تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 304 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 304


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

  قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّى فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّى جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقّاً * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَجَمَعْنَـٰهُمْ جَمْعا

تقدم شرحها في الصفحة السابقه

{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَـٰفِرِينَ عَرْضاً * ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَآءٍ عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً * أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِىۤ أَوْلِيَآءَ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـٰفِرِينَ نُزُلاً * قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلاٌّخْسَرِينَ أَعْمَـٰلاً * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَـٰتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَـٰتِى وَرُسُلِى هُزُواً}
قوله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَـٰفِرِينَ عَرْض} . قوله: {وَعَرَضْنَ} أي أبرزنا وأظهرنا جهنم {يَوْمَئِذٍ} أي يوم إذ جمعناهم جمعاً. كما دل على ذلك قوله قبله: {وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَجَمَعْنَـٰهُمْ جَمْع} . وقال بعض العلماء: اللام في قوله «للكافرين» بمعنى على، أي عرضنا جهنم على الكافرين، وهذا يشهد له القرآن في آيات متعددة. لأن العرض في القرآن يتعدى بعلى لا باللام. كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ} ، وقوله: {ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّ} ، وقوله تعالى: {وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَ} ، ونظيره في كلام العرب من إتيان اللام بمعنى على ـ البيت الذي قدمناه في أول سورة «هود»، وقدمنا الاختلاف في قائله، وهو قوله: هتكت له بالرمح جيب قميصه فخر صريعاً لليدين وللفم

