تفسير الطبري تفسير الصفحة 304 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 304
305
303
 الآية : 98
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ هَـَذَا رَحْمَةٌ مّن رّبّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبّي حَقّاً }.
يقول عزّ ذكره: فلـما رأى ذو القرنـين أن يأجوج ومأجوج لا يستطيعون أن يظهروا ما بنـي من الردم, ولا يقدرون عل نقبه, قال: هذا الذي بنـيته وسوّيته حاجزا بـين هذه الأمة, ومن دون الردم رحمة من ربـي رحم بها من دون الردم من الناس, فأعاننـي برحمته لهم حتـى بنـيته وسوّيته لـيكفّ بذلك غائلة هذه الأمة عنهم.
وقوله: فإذَا جاءَ وَعْدُ رَبّـي جَعَلَهُ دَكّاءَ يقول: فإذا جاء وعد ربـي الذي جعله ميقاتا لظهور هذه الأمة وخروجها من وراء هذا الردم لهم, جعله دكاء, يقول: سوّاه بـالأرض, فألزقه بها, من قولهم: ناقة دكاء: مستوية الظهر لا سنام لها. وإنـما معنى الكلام: جعله مدكوكا, فقـيـل: دكاء. وكان قتادة يقول فـي ذلك ما:
17616ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فإذَا جاءَ وَعدُ رَبـي جَعَلَه دَكّاءَ قال: لا أدري الـجبلـين يعنـي به, أو ما بـينهما.
وذُكر أن ذلك يكون كذلك بعد قتل عيسى ابن مريـم علـيه السلام الدجال. ذكر من قال ذلك:
17617ـ حدثنـي أحمد بن إبراهيـم الدورقـي, قال: حدثنا هشيـم بن بشير, قال: أخبرنا العوّام, عن جبلة بن سحيـم, عن مؤثر, وهو ابن عفـارة العبدي, عن عبد الله بن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقِـيتُ لَـيْـلَةَ الإسْرَاءِ إبْرَاهِيـمَ وَمُوسَى وَعيسَى فَتَذَاكرُوا أمْر السّاعَةِ, وَرَدّوا الأَمْرَ إلـى إبْرَاهِيـمَ فَقالَ إبْرَاهِيـمُ: لا عِلْـمَ لـي بِها, فَرَدّوا الأمْرَ إلـى مُوسَى, فقالَ مُوسَى: لا عِلْـمَ لـي بها, فَرَدّوا الأَمْرَ إلـى عِيسَى قالَ عِيسَى: أمّا قِـيامُ السّاعَةِ لا يَعْلَـمُهُ إلاّ اللّهُ, وَلَكِنّ رَبّـي قَدْ عَهِدَ إلـيّ بِـمَا هُوَ كائِنٌ دُونَ وَقْتِها, عَهِدَ إلـيّ أنّ الدّجّالَ خارجٌ, وأنّهُ مُهْبطي إلَـيْه, فَذَكَرَ أنّ مَعَهُ قَصَبَتَـيْنِ, فإذَا رآنِـي أهْلَكَهُ اللّهُ, قالَ: فَـيَذُوبُ كمَا يَذُوبُ الرّصَاصُ, حتـى إنّ الـحَجَرَ والشّجَرَ لَـيَقُولُ: يا مُسْلِـمُ هَذَا كافِرٌ فـاقْتُلْهُ, فَـيُهْلِكُهُمْ اللّهُ, وَيَرْجِعُ الناسُ إلـى بِلادِهِمْ وأوْطانِهِمْ فَـيَسْتَقْبِلُهُمْ يَأْجُوجُ ومَأْجُوجَ مِنْ كُلّ حَدْبٍ يَنْسِلُونَ, لا يَأْتُونَ عَلـى شَيْءٍ إلاّ أكَلُوهُ, وَالا يَـمُرّونَ عَلـى ماءِ إلاّ شَرِبُوهُ, فـيَرّجِعُ النّاسُ إلـيّ, فَـيَشْكُونَهُمْ, فأدْعُوا اللّهَ عَلَـيْهِمْ فَـيُـمِيتُهُمْ حتـى تَـجْوَى الأرْضُ مِنْ نَتْنِ رِيحِهِمُ, فَـيَنْزِلُ الـمَطَرُ, فَـيَجُرّ أجْسادَهُمْ, فـيُـلْقِـيهِمْ فِـي البَحْرِ, ثُمّ يَنْسِفُ الـجِبـالَ حتـى تَكُونَ الأرْضُ كالأديـم, فَعَهِدَ إلـيّ رَبّـي أنّ ذلكَ إذا كان كذلك, فَإنّ السّاعَةَ مِنْهُمْ كالـحامِلِ الـمُتِـمّ الّتِـي لا يَدْرِي أهْلُها مَتـى تَفْجَوهُمْ بِوِلادِها, لَـيْلاً أوْ نَهارا».
