحين): حديث حسن، رواه أحمد والدارمي في مسنديهما. ولا شك أن المراد بهذا الحديث ونحوه ـ الحث على الورع وترك الشبهات، فلو التبست مثلاً ميتة بمذكاة، أو امرأة محرم بأجنبية، وأفتاك بعض المفتين بحلية إحداهما لاحتمال أن تكون هي المذكاة في الأول، والأجنبية في الثاني. فإنك إذا استفتيت قلبك علمت أنه يحتمل أن تكون هي الميتة أو الأخت، وأن ترك الحرام والاستبراء للدين والعرض ـ لا يتحقق إلا بتجنب الجميع، لأن ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فتركه واجب. فهذا يحيك في النفس ولا تنشرح له، لاحتمال الوقوع في الحرام فيه كما ترى. وكل ذلك مستند لنصوص الشرح لا للالهام.
ومما يدل على ما ذكرنا من كلام أهل الصوفية المشهود لهم بالخير والدين والصلاح ـ قول الشيخ أبي القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الخزاز القواريري رحمه الله: (مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة)، نقله عنه غير واحد ممن ترجمه رحمه الله، كابن كثير وابن خلكان وغيرهما. ولا شك أن كلامه المذكور هو الحق، فلا أمر ولا نهي إلا على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام. وبهذا كله تعلم ـ أن قتل الخضر للغلام، وخرقه للسفينة، وقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى} دليل ظاهر على نبوته. وعز الفخر الرازي في تفسيره القول بنبوته للأكثرين، ومما يستأنس به للقول بنبوته تواضع موسى عليه الصلاة والسلام له في قوله: {قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْد} ، وقوله: {قَالَ سَتَجِدُنِىۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْر} مع قول الخضر له {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْر} .
مسألة
اعلم أن العلماء اختلفوا في الخضر: هل هو حي إلى الآن، أو هو غير حي، بل ممن مات فيما مضى من الزمان؟ فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه حي، وأنه شرب من عين تسمى عين الحياة. وممن نصر القول بحياته القرطبي في تفسيره، والنووي في شرح مسلم وغيره، وابن الصلاك، والنقاش وغيرهم. قال ابن عطية: وأطنب النقاش له هذا المعنى، يعني حياة الخضر وبقاءه إلى يوم القيامة. وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب، وكلها لا تقوم على ساق ـ انتهى بواسطة نقل القرطبي في تفسيره.
وحكايات الصالحين عن الخضر أكثر من أن تحصر. ودعواهم أنه يحج هو وإلياس كل سنة، ويروون عنهما بعض الأدعية. كل ذلك معروف. ومستند القائلين بذلك ضعيف جداً. لأن غالبه حكايات عن بعض من يظن به الصلاح. ومنامات وأحاديث مرفوعة عن أنس وغيره، وكلها ضعيف لا تقوم به حجة.
ومن أقواه عند القائلين به ـ آثار التعزية حين توفي النَّبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر ابن عبد البر في تميهده عن علي رضي الله عنه قال: لما توفي النَّبي صلى الله عليه وسلم وسجى بثوب هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. السلام عليكم أهل البيت {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ} . إن في الله خلفاً من كل هالك، وعوضاً من كل تالف، وعزاء من كل مصيبة ـ فبالله فتقوا، وإياه فارجو. فإن المصاب من حرم الثواب. فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام. يعني أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم. انتهى بواسطة نقل القرطبي في تفسيره.
قال مقيده عفا الله عنه: والاستدلال على حياة الخضر بآثار التعزية كهذا الأثر الذي ذكرنا آنفاً ـ مردود من وجهين:
الأول ـ أنه لم يثبت ذلك بسند صحيح. قال ابن كثير في تفسيره: وحكى النووي وغيره في بقاء الخضر إلى الآن، ثم إلى يوم القيامة قولين، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه. وذكروا في ذلك حكايات عن السلف وغيرهم. وجاء ذكره في بعض الأحاديث، ولا يصح شيء من ذلك. وأشهرها حديث التعزية وإسناده ضعيف ا هـ. منه.