أي خر صريعاً على اليدين:
وقد علم من هذه الآيات: أن النار تعرض عليهم ويعرضون عليها. لأنها تقرب إليهم ويقربون إليها. كما قال تعالى في عرضها عليهم هنا: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَـٰفِرِينَ عَرْض}، وقال في عرضهم عليها: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ}، ونحوها من الآيات. وقد بينا شيئاً من صفات عرضهم دلت عليه آيات أخر من كتاب الله في الكلام على قوله تعالى {وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَ}. وقول من قال: إن قوله هنا: «وعرضنا جهنم» الآية فيه قلب. وأن المعنى: وعرضنا الكافرين لجهنم أي عليها ـ بعيد كما أوضحه أبو حيان في البحر. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَآءٍ عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْع} . التحقيق في قوله: {ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ} أنه في محل خفص نعتاً للكافرين. وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من صفات الكافرين الذين تعرض لهم جهنم يوم القيامة ـ أنهم كانت أعينهم في دار الدنيا في غطاء عن ذكره تعالى، وكانوا لا يستطيعون سمعاً. وقد بين هذا من صفاتهم في آيات كثيرة، كقوله في تغطية أعينهم: {وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ} ، وقوله {وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً} ، وقوله: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ} ، وقوله: {وَمَا يَسْتَوِى ٱلاٌّعْـمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً. وقال في عدم استطاعتهم السمع: {أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ} ، وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْر} . وقد بينا معنى كونهم لا يستطيعون السمع في أول سورة «هود» في الكلام على قوله تعالى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} فأغنى عن إعادته هنا. وقد بينا أيضاً طرفاً من ذلك في الكلام على قوله تعالى في هذه السورة الكريمة: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْر} وقد بين تعالى في موضع آخر: أن الغطاء المذكور الذي يغشو بسببه البصر عن ذكره تعالى يقيض الله لصاحبه شيطاناً فيجعله له قريناً. وذلك في قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} . قوله تعالى: {أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِىۤ أَوْلِيَآءَ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـٰفِرِينَ نُزُل} . الهمزة في قوله تعالى: {أَفَحَسِبَ} للإنكار والتوبيخ. وفي الآية حذف دل المقام عليه. قال بعض العلماء: تقدير المحذوف هو: أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء، ولا أعاقبهم العقاب الشديدٰ كلاٰ! بل سأعاقبهم على ذلك العقاب الشديد. بدليل قوله تعالى بعده: {إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـٰفِرِينَ نُزُل} وقال بعض العلماء: تقديره: أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياءٰ وأن ذلك ينفعهم. كلاٰ لا ينفعهم بل يضرهم. ويدل لهذا قوله تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ} وقوله عنهم: {وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَـٰؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ} . ثم إنه تعالى بين بطلان ذلك بقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ ٱللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَلاَ فِى ٱلاٌّرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، وما أنكره عليهم هنا من ظنهم أنهم يتخذون من دونه أولياء من عباده ولا يعاقبهم. أو أن ذلك ينفعهم ـ جاء مبيناً في مواضع، كقوله في أول سورة «الأعراف»: {ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} . فقد نهاهم عن اتباع الأولياء من دونه في هذه الآية، لأنه يضرهم ولا ينفعهم، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن من الأدلة على أنه لا ولي من دون الله لأحد، وإنما الموالاة في الله، كقوله: {وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ} ، وقوله: {وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} ، وقوله: {وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ} ، وقوله {وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِىٌّ} ، وقوله: {وَذَرِ الَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِىٌّ} ، ونحو ذلك من الآيات. وسيأتي له قريباً إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح وأمثلة. والأظهر المتبادر من الإضافة في قوله «عبادي» أن المراد بهم نحو الملائكة وعيسى وعزيز، لا الشياطين ونحوهم، لأن مثل هذه الإضافة للتشريف غالباً. وقد بين تعالى: أنهم لا يكونون أولياء لهم في قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَـٰئِكَةِ أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَـٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} ، وقوله {إِنَّا أَعْتَدْنَ} قد أوضحنا معناه في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارً} ، فأغنى عن إعادته هنا. وفي قوله {نُزُل} أوجه من التفسير للعلماء، أظهرها: أن «النزل» هو ما يقدم للضيف عند نزوله، والقادم عند قدومه. والمعنى: أن الذي يهيأ لهم من الإكرام عند قدومهم إلى ربهم هو جهنم المعدة لهم، كقوله: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . وقوله: {يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ} . وقد قدمنا شواهده العربية في الكلام على قوله تعالى. {يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ} لأن ذلك الماء الذي يشوى الوجوه ليس فيه إغاثة، كما أن جهنم ليست نزل إكرام الضيف أو قادم.
الوجه الثاني ـ أن «نزلاً» بمعنى المنزل، أي إعتدنا جهنم للكافرين منزلاً، أي مكان نزول، لا منزل لهم غيرها. وأضعف الأوجه ما زعمه بعضهم من أن «النزل» جمع نازل، كجمع الشارف على شرف بضمتين. والذي يظهر في إعراب «نزلاً» أنه حال مؤولة بمعنى المشتق. أو مفعول لـ«أعتدنا» بتضمينه معنى صيرنا أو جعلنا. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلاٌّخْسَرِينَ أَعْمَـٰلاً ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعً}. المعنى: قل لهم يا نبي الله: هل ننبئكم أي نخبركم بالأخسرين أعمالاً، أي بالذين هم أخسر الناس أعمالاً وأضيعها. فالأخسر صيغه تفضيل من الخسران وأصله نقص مال التاجر، والمراد به في القرآن غبنهم بسبب كفرهم ومعاصيهم في حظوظهم مما عند الله لو أطاعوه. وقوله {أَعْمَـٰل} منصوب على التمييز:
فإن قيل: نبئنا بالأخسرين أعمالاً من هم؟
كان الجواب ـ هم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وبه تعلم أن «الذين» من قوله {ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} خبر مبتدأ محذف جواباً للسؤال المفهوم من المقام، ويجوز نصبه على الذم، وجره على وأنه بدل من الأخسرين، أو نعت له، وقوله {ضَلَّ سَعْيُهُمْ} أي بطل عملهم وحبط، فصار كالهباء وكالسراب وكالرمادٰ كما في قوله تعالى: {وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُور} ، وقوله: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَـٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} ؟ وقوله: {مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} ومع هذا فهم يعتقدون أن عملهم حسن مقبول عند الله.
والتحقيق. أن الآية نازلة في الكفار الذين يعتقدون أن كفرهم صواب وحق، وأن فيه رضى ربهم. كما قال عن عبدة الأوثان: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ} ، وقال عنهم {وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَـٰؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ} ، وقال عن الرهبان الذين يتقربون إلى الله على غير شرع صحيح: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـٰشِعَةٌعَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً} ، على القول فيها بذلك. وقوله تعالى في الكفار: {إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَـٰطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} والدليل على نزولها في الكفار تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه {أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَـٰتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} . فقول من قال: إنهم الكفار، وقول من قال: إنهم الرهبان، وقول من قال: إنهم أهل الكتاب الكافرون بالنَّبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك تشمله هذه الآية. وقد روى البخاري في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه سأله ابنه مصعب عن «الأخسرين أعمالاً» في هذه الآية هل هم الحرورية؟ فقال لا هم اليهود والنصارى. أما اليهود فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وأما النصارى فكفروا بالجنة، وقالوا لا طعام فيها، ولا شراب. والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان سعيد يسميهم الفاسقين. ا هـ من البخاري. وما روي عن علي رضي الله عنه من أنهم أهل حروراء المعروفون بالحروريين معناه أنهم يكون فيهم من معنى الآية بقدر ما فعلوا، لأنهم يرتكبون أموراً شنيعة من الضلال، ويعتقدون أنها هي معنى الكتاب والسنة، فقد ضل سيعهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. وإن كانوا في ذلك أقل من الكفار المجاهرين. لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب كما قد قدمنا إيضاحه وأدلته.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} أي بطل واضمحل. وقد قدمنا أن الضلال يطلق في القرآن واللغة العربية ثلاثة إطلاقات:
الأول ـ الضلال بمعنى الذهاب عن طريق الحق إلى طريق الباطل. كالذهاب عن الإسلام إلى الكفر. وهذ أكثر استعمالاته في القرآن. ومنه قوله تعالى: {غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ} ، وقوله: {وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} .
الثاني ـ الضلال بمعنى الهلاك والغيبة والاضمحلال، ومنه قول العرب: ضل السمن في الطعام إذا استهلك فيه وغاب فيه. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي غاب واضمحل، وقوله هنا: {ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} أي بطل واضمحل، وقول الشاعر: ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا

أي عن الحي الذي غاب واضمحل، ومن هنا سمي الدفن إضلالاً. لأن مآل الميت المدفون إلى أن تختلط عظامه بالأرض، فيضل فيها كما يضل السمن في الطعام. ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغه ذبيان:
فآب مضلوه بعين جلية وغودو بالجولان حزم ونائل

فقوله «مضلوه» يعني دافنيه في قبره.
ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَقَالُوۤاْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى ٱلاٌّرْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} . فمعنى {ضَلَلْنَا فِى ٱلاٌّرْضِ} أنهم اختلطت عظامهم الرميم بها لغابت واستهلكت فيها.
الثالث ـ الضلال بمعنى الذهاب عن علم حقيقة الأمر المطابقة للواقع، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ} أي ذاهباً عما تعلمه الآن من العلوم والمعارف التي لا تعرف إلا بالوحي فهداك إلى تلك العلوم والمعارف بالوحي. وحدد هذا المعنى قوله تعالى عن أولاد يعقوب: {قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَـٰلِكَ ٱلْقَدِيمِ} أي ذهابك عن العلم بحقيقة أمر يوسف، ومن أجل ذلك تطمع في رجوعه إليك، وذلك لا طمع فيه على أظهر التفسيرات وقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَ} أي نذهب عن حقيقة علم المشهود به بنسيان أو نحوه، بدليل قوله {فَتُذَكّرَ أَحَدُهُمَا ٱلاْخْرَىٰ}، وقوله تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَـٰبٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى} ومن هذا المعنى قول الشاعر: وتظن سلمى أنثى أبغى بها بدلاً أراها في الضلال تهيم

فقوله «أراها في الضلال» أي الذهاب عن علم حقيقة الأمر حيث تظنني أبغى بها بدلاً، والواقع بخلاف ذلك.
وقوله في هذه الآية: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ} أي يظنون. وقرأه بعض السبعة بكسر السين، وبعضهم بفتحها كما قدمنا مراراً في جميع القرآن. ومفعولاً «حسب» هما المبتدأ والخبر اللذان عملت فيهما «أن» والأصل ويحسبون أنفسهم محسنين صنعهم. وقوله «صنعاً» أي عملاً وبين قوله «يحسبون، ويحسنون» الجناس المسمى عند أهل البديع «تجنيس التصحيف» وهو أن يكون النقط فرقاً بين الكلمتين، كقول البحتري: ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ليعجز والمعتز بالله طالبه