17618ـ حدثنـي عبـيد بن إسماعيـل, قال: حدثنا الـمـحاربـيّ, عن أصبع بن زيد, عن العوّام بن حوشب, عن جبلة بن سحيـم, عن مؤثر بن عَفـازَة, عن عبد الله بن مسعود, قال: لـما أُسْري برسول الله صلى الله عليه وسلم التقـي هو وإبراهيـم وموسى وعيسى علـيهم السلام. فتذاكروا أمر الساعة. فذكر نـحو حديث إبراهيـم الدورقـي عن هشيـم, وزاد فـيه: قال العوّام بن حوشب: فوجدت تصديق ذلك فـي كتاب الله تعالـى, قال الله عزّ وجلّ: حتـى إذَا فُتِـحَتْ يأْجُوجُ ومَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الـحَقّ فإذَا هِيَ شاخِصَةٌ أبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُوا وقال: فإذَا جاءَ وَعْدُ رَبّـي جَعَلَهُ دَكّاءَ وكانَ وَعْدُ رَبّـي حَقّا يقول: وكان وعد ربـي الذي وعد خـلقه فـي دكّ هذا الردم, وخروج هؤلاء القوم علـى الناس, وعيثهم فـيه, وغير ذلك من وعده حقا, لأنه لا يخـلف الـميعاد فلا يقع غير ما وعد أنه كائن.
الآية : 99 و 100
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً * وَعَرَضْنَا جَهَنّمَ يَوْمَئِذٍ لّلْكَافِرِينَ عَرْضاً }.
يقول تعالـى ذكره: وتركنا عبـادنا يوم يأتـيهم وعدنا الذي وعدناهم, بأنا ندكّ الـجبـال ونَنْسِفها عن الأرض نسفـا, فنذرها قاعا صفصفـا, بعضهم يـموج فـي بعض, يقول: يختلط جنهم بإنسهم. كما:
17619ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن هارون بن عنترة, عن شيخ من بنـي فزارة, فـي قوله: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَـمُوجُ فـي بَعْضٍ قال: إذا ماج الـجنّ والإنس, قال إبلـيس: فأنا أعلـم لكم علـم هذا الأمر, فـيظعن إلـى الـمشرق, فـيجد الـملائكة قد قطعوا الأرض, ثم يظعن إلـى الـمغرب, فـيجد الـملائكة قد قطعوا الأرض, ثم يصعد يـمينا وشمالاً إلـى أقصى الأرض, فـيجد الـملائكة قطعوا الأرض, فـيقول: ما من مَـحِيص, فبـينا هو كذلك, إذ عرض له طريق كالشراك, فأخذ علـيه هو وذريّته, فبـينـما هم علـيه, إذ هجموا علـى النار, فأخرج الله خازنا من خُزّان النار, قال: يا إبلـيس ألـم تكن لك الـمنزلة عند ربك, ألـم تكن فـي الـجنان؟ فـيقول: لـيس هذا يوم عتاب, لو أن الله فرض علـيّ فريضة لعبدته فـيها عبـادة لـم يعبده مثلها أحد من خـلقه, فـيقول: فإن الله قد فرض علـيك فريضة, فـيقول: ما هي؟ فـيقول: يأمرك أن تدخـل النار, فـيتلكأ علـيه, فـيقول به وبذرّيته بجناحيه, فـيقذفهم فـي النار, فَتزفر النار زفرة فلا يبقـى مَلَك مقرّب, ولا نبـيّ مرسل إلا جثى لركبتـيه.
17620ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَـمُوجُ فـي بَعْضٍ قال: هذا أوّل القـيامة, ثم نفخ فـي الصور علـى أثر ذلك فجمعناهم جمعا.
وَنُفِخَ فِـي الصّورِ قد ذكرنا اختلاف أهل التأويـل فـيـما مضى فـي الصّور, وما هو, وما عُنِـي به. واخترنا الصواب من القول فـي ذلك بشواهده الـمغنـية عن إعادته فـي هذا الـموضع, غير أنا نذكر فـي هذا الـموضع بعض ما لـم نذكر فـي ذلك الـموضع من الأخبـار. ذكر من قال ذلك:
17621ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, عن أبـيه, قال: حدثنا أسلـم, عن بشر بن شغاف, عن عبد الله بن عمرو, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أن أعرابـيا سأله عن الصّور, قال: «قَرْنٌ يُنْفَخُ فِـيهِ».