الثاني ـ أنه على فرض أن حديث التعزية صحيح لا يلزم من ذلك عقلاً ولا شرعاً ولا عرفاناً أن يكون ذلك المعزي هو الخضر. بل يجوز أن يكون غير الخضر من مؤمني الجن. لأن الجن هم الذين قال الله فيهم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} . ودعوى أن ذلك المعزي هو الخضر تحكم بل دليل. وقولهم: كانوا يرون أنه الخضر ليس حجة يجب الرجوع إليها. لاحتمال أن يخطئوا في ظنهم، ولا يدل ذلك على إجماع شرعي معصوم، ولا متمسك لهم في دعواهم أنه الخضر كما ترى.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي رجحانه بالدليل في هذه المسألة أن الخضر ليس بحي بل توفي، وذلك لعدة أدلة:
الأول ـ ظاهر عموم قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَـٰلِدُونَ} ، فقوله «لبشر» نكرة في سياق النفي فهي تعم كل بشر ـ فيلزم من ذلك نفي الخلد عن كل بشر من قبله. والخضر بشر من قبله. فلو كان شرب من عين الحياة وصار حياً خالداً إلى يوم القيامة لكان الله قد جعل لذلك البشر الذي هو الخضر من قبله الخلد.
الثاني ـ قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» فقد قال مسلم في صحيحه: حدثنا هناد بن السري، حدثنا ابن المبارك عن عكرمة بن عمار، حدثني سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر ـ (ح) وحدثنا زهير بن حرب واللفظ له، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني أبو زميل هو زميل الحنفي، حدثني عبد الله بن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً. فاستقبل النَّبي صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ} فأمده الله بالملائكة.. الحديث. ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تعبد في الأرض» فعل في سياق النفي فهو بمعنى: لا تقع عبادة لك في الأرض، لأن الفعل ينحل عن مصدر وزمن عند النحويين. وعن مصدر ونسبة وزمن عند كثير من البلاغيين.
فالمصدر كامن في مفهومه إجماعاً، فيتسلط عليه النفي فيؤول إلى النكرة في سياق النفي، وهي من صيغ العموم كما تقدم إيضاحه في سورة «بني إسرائيل» وإلى كون الفعل في سياق النفي والشرط من صيغ العموم أشار في مراقي السعود بقوله عاطفاً على ما يفيد العموم: ونحو لا شربت أو إن شربا واتفقوا إن مصدر قد جلبا

فإذا علمت أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» أي لا تقع عبادة لك في الأرض.
فاعلم أن ذلك النفي يشمل بعمومه وجود الخضر حياً في الأرض، لأنه على تقدير وجوده حياً في الأرض فإن الله يعبد في الأرض، ولو على فرض هلاك تلك العصابة من أهل الإسلام. لأن الخضر ما دام حياً فهو يعبد الله في الأرض. وقال البخاري في صحيحه: حدثني محمد بن عبد الله بن حوشب حدثنا عبد الوهاب، حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «اللهم أنشدك عهدك ووعدك. اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض» فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبكٰ فخرج وهو يقول: «سيهزم الجمع ويولون الدبر». فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض» أي إن شئت إهلاك هذه الطائفة من أهل الإسلام لم تعبد في الأرض. فيرجع معناه إلى الرواية التي ذكرنا عن مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد بينا وجه الاستدلال بالحديث عن وفاة الخضر.