فبين «المغتر والمعتز» الجناس المذكور.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَـٰتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} ، نص في أن الكفر بآيات الله ولقائة يحبط العمل، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً، كقوله تعالى في «العنكبوت» {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَـٰتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، وسيأتي بعض أمثلة لذلك قريباً إن شاء الله.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَزْن} فيه للعلماء أوجه:
أحدها ـ أن المعنى أنهم ليس لهم حسنات توزن في الكفة الأخرى في مقابلة سيئاتهم، بل لم يكن إلا السيئات، ومن كان كذلك فهو في النار، كما قال تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُ فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَـٰلِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـٰلِحُونَ} . وقال: {وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ} . {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُم} ، وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُفَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَانَارٌ حَامِيَةٌ} . إلى غير ذلك من الآيات. وقال بعض أهل العلم. معنى {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَزْن} أنهم لا قدر لهم عند الله لحقارتهم، وهو أنهم بسبب كفرهم. وذلك كقوله عنهم: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَٰخِرِينَ} ، أي صاغرين أذلاء حقيرين، وقوله: {قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَٰخِرُونَ} وقوله: {قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هوانهم وصغارهم وحقارتهم.
وقد دلت السنة الصحيحة على أن معنى الآية يدخل فيه الكافر السمين العظيم البدن. لا يزن عند الله يوم القيامة جناح بعوضة. قال البخاري في صحيحه في تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن عبد الله. حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا المغيرة بن عبد الرحمن، حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال ـ اقرءوا فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً» وعن يحيى بن بكير، عن المغير بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد مثله ا هـ. من البخاري.
وهذا الحديث أخرجه أيضاً مسلم في صحيحه، وهو يدل على أن نفس الكافر العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة. وفيه دلالة على وزن الأشخاص. وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره هذه الآية بعد أن أشار إلى حديث أبي هريرة المذكور ما نصه: وفي هذا الحديث من الفقه ذم السمن لمن تكلفه. لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم. بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية، المبتغى به الترفه والسمن. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الحبر السمين» ومن حديث عمران بن حصين عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم قرنى ثم الذين يلونهم ـ قال عمران. فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ـ ثم إن من بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن» وهذا ذم. وسبب ذلك: أن السمن المكتسب إنما هو من كثرة الأكل والشره والدعة والراحة والأمن، والاسترسال مع النفس على شهواتها. فهو عبد نفسه لا عبد ربه. ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام، وكل لحم تولد من سحت فالنار أولى به. وقد ذم الله تعالى الكفار بكثرة الأكل فقال: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلاٌّنْعَـٰمُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} فإذا كان المؤمن يتشبه بهم. ويتنعم تنعمهم في كل أحواله وأزمانه، فأين حقيقة الإيمان والقيام بوظائف الإسلام. ومن كثر أكله وشربه كثر نهمه وحرصه، وزاد بالليل كسله ونومه، فكان نهاره هائماً، وليله نائماً ا هـ. محل الغرض من كلام القرطبي. وما تضمنه كلامه من الجزم بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبغض الحبر السمين» فيه نظر، لأنه لم يصح مرفوعاً، وقد حسنه البيهقي من كلام كعب. وما ذكر من ذم كثرة الأكل والشرب والسمن المكتسب ظاهر وأدلته كثيرة «وحسب المؤمن لقيمات يقمن صلبه».
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّـٰتُ ٱلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَـٰلِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً * قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَـٰتِ رَبِّى لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً * قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَ}
قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّـٰتُ ٱلْفِرْدَوْسِ نُزُل} . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ـ أن الأعمال الصالحة والإيمان سبب في نيل جنات الفردوس. والآيات الموضحة لكون العمل الصالح سبباً في دخول الجنة كثيرة جداً. كقوله تعالى: {وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدً} ، وقوله: {أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي بسببه، وقوله تعالى: {وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِىۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّـٰتِ عَدْنٍ ٱلَّتِى وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ بِٱلْغَيْبِ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
فإن قيل هذه ا لآيات فيها الدلالة على أن طاعة الله بالإيمان والعمل الصالح سبب في دخول الجنة. وقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدكم عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا يتغمدني الله برحمة منه وفضل» يرد بسببه إشكال على ذلك.
فالجواب ـ أن العمل لا يكون سبباً لدخول الجنة إلا إذا تقبله الله تعالى وتقبله له فضل منه. فالفعل الذي هو سبب لدخول الجنة هو الذي تقبله الله بفضله، وغيره من الأعمال لا يكون سبباً لدخول الجنة. والجمع بين الحديث والآيات المذكورة أوجه أخر، هذا أظهرها عندي.