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا معاوية بن هشام, عن سفـيان, عن سلـيـمان التـيـميّ, عن العجلـي, عن بشر بن شغاف, عن عبد الله بن عمرو, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, بنـحوه.
17622ـ حدثنا مـحمد بن الـحارث القنطري, قال: حدثنا يحيى بن أبـي بكير, قال: كنت فـي جنازة عمر بن ذرّ فلقـيت مالك بن مغول, فحدثنا عن عطية العوفـي, عن أبـي سعيد الـخُدريّ, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ وَحَنى الـجَبْهَةَ, وأصْغَى بـالأذُنُ مَتـى يُوءْمَرُ» فشقّ ذلك علـى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «قُولُوا حَسْبُنا اللّهُ وَعَلـى اللّهِ تَوَكّلْنا, ولوِ اجْتَـمَعَ أهْلُ مِنًى ما أقالُوا ذلكَ القَرْنَ» كذا قال, وإنـما هو ماأقلوا.
حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا حفص, عن الـحجاج, عن عطية, عن أبـي سعيد الـخُدريّ, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَم القَرْنَ, وَحَنى ظَهْرَهُ وَجَحَظَ بعَيْنَـيْهِ», قالوا: ما نقول يارسول الله؟ قال: «قُولُوا: حَسْبُنا اللّهُ, تَوَكّلْنا علَـى اللّهِ».
17623ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن فضيـل, عن مطرف, عن عطية, عن ابن عبـاس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْن قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ, وَحَنى جَبْهَتَهُ, يَسْتَـمِعُ مَتـى يُوءْمَرُ فَـيَنْفُخُ فِـيهِ», فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف نقول؟ قال: «تَقُولُونَ: حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيـلُ, تَوَكّلنا علـى اللّهِ».
حدثنا أبو كريب والـحسن بن عرفة, قالا: حدثنا أسبـاط, عن مطرف, عن عطية, عن ابن عبـاس, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, مثله.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا شعيب بن حرب, قال: حدثنا خالد أبو العلاء, قال: حدثنا عطية العوفـيّ, عن أبـي سعيد الـخُدريّ, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنى الـجَبْهَةَ, وأصْغَى بـالأُذُنِ مَتـى يُوءْمَرُ أنْ يَنْفُخَ, وَلَوْ أنّ أهْلَ مِنًى اجْتَـمَعُوا علـى القَرْنَ علَـى أنْ يُقِلّوهُ مِنَ الأرْضِ, ما قَدَرُوا عَلَـيْهِ» قال: فأُبِلسَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشقّ علـيهم, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قُولُوا: حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيـلُ, عَلـى اللّهِ تَوَكّلْنا».
17624ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـيّ, عن إسماعيـل بن رافع الـمدنـي, عن يزيد بن فلان, عن رجل من الأنصار, عن مـحمد بن كعب الْقُرَظيّ, عن رجل من الأنصار, عن أبـي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَـمّا فَرَغَ اللّهَ مِنْ خَـلْقِ السّمَوَاتِ وّلأرْضِ, خَـلَقَ الصّورَ, فأعْطاهُ إسْرَافِـيـلَ, فَهُوَ وَضَعَهُ عَلـى فِـيهِ شاخِصٌ بَصَرُهُ إلـى العَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتـى يُوءْمَرُ». قال أبو هريرة: يا رسول الله, ما الصّور؟ قال: «قَرْنٌ». قال: وكيف هو؟ قال: «قَرْنٌ عَظِيـمٌ يُنْفَخُ فِـيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ: الأُولـى: نَفْخَةُ الفَزَعِ, والثّانِـيَةُ: نَفْخَةُ الصّعْقِ, والثّالِثَةُ: نَفْخَةُ القِـيامِ لِرَبّ العالَـمِينَ».