الثالث ـ إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه على رأس مائة سنة من الليلة التي تكلم فيها بالحديث لم يبق على وجه الأرض أحد ممن هو عليها تلك الليلة، فلو كان الخضر حياً في الأرض لما تأخر بعد المائة المذكورة. قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن رافع. وعبد بن حميد، قال محمد بن رافع: حدثنا، وقال عبد: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، أخبرني سالم بن عبد الله وأبو بكر بن سليمان: أن عبد الله بن عمر قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته. فلما سلم قام فقال: «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة. وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد»، يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الداري، أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب، ورواه الليث عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، كلاهما عن الزهري بإسناد معمر كمثل حديثه، حدثني هارون بن عبد الله، وحجاج بن الشاعر قالا: حدثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر: «تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله. وأقسم الله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة» حدثنيه محمد بن حاتم، حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج بهذا الإسناد ولم يذكر «قبل موته بشهر».
حدثني يحيى بن حبيب، ومحمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن المعتمر قال ابن حبيب، حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي حدثنا أبو نضرة عن جابر بن عبد الله عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك قبل موته بشهر أو نحو ذلك: «ما من نفس منفوسة اليوم تأتي مائة سنة وهي حية يومئذ» وعن عبد الرحمن صاحب السقاية، عن جابر بن عبد الله عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك. وفسرها عبد الرحمن قال: نقص العمر. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا سليمان التيمي بالإسنادين جميعاً مثله.
حدثنا ابن نمير، حدثنا أبو خالد عن داود واللفظ له (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سليمان بن حيان عن داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: لما رجع النَّبي صلى الله عليه وسلم من تبوك سألوه عن الساعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تأتي مائة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم» حدثني إسحاق بن منصور، أخبرنا أبو الوليد، أخبرنا أبو عوانة عن حصين عن سالم عن جابر بن عبد الله قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «ما من نفس منفوسة تبلغ مائة سنة» فقال سالم: تذاكرنا ذلك عنده: إنما هي كل نفس مخلوقة يومئذ ـ ا هـ منه بلفظه.
فهذا الحديث الصحيح الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر، وجابر، وأبو سعيد ـ فيه تصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا تبقى نفس منفوسة حية على وجه الأرض بعد مائة سنة. فقوله «نفس منفوسة» ونحوها من الألفاظ في روايات الحديث نكرة في سياق النفي فهي تعم كل نفس مخلوقة على الأرض. ولا شك أن ذلك العموم بمقتضى اللفظ يشمل الخضر، لأنه نفس منفوسة على الأرض. وقال البخاري في صحيحه: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال: حدثني سالم بن عبد الله بن عمر، وأبو بكر بن أبي حثمة أن عبد الله بن عمر قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة: وإنما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض» يريد بذلك أنها تخرم ذلك القرن ـ انتهى منه بلفظه. وقد بينا وجه دلالته على المراد قريباً.
الرابع ـ أن الخضر لو كان حياً إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم لكان من أتباعه، ولنصره وقاتل معه، لأنه مبعوث إلى جميع الثقلين الإنس والجن. والآيات الدالة على عموم رسالته كثيرة جداً، كقوله تعالى: {قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعً} ، وقوله: {تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِير} ، وقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} ويوضح هذا أنه تعالى بين في سورة «آل عمران»: أنه أخذ على جميع النَّبيين الميثاق المؤكد أنهم إن جاءهم نبينا صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما معهم أن يؤمنوا به وينصرونه، وذلك في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِى قَالُوۤاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَٱشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ} .