والعلم عند الله تعالى. وقد قدمنا أن «النزل» هو ما يهيأ من الإكرام للضيف أو القادم. قوله تعالى: {خَـٰلِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَل} . أي خالدين في جنات الفردوس لا يبغون عنها حولاً، أي تحولاً إلى منزل آخر، لأنها لا يوجد منزل أحسن منها يرغب في التحول إليه عنها، بل هم خالدون فيها دائماً من غير تحول ولا انتقال. وهذا المعنى المذكور هنا جاء موضحاً في مواضع أخر، كقوله: {ٱلَّذِىۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ} أي الإقامة أبداً، وقوله: {وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدً} ، وقوله: {إِنَّ هَـٰذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} ، وقوله: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على دوامهم فيها، ودوام نعيمها لهم. والحول: اسم مصدر بمعنى التحول. قوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَـٰتِ رَبِّى لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَد} .
أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يقول {لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَـٰتِ رَبِّى} أي لو كان ماء البحر مداداً للأقلام التي تكتب بها كلمات الله «لنفد البحر» أي فرغ وانتهى قبل أن تنفد كلمات ربيَ {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَد} أي ببحر آخر مثله مدداً، أي زيادة عليه. وقوله «مددا» منصوب على التمييز، ويصح إعرابه حالاً. وقد زاد هذا المعنى إيضاحاً في سورة «لقمان» في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِى ٱلاٌّرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـٰتُ ٱللَّهِ} . وقد دلت هذه الآيات على أن كلماته تعالى لا نفاد لها سبحانه وتعالى علواً كبيراً. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ} . أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للناس: {إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} أي لا أقول لكم إني ملك ولا غير بشر، بل أنا بشر مثلكم أي بشر من جنس البشر، إلا أن الله تعالى فضلني وخصني بما أوحى إلي من توحيده وشرعه. وقوله هنا {يُوحَىٰ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ} أي فوحدوه ولا تشركوا به غيره. وهذا الذي بينه تعالى في هذه الآية. أوضحه في مواضع أخر. كقوله في أول «فصّلت»: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَٰحِدٌ فَٱسْتَقِيمُوۤاْ إِلَيْهِ وَٱسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمْ بِٱلاٌّخِرَةِ هُمْ كَـٰفِرُونَ} ، وقوله تعالى: {قُلْ سُبْحَـٰنَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُول} وقوله:
{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَىَّ} . وهذا الذي أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية من أنه يقول للناس أنه بشر، ولكن الله فضله على غيره بما أوحى إليه من وحيه جاء مثله عن الرسل غيره صلوات الله وسلامه عليهم في قوله تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} . فكون الرسل مثل البشر من حيث أن أصل الجميع وعنصرهم واحد، وأنهم تجري على جميعهم الأعراض البشرية لا ينافي تفضيلهم على سائر البشر بما خصهم الله به من وحيه واصطفائه وتفضيله كما هو ضروري.
وقال بعض أهل العلم: معنى هذه الآية قل يا محمد للمشركين: إنما أنا بشر مثلكم، فمن زعم منكم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به، فإنني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به عما سألتم عنه من أخبار الماضين كقصة أصحاب الكهف. وخبر ذي القرنين. وهذا له اتجاه والله تعالى أعلم. قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَ} . قوله في هذه الآية: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ} يشمل كونه يأمل ثوابه، ورؤية وجهه الكريم يوم القيامة، وكونه يخشى عقابه. أي فمن كان راجياً من ربه يوم يلقاه الثواب الجزيل والسلامة من الشر ـ فليعمل عملاً صالحاً.
وقد قدمنا إيضاح العمل الصالح وغير الصالح في أول هذه السورة الكريمة وغيرها، فأغنى عن إعادته هنا.
وقوله: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَ} قال جماعة من أهل العلم. أي لا يرائى الناس في عمله، لأن العمل بعبادة الله لأجل رياء الناس من نوع الشرك، كما هو معروف عند العلماء أن الرياء من أنواع الشرك. وقد جاءت في ذلك أحاديث مرفوعة. وقد ساق طرفها ابن كثير في تفسير هذه الآية. والتحقيق أن قوله: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَ} أعم من الرياء وغيره، أي لا يعبد ربه رياء وسمعة، ولا يصرف شيئاً من حقوق خالقه لأحد من خلقه، لأن الله يقول: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} في الموضعين، ويقول: {وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ}، إلى غير ذلك من الآيات.
ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة: أن الذي يشرك أحداً بعبادة ربه، ولا يعمل صالحاً أنه لا يرجو لقاء ربه، والذي لا يرجو لقاء ربه لا خير له عند الله يوم القيامة.
وهذا المفهوم جاء مبيناً في مواضع أخر، كقوله تعالى فيما مضى قريباً: {أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَـٰتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَزْناً ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ} لأن من كفر بلقاء الله لا يرجو لقاءه. وقوله في «العنكبوت» {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَـٰتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى} ، وقوله في «الأعراف»: {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَـٰتِنَا وَلِقَآءِ ٱلاٌّخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وقوله في «الأنعام»: {قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَ} ، وقوله تعالى في «يونس»: {قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} ، وقوله في «الفرقان»: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلَـٰئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِىۤ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِير} ، وقوله في «الروم»: {وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَـٰتِنَا وَلِقَآءِ ٱلاَّخِرَةِ فَأُوْلَـٰئِكَ فِى ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
اعلم ـ أن الرجال كقوله هنا {يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ} يستعمل في رجاء الخير، ويستعمل في الخوف أيضاً. واستعماله في رجاء الخير مشهور. ومن استعمال الرجاء في الخوف قول أبي ذؤيب الهذلي: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عواسل