وقوله: فَجَمَعْناهُمْ جَمْعا يقول: فجمعنا جميع الـخـلق حينئذ لـموقـف الـحساب جميعا. وقوله: وعَرَضْنا جَهَنّـمَ يَوْمَئِذٍ للكافِرِينَ عَرْضا يقول: وأبرزنا جهنـم يوم ينفخ فـي الصور, فأظهرناها للكافرين بـالله, حتـى يروها ويعاينوها كهيئة السراب ولو جعل الفعل لها قـيـل: أعرضت إذا استبـانت, كما قال عمرو بن كلثوم:
وأعْرَضَتِ الـيَـمامَةُ واشْمَخَرّتْكأسْيافٍ بأيْدِي مُصْلِتِـينا
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17625ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفـيان, عن سلـمة بن كهيـل, قال: حدثنا أبو الزعراء, عن عبد الله, قال: يقوم الـخـلق لله إذا نفخ فـي الصور, قـيام رجل واحد, ثم يتـمثّل الله عزّ وجلّ فما يـلقاه أحد من الـخلائق كان يعبد من دون الله شيئا إلا وهو مرفوع له يتبعه, قال: فـيـلقـى الـيهود فـيقول: من تعبدون؟ قال: فـيقولون: نعبد عُزَيرا, قال: فـيقول: هل يسركم الـماء؟ فـيقولون نعم, فـيريهم جهنـم وهي كهيئة السراب, ثم قرأ وَعَرَضْنا جَهَنّـمَ يَوْمَئِذٍ للكافِرِينَ عَرْضا ثم يـلقـى النصارى فـيقول: من تعبدون؟ فـيقولون: نعبد الـمسيح, فـيقول: هل يسركم الـماء, فـيقولون نعم, قال: فـيريهم جهنـم وهي كهيئة السراب, ثم كذلك لـمن كان يعبد من دون الله شيئا, ثم قرأ عبد الله وَقِـفوهُم إنّهُمْ مَسْئُولُونَ.


الآية : 101
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { الّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً }.
يقول تعالـى: وعرضنا جهنـم يومئذ للكافرين الذين كانوا لا ينظرون فـي آيات الله, فـيتفكّرون فـيها ولا يتأمّلون حججه, فـيعتبرون بها, فـيتذكرون وينـيبون إلـى توحيد الله, وينقادون لأمره ونهيه, وكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعا يقول: وكانوا لا يطيقون أن يسمعوا ذكر الله الذي ذكّرهم به, وبـيانه الذي بـيّنه لهم فـي إي كتابه, بخذلان الله إياهم, وغلبة الشقاء علـيهم, وشُغْلِهم بـالكفر بـالله وطاعة الشيطان, فـيتعظون به, ويتدبّرونه, فـيعرفون الهدى من الضلالة, والكفر من الإيـمان. وكان مـجاهد يقول فـي ذلك ما:
17626ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعا قال: لا يعقلون.
17627ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, ثنى حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد وكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعا قال: لا يعلـمون.
17628ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله الّذِينَ كانَت أعْيُنُهُمْ فـي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِى... الاَية, قال: هؤلاء أهل الكفر.
الآية : 102
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { أَفَحَسِبَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَن يَتّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيَ أَوْلِيَآءَ إِنّآ أَعْتَدْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً }.
يقول عزّ ذكره: أفظن الذين كفروا بـالله من عبدة الـملائكة والـمسيح, أن يتـخذوا عبـادي الذين عبدوهم من دون الله أولـياء, يقول كلا بل هم لهم أعداء. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17629ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنى حجاج, عن ابن جريج, فـي قوله: أفَحَسِبَ الّذينَ كَفَرُوا أنْ يَتّـخِذُوا عِبـادِي مِنْ دُونِـي أوْلِـياءَ قال: يعنـي من يعبد الـمسيح ابن مريـم والـملائكة, وهم عبـاد الله, ولـم يكونوا للكفـار أولـياء. وبهذه القراءة, أعنـي بكسر السين من أفَحَسبَ بـمعنى الظنّ قرأت هذا الـحرف قرّاء الأمصار. ورُوي عن علـيّ بن أبـي طالب رضي الله عنه وعكرِمة ومـجاهد أنهم قرءوا ذلك أفَحَسْبُ الّذيِنَ كَفَرُوا بتسكين السين, ورفع الـحرف بعدها, بـمعنى: أفحسبهم ذلك: أي أفكفـاهم أن يتـخذوا عبـادي من دونـي أولـياء من عبـاداتـي وموالاتـي. كما:
17630ـ حُدثت عن إسحاق بن يوسف الأزرق, عن عمران بن حدير, عن عكرمة أفَحَسْبُ الّذينَ كَفَرُوا قال: أفحسبهم ذلك.
والقراءة التـي نقرؤها هي القراءة التـي علـيها قرّاء الأمصار أفَحَسِبَ الّذِينَ بكسر السين, بـمعنى أفظنّ, لإجماع الـحجة من القرّاء علـيها.
وقوله: إنّا أعْتَدْنا جَهَنّـمَ للْكافِرِينَ نُزُلاً يقول: أعددنا لـمن كفر بـالله جهنـم منزلاً.
الآية : 103 و 104
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{ قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا مـحمد لهؤلاء الذين يبغون عَنَتَك ويجادلونك بـالبـاطل, ويحاورونك بـالـمسائل من أهل الكتابـين: الـيهود, والنصارى هَلْ نُنَبّئُكُمْ أيها القوم بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً يعنـي بـالذين أتعبوا أنفسهم فـي عمل يبغون به ربحا وفضلاً, فنالوا به عَطَبـا وهلاكا ولـم يدركوا طلبـا, كالـمشتري سلعة يرجو بها فضلاً وربحا, فخاب رجاؤه, وخسر بـيعه, ووكس فـي الذي رجا فضله.