وهذه الآية الكريمة على القول بأن المراد بالرسول فيها نبينا صلى الله عليه وسلم، كما قاله ابن العباس وغيره ـ فالأمر واضح. وعلى أنها عامة فهو صلى الله عليه وسلم يدخل في عمومها دخولاً أولياً. فلو كان الخضر حياً في زمنه لجاءه ونصره وقاتل تحت رايته. ومما يوضح أنه لا يدركه نبي إلا إتبعه ما رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث جابر رضي الله عنه:
أن عمر رضي الله عنه أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه فغضب وقال: «لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو يباطل فتصدقوا به. والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني» ا هـ قال ابن حجر في الفتح: ورجاله موثوقون، إلا أن في مجالد ضعفاً. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تاريخه بعد أن ساق آية «آل عمران» المذكورة آنفاً مستدلاً بها على أن الخضر لو كان حياً لجاء النَّبي صلى الله عليه وسلم ونصره ـ ما نصه: قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبيناً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذها على أمته الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به وينصرونه ـ ذكره البخاري عنه ا هـ. فالخضر إن كان نبياً أو ولياً فقد دخل في هذا الميثاق. فلو كان حياً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أشرف أحواله أن يكون بين يديه، يؤمن بما أنزل الله عليه، وينصره أن يصل أحد من الأعداء إليه. لأنه إن كان ولياً فالصديق أفضل منه. وإن كان نبياً فموسى أفضل منه.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده: حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا هشيم أنبأنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني» وهذا الذي يقطع به ويعلم من الدين علم الضرورة..
وقد دلت هذه الآية الكريمة: أن الأنبياء كلهم لو فرض أنهم أحياء مكلفون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانوا كلهم أتباعاً له وتحت أوامره، وفي عموم شرعه. كما أن صلوات الله وسلامه عليه لما اجتمع بهم الإسراء رفع فوقهم كلهم، ولما هبطوا معه إلى بيت المقدس وحانت الصلاة أمره جبريل عن أمر الله أن يؤمهم. فصلى بهم في محل ولايتهم ودار إقامتهم. فدل على أنه الإمام الأعظم، والرسول الخاتم المبجل المقدم ـ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
فإذا علم هذا، وهو معلوم عند كل مؤمن ـ علم أنه لو كان الخضر حياً لكان من جملة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وممن يقتدى بشرعه لا يسعه إلا ذلك. هذا عيسى بن مريم عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان يحكم بهذه الشريعة المطهرة، لا يخرج منها ولا يحيد عنها، وهو أحد أولي العزم الخمسة المرسلين، وخاتم أنبياء بني اسرائيل. والمعلوم أن الخضر لم ينقل بسند صحيح ولا حسن تسكن النفس إليه ـ أنه اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد، ولم يشهد معه قتالاً في مشهد من المشاهد. وهذا يوم بدر يقول الصادق المصدوق فيما دعا به ربه عز وجل واستنصره واستفتحه على من كفره: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض» وتلك العصابة كان تحتها سادة المسلمين يومئذ، وسادة الملائكة حتى جبريل عليه السلام. كما قال حسان بن ثابت في قصيدة له في بيت يقال بأنه أفخر بيت قالته العرب:
وببئر بدر إذ يرد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
فلو كان الخضر حياً لكان وقوفه تحت هذه الراية أشرف مقاماته، وأعظم غزواته. قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي: سئل بعض أصحابنا عن الخضر هل مات؟ فقال: نعم. قال: وبلغني مثل هذا عن أبي طاهر بن العبادي قال: وكان يحتج بأنه لو كان حياً لجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ نقله ابن الجوزي في العجالة. فإن قيل: فهل يقال إنه كان حاضراً في هذه المواطن كلها ولكن لم يكن أحد يراه؟
فالجواب أن الأصل عدم هذا الاحتمال البعيد الذي يلزم منه تخصيص العمومات بمجرد التوهمات. ثم ما الحامل له على هذا الاختفاء؟ وظهوره أعظم لأجره، وأعلى في مرتبته، وأظهر لمعجزته. ثم لو كان باقياً بعده لكان تبليغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحاديث النبوية، والآيات القرآنية، وإنكاره لما وقع من الأحاديث المكذوبة، والروايات المقلوبة، والآراء البدعية، والأهواء العصبية، وقتاله مع المسلمين في غزواتهم، وشهوده جمعهم وجماعاتهم، ونفعه إياهم، ودفعه الضرر عنهم مما سواهم، وتسديده العلماء والحكام، وتقريره الأدلة والأحكام ـ أفضل مما يقال من كونه في الأمصار، وجوبه الفيافي والأفطار، واجتماعه بعباد لا تعرف أحوال كثير منهم، وجعله كالنقيب المترجم عنهم؟ٰ
وهذا الذي ذكرته لا يتوقف أحد فيه بعد التفهم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. انتهى من البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله تعالى.