فقوله «لم يرج لسعها» أي لم يخف لسعها. ويروى حالفها بالحاء والخاء، ويروى عواسل بالسين، وعوامل بالميم.
فإذا علمت أن الرجاء يطلق على كلا الأمرين المذكورين ـ فاعلم أنهما متلازمان، فمن كان يرجوا ما عند الله من الخير فهو يخاف ما لديه من الشر كالعكس. واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية الكريمة.
أعني قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِح}، فعن ابن عباس أنها نزلت في جندب بن زهير الأزدي الغامدي، قال: يا رسول الله، إنني أعمل العمل لله تعالى وأريد وجه الله تعالى، إلا أنه إذا اطلع عليه سرني؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب، ولا يقبل ما شورك فيه» فنزلت الآية وذكره القرطبي في تفسيره، وذكر ابن حجر في الإصابة: أنه من رواية ابن الكلبي في التفسير عن أبي صالح عن أبي هريرة، وضعف هذا السند مشهور، وعن طاوس أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أحب الجهاد في سبيل الله تعالى، وأحب أن يرى مكاني. فنزلت هذه الآية. وعن مجاهد قال: جاء رجل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إني أتصدق وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله تعالى، فيذكر ذلك مني، وأحمد عليه فيسرني ذلك، وأعجب به فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً، فأنزل الله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَ} انتهى من تفسير القرطبي. ومعلوم أن من قصد بعمله وجه الله فعله لله ولو سره اطلاع الناس على ذلك، ولاسيما إن كان سروره بذلك لأجل أن يقتدوا به فيه. ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. والعلم عند الله تعالى. وقال صاحب الدر المنثور: أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ} قال: نزلت في المشركين الذين عبدوا مع الله إلهاً غيره، وليست هذه في المؤمنين. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي الدنيا في الإخلاص، وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم عن طاوس قال: قال رجل: يا نبي الله إني أقف موقف أبتغي وجه الله، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه شيئاً حتى نزلت هذه الآية: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَ}. وأخرجه الحاكم وصححه، والبيهقي موصولاً عن طاوس عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان من المسلمين من يقاتل وهو يحب أن يرى مكانه. فأنزل الله {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ}. وأخرج ابن منده وأبو نعيم في الصحابة، وابن عساكر من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له، فزاد في ذلك لمقالة الناس فلامه الله، فنزل في ذلك: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَ}، وأخرج هناد في الزهد عن مجاهد قال: جاء رجل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتصدق بالصدقة وألتمس بها ما عند الله، وأحب أن يقال لي خير، فنزلت: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ} ا هـ من «الدر المنثور في التفسير بالمأثور» والعلم عند الله تعالى.

تم بحمد الله تفسير سورة الكهف ولله الحمد