واختلف أهل التأويـل فـي الذين عُنوا بذلك, فقال بعضهم: عُنِـي به الرهبـانْ والقسوس. ذكر من قال ذلك:
17631ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا الـمقبري, قال: حدثنا حيوة بن شريح, قال: أخبرنـي السكن بن أبـي كريـمة, أن أمه أخبرته أنها سمعت أبـا خميصة عبد الله بن قـيس يقول: سمعت علـيّ بن أبـي طالب يقول فـي هذه الاَية قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً: هم الرهبـان الذين حبسوا أنفسهم فـي الصوامع.
حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سمعت حيوة يقول: ثنـي السكن بن أبـي كريـمة, عن أمه أخبرته أنها سمعت عبد الله بن قـيس يقول: سمعت علـيّ بن أبـي طالب يقول, فذكر نـحوه.
17632ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن هلال بن يِساف, عن مصعب بن سعد, قال: قلت لأبـي: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا أهم الـحَرورية؟ قال: هم أصحاب الصوامع.
17633ـ حدثنا فضالة بن الفضل, قال: قال بزيع: سأل رجل الضحاك عن هذه الاَية قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً قال: هم القِسيسون والرهبـان.
17634ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوريّ, عن منصور, عن هلال بن يِساف, عن مصعب بن سعد, قال: قال سعد: هم أصحاب الصوامع.
حدثنا ابن حميد, قال حدثنا جرير, عن منصور, عن ابن سعد, قال: قلت لسعد: يا أبت هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً أهم الـحَرورية, فقال: لا, ولكنهم أصحاب الصوامع, ولكن الـحَرورية قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم.
وقال آخرون: بل هم جميع أهل الكتابـين. ذكر من قال ذلك:
17635ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال حدثنا شعبة, عن عمرو بن مرة, عن مصعب بن سعد, قال: سألت أبـي عن هذه الاَية قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً الّذينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فـي الـحَياةِ الدّنْـيا أهم الـحَرورية؟ قال: لا, هم أهل الكتاب, الـيهود والنصارى. أما الـيهود فكذبوا بـمـحمد. وأما النصارى فكفروا بـالـجنة وقالوا: لـيس فـيها طعام ولا شراب, ولكن الـحَرورية الّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقَطْعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فـي الأرض أُولَئِكَ هُمُ الـخاسِرُونَ فكان سعد يسميهم الفـاسقـين.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن إبراهيـم بن أبـي حُرّة عن مصعب بن سعد بن أبـي وقاص, عن أبـيه, فـي قوله قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً قال: هم الـيهود والنصارى.
17636ـ حدثنا القاسم, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن أبـي حرب بن أبـي الأسود عن زاذان, عن علـيّ بن أبـي طالب, أنه سئل عن قوله: قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً قال: هم كفرة أهل الكتاب كان أوائلهم علـى حقّ, فأشركوا بربهم, وابتدعوا فـي دينهم, الذين يجتهدون فـي البـاطل, ويحسبون أنهم علـى حقّ, ويجتهدون فـي الضلالة, ويحسبون أنهم علـى هدى, فضلّ سعيهم فـي الـحياة الدنـيا, وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ثم رفعِ صوته, فقال: وما أهل النار منهم ببعيد. وقال آخرون: بل هم الـخوارج. ذكر من قال ذلك:
17637ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى, عن سفـيان بن سَلَـمة, عن سلـمة بن كُهَيـل, عن أبـي الطفـيـل, قال: سأل عبد الله بن الكوّاء علـيا عن قوله: قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً قال: أنتـم يا أهل حَروراء.
حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنا يحيى بن أيوب, عن أبـي صخر, عن أبـي معاوية البجلـي, عن أبـي الصهبـاء البكريّ, عن علـيّ بن أبـي طالب, أن ابن الكوّاء سأله, عن قول الله عزّ وجلّ: هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً فقال علـيّ: أنت وأصحابك.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن سلـمة بن كهيـل, عن أبـي الطفـيـل, قال: قام ابن الكوّاء إلـى علـيّ, فقال: مَن الأخسرين أعمالاً الذي ضلّ سعيهم فـي الـحياة الدنـيا, وهم يحسبون أنهم يحسبون صنعا, قال: ويْـلَك أهلُ حَروراء منهم.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن خالد ابن عَثْمة, قال: حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله, قال: ثنـي أبو الـحويرث, عن نافع بن جبـير بن مطعم, قال: قال ابن الكوّاء لعلـيّ بن أبـي طالب: ما الأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم فـي الـحياة الدنـيا؟ قال: أنت وأصحابك.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا, أن يقال: إن الله عزّ وجلّ عنى بقوله: هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً كلّ عامل عملاً يحسبه فـيه مصيبـا, وأنه الله بفعله ذلك مطيع مرض, وهو بفعله ذلك الله مسخط, وعن طريق أهل الإيـمان به جائر كالرهابنة والشمامسة وأمثالهم من أهل الاجتهاد فـي ضلالتهم, وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بـالله كفرة, من أهل أيّ دين كانوا.
وقد اختلف أهل العربـية فـي وجه نصب قوله أعمالاً, فكان بعض نـحويـي البصرة يقول: نصب ذلك لأنه لـما أدخـل الألف واللام والنون فـي الأخسرين لـم يوصل إلـى الإضافة, وكانت الأعمال من الأخسرين فلذلك نصب. وقال غيره: هذا بـاب الأفعل والفُعْلَـى, مثل الأفضل والفُضْلَـى, والأخسر والـخُسْرَى, ولا تدخـل فـيه الواو, ولا يكون فـيه مفسر, لأنه قد انفصل بـمن هو كقوله الأفضل والفُضْلَـى, وإذا جاء معه مفسر كان للأوّل والاَخر, وقال: ألا ترى أنك تقول: مررت برجل حَسَنٍ وجها, فـيكون الـحسن للرجل والوجه, وكذلك كبـير عقلاً, وما أشبهه قال: وإنـما جاز فـي الأخسرين, لأنه ردّه إلـى الأفْعَل والأَفَعَلة. قال: وسمعت العرب تقول: الأوّلات دخولاً, والاَخرات خروجا, فصار للأوّل والثانـي كسائر البـاب قال: وعلـى هذا يقاس.
وقوله: الّذيِنَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فـي الـحَياةِ الدّنْـيا يقول: هم الذين لـم يكن عملهم الذي عملوه فـي حياتهم الدنـيا علـى هدى واستقامة, بل كان علـى جور وضلالة, وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به بل علـى كفر منهم به, وهُمْ يحسَبُونَ أنّهُمْ يُحسِنُونَ صُنْعا يقول: وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون, وفـيـما ندب عبـاده إلـيه مـجتهدون, وهذا من أدلّ الدلائل علـى خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بـالله أحد إلا من حيث يقصد إلـى الكفر بعد العلـم بوحدانـيته, وذلك أن الله تعالـى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم فـي هذه الاَية, أن سعيهم الذي سعوا فـي الدنـيا ذهب ضلالاً, وقد كانوا يحسبون أنهم مـحسنون فـي صنعهم ذلك, وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم. ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بـالله أحد إلا من حيث يعلـم, لوجب أن يكون هؤلاء القوم فـي عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فـيه أنهم يحسنون صنعه, كانوا مثابـين مأجورين علـيها, ولكن القول بخلاف ما قالوا, فأخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم بـالله كفرة, وأن أعمالهم حابطة. وزعنـي بقوله: أنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا عملاً, والصنّع والصنّعة والصنـيع واحد, يقال: فرس صنـيع بـمعنى مصنوع.
الآية : 105
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً }.
يقول تعالـى ذكره: هؤلاء الذين وصفنا صفتهم, الأخسرون أعمالاً, الذين كفروا بحُجج ربهم وأدلته, وأنكروا لقاءه فَحَبِطَتْ أعمالهُمْ يقول: فبطلت أعمالهم, فلـم يكن لها ثواب ينفع أصحابها فـي الاَخرة, بل لهم منها عذاب وخِزي طويـل فَلا نُقِـيـمُ لَهُمْ يَوْمَ القِـيامَةِ وَزْنا يقول تعالـى ذكره: فلا نـجعل لهم ثقلاً. وإنـما عنى بذلك: أنهم لا تثقل بهم موازينهم, لأن الـموازين إنـما تثقل بـالأعمال الصالـحة, ولـيس لهؤلاء شيء من الأعمال الصالـحة, فتثقل به موازينهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17638ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن شمر, عن أبـي يحيى عن كعب, قال: يؤتـى يوم القـيامة برجل عظيـم طويـل, فلا يزن عند الله جناح بعوضة, اقرأوا: فَلا نُقِـيـمُ لَهُمْ القـيامَةِ وَزْنا.