فتحصل أن الأحاديث المرفوعة التي تدل على وجود الخضر حياً باقياً لم يثبت منها شيء. وأنه قد دلت الأدلة المذكورة على وفاته، كما قدمنا إيضاحه.
وممن بين ضعف الأحاديث الدالة على حياة الخضر، وبقائه ـ ابن كثير في تاريخه وتفسيره. وبين كثيراً من أوجه ضعفها ابن حجر في الإصابة. وقال ابن كثير في البداية والنهاية بعد أن ساق الأحاديث والحكايات الواردة في حياة الخضر: وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم. وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جداً، لا تقوم بمثلها حجة في الدين.
والحكايات لا يخلو أكثرها من ضعف في الإسناد. وقصاراها أنها صحيحة إلي من ليس بمعصوم من صحابي أو غيره. لأنه يجوز عليه الخطأ ( والله أعلم)، إلى أن قال رحمه الله: وقد تصدى الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله في كتابه (عجلة المنتظر في شرح حالة الخضر) للأحاديث الواردة في ذلك من المرفوعات ـ فبين أنها موضوعات، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم. فبين ضعف أسانيدها ببيان أحوالها، وجهالة رجالها، وقد أجاد في ذلك وأحسن الانتقاد ـ ا هـ منه.
واعلم أن جماعة من أهل العلم ناقشوا الأدلة التي ذكرنا أنها تدل على وفاته. فزعموا أنه لا يشمله عموم {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ} ولا عموم حديث: «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لم يبق على ظهر الأرض أحد ممن هو عليها اليوم» كما تقدم. قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره رحمه الله تعالى: ولا حجة لمن استدل به ـ يعني الحديث المذكور على بطلان قول من يقول: إن الخضر حي لعموم قوله «ما من نفس منفوسة..» لأن العموم وإن كان مؤكد الاستغراق ليس نصاً فيه، بل هو قابل للتخصيص، فكما لم يتناول عيسى عليه السلام فإنه لم يمت ولم يقتل، بل هو حي بنص القرآن ومعناه. ولا يتناول الدجال مع أنه حي بدليل حديث الجساسة: فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام، وليس مشاهداً للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حاله مخاطبة بعضهم بعضاً، فمثل هذا العموم لا يتناوله. وقيل: إن أصحاب الكهف أحياء، ويحجون مع عيسى عليه السلام كما تقدم. وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس كما ذكرنا ا هـ منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: كلام القرطبي هذا ظاهر السقوط كما لا يخفى على من له إلمام بعلوم الشرع، فإنه اعترف بأن حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم عام في كل نفس منفوسة عموماً مؤكداً، لأن زيادة «من» قبل النكرة في سياق النفي تجعلها نصاً صريحاً في العموم لا ظاهراً فيه كما هو مقرر في الأصول. وقد أوضحناه في سورة «المائدة».
ولو فرضنا صحة ما قاله ـ القرطبي رحمه الله تعالى من أنه ظاهر في العموم ـ لا نص فيه، وقررنا أنه قابل للتخصيص كما هو الحق في كل عام، فإن العلماء مجمعون على وجوب استصحاب عموم العام حتى يرد دليل مخصص صالح للتخصيص سنداً ومتناً. فالدعوى المجردة عن دليل من كتاب أو سنة لا يجوز أن يخصص بها نص من كتاب أو سنة إجماعاً.