17639ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن الصلت, قال: حدثنا ابن أبـي الزناد, عن صالـح مولـى التوأمة, عن أبـي هريرة, قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَـى بـالأَكُولِ الشّرُوب الطّوِيـلِ, فَـيُوزَنُ فَلا يَزِنُ جَناحَ بَعُوضَةٍ» ثم قرأ فَلا نُقِـيـمُ لَهُمْ يَوْمَ القِـيامَةِ وَزْنا
الآية : 106
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتّخَذُوَاْ آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً }.
يقول تعالـى ذكره: أولئك ثوابهم جهنـم بكفرهم بـالله, واتـخاذهم آيات كتابه, وحجج رسله سُخْريا, واستهزائهم برسله.
الآية : 107 و 108
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً }.
يقول تعالـى ذكره: إن الذين صدقوا بـالله ورسوله, وأقرّوا بتوحيد الله وما أنزل من كتبه وعملوا بطاعته, كانت لهم بساتـين الفردوس, والفردوس: معظم الـجنة, كما قال أمية:
كانَتْ مَنازِلُهُمْ إذْ ذاكَ ظاهِرَةًفِـيها الفَراديسُ والفُومانُ والبَصَلُ
واختلف أهل التأويـل فـي معنى الفردوس فقال بعضهم: عنى به أفضل الـجنة وأوسطها. ذكر من قال ذلك:
17640ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عبـاس بن الولـيد, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة, قال: الفردوس: رَبوة الـجنة وأوسطها وأفضلها.
17641ـ حدثنا أحمد بن سريج الرازي, قال: حدثنا الهيثم أبو بشر, قال: أخبرنا الفرج بن فضالة, عن لقمان, عن عامر, قال: سئل أبو أسامة عن الفردوس, فقال: هي سرّة الـجنة.
17642ـ حدثنا أحمد بن أبـي سريج, قال: حدثنا حماد بن عمرو النصيبـي, عن أبـي علـيّ, عن كعب, قال: لـيس فـي الـجنان جنة أعلـى من جنة الفردوس, وفـيها الاَمرون بـالـمعروف, والناهون عن الـمنكر.
وقال آخرون: هو البستان بـالرومية. ذكر من قال ذلك:
17643ـ حدثنـي علـيّ بن سهل الرملـي, قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثـير, عن مـجاهد, قال: الفردوس: بستان بـالرومية.
حدثنا العبـاس بن مـحمد, قال: حدثنا حجاج, قال: ابن جريج: أخبرنـي عبد الله عن مـجاهد, مثله.
وقال آخرون: هو البستان الذي فـيه الأعناب. ذكر من قال ذلك:
17644ـ حدثنا عبـاس بن مـحمد, قال: حدثنا مـحمد بن عبـيد, عن الأعمش, عن يزيد بن أبـي زياد, عن عبد الله بن الـحارث, عن كعب, قال: جنات الفردوس التـي فـيها الأعناب.
والصواب من القول فـي ذلك, ما تظاهرت به الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك ما:
17645ـ حدثنا به أحمد بن أبـي سريج, قال: حدثنا يزيد بن هارون, قال: أخبرنا همام بن يحيى, قال: حدثنا زيد بن أسلـم, عن عطاء بن يسار, عن عبـادة بن الصامت, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الـجَنّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ, ما بـينَ كُلّ دَرَجَتَـينِ مَسِيرَةُ عامٍ والفِرْدَوْسُ أعْلاها دَرَجَةً, وَمِنْها الأنهَارُ الأرْبَعَةُ, والفِرْدَوْسُ مِنْ فَوْقِها, فإذَا سألْتُـمُ اللّهَ فـاسألُوهُ الفِرْدَوْسَ».
حدثنا موسى بن سهل, قال: حدثنا موسى بن داود, قال: حدثنا همام بن يحيى, عن زيد بن أسلـم, عن عطاء بن يسار, عن عُبـادة بن الصامت, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الـجَنّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ ما بـينَ كُلّ دَرَجَتَـينِ كمَا بـينَ السّماءِ والأرْضِ, أعْلاها الفِرْدَوْسُ, ومِنْها تُفَجّر أنهَارُ الـجَنّةِ الأرْبَعَةُ, فإذَا سألْتُـمُ اللّهَ فـاسألُوهُ الفِرْدَوْسَ».
17646ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثنـي أبو يحيى بن سلـيـمان, عن هلال بن أسامة, عن عطاء بن يسار, عن أبـي هريرة, أو أبـي سعيد الـخُدريّ, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذَا سألْتُـمُ اللّهَ فـاسألُوهُ الفِرْدَوْسَ, فإنّها أوْسَطُ الـجَنّةِ وأعْلَـى الـجَنّةِ, وَفَوْقَها عَرْشُ الرّحْمنِ تَبـارَكَ وَتَعالـى, ومِنْهُ تَفَجّرُ أنهارُ الـجَنّةِ».