وقوله: «إن عيسى لم يتناوله عموم الحديث» فيه أن لفظ الحديث من أصله لم يتناوله عيسى، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: «لم يبق على ظهر الأرض ممن هو بها اليوم أحد». فخصص ذلك بظهر الأرض فلم يتناول اللفظ من في السماء، وعيسى قد رفعه الله من الأرض كما صرح بذلك في قوله تعالى: {بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ وهذا واضح جداً كما ترى.
ودعوى حياة أصحاب الكهف، وفتى موسى ظاهرة السقوط ولو فرضنا حياتهم فإن الحديث يدل على موتهم عند المائة كما تقدم، ولم يثبت شيء يعارضه.
وقوله «إن الخضر ليس مشاهداً الناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضاً» يقال فيه: إن الاعتراض يتوجه عليه من جهتين:
الأولى ـ أن دعوى كون الخضر محجوباً عن أعين الناس كالجن والملائكة ـ دعوى لا دليل عليها والأصل خلافها، لأن الأصل أن بني آدم يرى بعضهم بعضاً لاتفاقهم في الصفات النفسية، ومشابهتهم فيما بينهم.
الثانية ـ أنا لو فرضنا أنه لا يراه بنو آدم، فالله الذي أعلم النَّبي بالغيب الذي هو «هلاك كل نفس منفوسة في تلك المائة» عالم بالخضر، وبأنه نفس منفوسة. ولو سلمنا جدلياً أن الخضر فرد نادر لا تراه العيون. وأن مثله لم يقصد بالشمولي في العموم ـ فأصح القولين عند علماء الأصول شمول العام والمطلق للفرد النادر والفرد غير المقصود. خلافاً لمن زعم أن الفرد النادر وغير المقصود لا يشملهما العام ولا المطلق.
قال صاحب جمع الجوامع في «مبحث العام» ما نصه: والصحيح دخول النادرة وغير المقصودة تحته. فقوله: «النادرة وغير المقصودة»، يعني الصورة النادرة وغير المقصودة. وقوله: «تحته» يعني العام. والحق أن الصورة النادرة، وغير المقصودة صورتان واحدة، وبينهما عموم وخصوص من وجه على التحقيق. لأن الصورة النادرة قد تكون مقصودة وغير مقصودة. والصورة غير المقصودة قد تكون نادرة وغير نادرة. ومن الفروع التي تبنى على دخول الصورة النادرة في العام والمطلق وعدم دخولها ـ فيهما اختلاف العلماء في جواز دفع السبق ـ بفتحتين ـ في المسابقة على الفيل. وإيضاحه ـ أنه جاء في الحديث الذي رواه أصحاب السنن والإمام أحمد من حديث أبي هريرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر» ولم يذكر فيه ابن ماجه «أو نصل» والفيل ذو خف، وهو صورة نادرة. فعلى القول بدخول الصورة النادرة في العام يجوز دفع السبق ـ
بفتحتين ـ في المسابقة على الفيلة. والسبق المذكور هو المال المجعول للسابق. وهذا الحديث جعله بعض علماء الأصول مثالاً لدخول الصورة النادرة في المطلق لا العام. قال: لأن قوله: «إلا في خف» نكرة في سياق الإثبات. لأن ما بعد «إلا» مثبت، والنكرة في سياق الإثبات إطلاق لا عموم. وجعله بعض أهل الأصول مثالاً لدخول الصورة النادرة في العام.
قال الشيخ زكريا: وجه عمومه مع أنه نكرة في الإثبات أنه في حيز الشرط معنى، إذ التقدير: إلا إذا كان في خف. والنكرة في سياق الشرط نعم، وضابط الصورة النادرة عند أهل الأصول هي: أن يكون ذلك الفرد لا يخطر غالباً ببال المتكلم لندرة وقوعه. ومن أمثلة الاختلاف في الصورة النادرة: هل تدخل في العام والمطلق أولاً ـ اختلاف العلماء في وجوب الغسل من خروج المني الخارج بغير لذة، كمن تلدغه عقرب في ذكره فينزل منه المني. فنزول المني بغير لذة، أو بلذة غير معتادة صورة نادرة، ووجوب الغسل منه يجري على الخلاف المدخول في دخول الصور النادرة في العام والمطلق وعدم دخولها فيهما. فعلى دخول تلك الصورة النادرة في عموم «إنما الماء من الماء» فالغسل واجب، وعلى العكس فلا. ومن أمثلة ذلك في المطلق ما لو أوصى رجل برأس من رقيقه، فهل يجوز دفع الخنثى أولاً. فعلى دخول الصورة النادرة في المطلق يجوز دفع الخنثى، وعلى العكس فلا. ومن أمثلة الاختلاف في دخول الصورة غير المقصودة في الإطلاق. ما لو وكل رجل آخر على أن يشتري له عبداً ليخدمه، فاشترى الوكيل عبداً يعتق على الموكل، فالموكل لم يقصد من يعتق عليه، وإنما أراد خادماً يخدمه، فعلى دخول الصورة غير المقصودة في المطلق يمضي البيع ويعتق العبد، وعلى العكس فلا. وإلا هاتين المسألتين أشار في المراقي بقوله: هل نادر في ذي العموم يدخل ومطلق أولاً خلاف ينقل
فما لغير لذة والفيل ومشبه فيه تنافي القيل
وما من القصد خلا فيه اختلف وقد يجيء بالمجاز متصف

وممن مال إلى عدم دخول الصور النادرة وغير المقصودة في العام والمطلق أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر رجحانه بحسب المقرر في الأصول ـ شمول العام والمطلق للصور النادرة، لأن العام ظاهر في عمومه حتى يرد دليل مخصص من كتاب أو سنة. وإذا تقرر أن العام ظاهر في عمومه وشموله لجميع الأفراد فحكم الظاهر أنه لا يعدل عنه، بل يجب العمل به إلا بدليل يصلح للتخصيص. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعملون بشمول العمومات من غير توقف في ذلك. وبذلك تعلم أن دخول الخضر في عموم قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ} وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد» هو الصحيح، ولا يمكن خروجه من تلك العمومات إلا بمخصص صالح للتخصيص.
ومما يوضح ذلك: أن الخنثى صورة نادرة جداً، مع أنه داخل في عموم آيات المواريث والقصاص والعتق، وغير ذلك من عمومات أدلة الشرع. وما ذكره القرطبي من خروج
الدجال من تلك العمومات بدليل حديث الجساسة لا دليل فيه، لأن الدجال أخرجه دليل صالح للتخصيص، وهو الحديث الذي أشار له القرطبي، وهو حديث ثابت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنه حدثه به تميم الداري، وأنه أعجبه حديث تميم المذكور، لأنه وافق ما كان يحدث به أصحابه من خبر الدجال. قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، وحجاج بن الشاعر كلاهما عن عبد الصمد واللفظ لعبد الوارث بن عبد الصمد، حدثنا أبي عن جدي عن الحسين بن ذكوان، حدثنا ابن بريدة حدثني عامر بن شراحيل الشعبي شعب همدان، أنه سأل فاطمة بنت قيس ـ وكانت من المهاجرات الأول ـ فقال: حدثيني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسنديه إلى أحد غيره. فقالت لئن شئت لأفلعن؟ فقال لها: أجل؟ حدثيني. فقالت: .. ثم ساق الحديث وفيه طول. ومحل الشاهد منه قول تميم الداري: فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً، وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلكٰ ما لكٰ الحديث بطوله ـ إلى قوله ـ وإني مخبركم عني، إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، فهما محرمتان على كلتاهما... الحديث.
فهذا نص صحيح صريح في أن الدجال حي موجود في تلك الجزيرة البحرية المذكورة في حديث تميم الدارمي المذكور، وإنه باق وهو حي حتى يخرج في آخر الزمان. وهذا نص صالح للتخصيص يخرج الدجال من عموم حديث موت كل نفس في تلك المائة. والقاعدة المقررة في الأصول: أن العموم يجب إبقاؤه على عمومه، فما أخرجه نص مخصص خرج من العموم وبقي العام حجة في بقية الأفراد التي لم يد على إخراجها دليل، كما قدمناه مراراً وهو الحق ومذهب الجمهور، وهو غالب ما في الكتاب والسنة من العمومات يخرج منها بعض الأفراد بنص مخصص، ويبقى العام حجة في الباقي، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود في مبحث التخصيص بقوله: وهو حجة لدى الأكثر إن مخصص له معيناً بين
وبهذا كله يتبين أن النصوص الدالة على موت كل إنسان على وجه الأرض في ظرف تلك المائة، ونفي الخلد عن كل بشر قبله ـ تتناول بظواهرها الخضر ولم يخرج منها نص صالح للتخصيص كما رأيت. والعلم عند الله تعالى.
واعلم أن العلماء اختلفوا اختلافاً كثيراً في نسب الخضر، فقيل: هو ابن آدم لصلبه. وقال ابن حجر في الإصابة: وهذا قول رواه الدارقطني في الأفراد من طريق رواد بن الجراح عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس، ورواد ضعيف، ومقاتل متروك، والضحاك لم يسمع من ابن عباس. وقيل: إنه ابن قابيل بن آدم قال ابن حجر: ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين. ثم ساق سنده وقال: هو معضل وحكى صاحب هذا القول: أنه اسمه خضرون وهو الخضر. وقيل: اسمه عامر، ذكره أبو الخطاب بن دحية عن ابن حبيب البغدادي. وقيل: إن اسمه بليان بن ملكان بن فالغ بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. ذكره هذا القول ابن قتيبة في المعارف عن وهب بن منبه. قاله ابن كثير، وغيره. وقيل: إن اسمه المعمر بن مالك بن عبد الله بن نصر بن الأزد، وهذا قول إسماعيل بن أبي أويس، نقله عنه ابن كثير وغيرهما.
وقيل: خضرون بن عماييل من ذرية العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل: وهذا القول حكاه ابن قتيبة أيضاً ذكره عنه ابن حجر. وقيل: إنه من سبط هارون أخي موسى، وروي ذلك عن الكلبي عن أبي صالح عن أبي هريرة عن ابن عباس، ذكره ابن حجر أيضاً ثم قال: وهو بعيد، وأعجب منه قول ابن إسحاق: إنه أرمياً بن حلقيا، وقد رد ذلك أبو جعفر بن جرير، وقيل: إنه ابن بنت فرعون، حكاه محمد بن أيوب عن ابن لهيعة.
وقيل: ابن فرعون لصلبه، حكاه النقاش. وقيل: إنه اليسع، حكي عن مقاتل. وقال ابن حجر: إنه بعيد. وقيل: إنه من ولد فارس. قال ابن حجر: جاء ذلك عن ابن شوذب، أخرجه الطبري بسند جيد من رواية ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب. وقيل: إنه من ولد بعض من كان آمن بإبراهيم وهاجر معه من أرض بابل، حكاه ابن جرير الطبري في تاريخه. وقيل: كان أبوه فارسياً، وأمه رومية. وقيل عكس ذلك ا هـ. والله أعلم بحقيقة الواقع. وقد ثبت في الصحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أنه قال: إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء. والفروة البيضاء: ما على وجه الأرض من الحشيش الأبيض وشبهه من الهشيم. وقيل. الفروة: الأرض البيضاء التي لا نبات فيها. وقيل: هي الهشيم اليابس.
ومن ذلك القبيل تسمية جلدة الرأس فروة، كما قدمنا في سورة «البقرة» في قول الشاعر:
دنس الثياب كأن فروة رأسه غرست فأنبت جانباها فلفل