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا فلـيح, عن هلال, عن عبد الرحمن بن أبـي عمرة, عن أبـي هريرة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم مثله, إلا أنه قال: «وَسَطُ الـجَنّةِ» وقالَ أيضا: «وَمِنهُ تُفَجّرُ أو تَتَفَجّرُ».
17647ـ حدثنـي عمار بن بكار الكلاعي, قال: حدثنا يحيى بن صالـح, قال: حدثنا عبد العزيز بن مـحمد, قال: حدثنا زيد بن أسلـم, عن عطاء بن يسار, عن معاذ بن جبل, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ فِـي الـجَنّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ, ما بـينَ كُلّ دَرَجَتَـينِ كمَا بـينَ السّماءِ والأرْضِ, والفِرْدَوْسُ أعْلَـى الـجنّةِ وأوْسَطُها, وفَوْقُها عَرْشُ الرّحْمنِ, ومِنْها تَفَجّر أنهَارُ الـجَنّةِ, فإذَا سألْتُـمُ الله فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ».
17648ـ حدثنا أحمد بن منصور, قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث, قال: حدثنا الـحارث بن عمير, عن أبـيه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جَنّاتُ الفِرْدَوْسِ أرْبَعَةٌ, اثْنَتانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْـيَتُهُما وآنِـيَتُهُما, وَما فِـيهِما مِنْ شَيْءٍ, وَاثْنَتانِ مِنْ فِضّةٍ حِلْـيَتُهُما وآنِـيَتُهُما, وَما فِـيهِما مِنْ شَيْءٍ».
17649ـ حدثنا أحمد بن أبـي سريج, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا أبو قدامة, عن أبـي عمران الـجونـي, عن أبـي بكر بن عبد الله بن قـيس, عن أبـيه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جَنّاتُ الفِرْدَوْسِ أرْبَعٌ: ثِنْتانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْـيَتهُما وآنِـيَتُهُما وَما فِـيهِما, وَثِنْتانِ مِنْ فِضّةٍ حِلْـيَتُهُما وآنِـيَتُهُما وَما فِـيهِما».
17650ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن حفص, عن شمر, قال: خـلق الله جنة الفردوس بـيده, فهو يفتـحها فـي كلّ يوم خميس, فـيقول: ازدادي طيبـا لأولـيائي, ازدادي حسنا لأولـيائي.
حدثنا ابن البرقـيّ, قال: حدثنا ابن أبـي مريـم, قال: أخبرنا مـحمد بن جعفر وابن الدراورديّ, قالا: حدثنا زيد بن أسلـم, عن عطاء بن يسار, عن معاذ بن جبل, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ للْـجَنّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ, كُلّ دَرَجَةٍ مِنْها كَمَا بـينَ السّماءِ والأرْضِ, أعْلَـى دَرَجَةً مِنْها الفِرْدَوْسُ».
17651ـ حدثنـي أحمد بن يحيى الصوفـيّ, قال: حدثنا أحمد بن الفرج الطائيّ, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, عن سعيد بن بشير, عن قتادة, عن الـحسن, عن سَمُرة بن جُنْدَب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفِرْدَوْسُ مِنْ رَبْوَةِ الـجَنّةِ, هِيَ أوْسَطُها وأحْسَنُها».
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, قال: أنبأنا إسماعيـل بن مسلـم, عن الـحسن, عن سمرة بن جندب, قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنّ الفِرْدَوْسَ هِيَ أعْلَـى الـجَنّةِ وأحْسَنُها وأرْفَعُها».
17652ـ حدثنـي مـحمد بن مرزوق, قال: حدثنا روح بن عبـادة, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أنس بن مالك أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, قال للربـيع ابنة النضر: «يا أُمّ حارثَةَ, إنّها جِنانٌ, وإنّ ابْنَكِ أصَابَ الفِرْدَوْسَ الأعْلَـى». والفردوس: ربوة الـجنة وأوسطها وأفضلها.
وقوله: نُزُلاً يقول: منازل ومساكن, والـمنزل: من النزول, وهو من نزول بعض الناس علـى بعض. وأما النّزْل: فهو الرّيْع, يقال: ما لطعامكم هذا نَزْل, يراد به الرّيْع, وما وجدنا عندكم نزلاً: أي نزولاً.
وقوله: خالِدِينَ يقول: لابثـين فـيها أبدا لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً يقول: لا يريدون عنها تـحوّلاً, وهو مصدر تـحوّلت, أخرج إلـى أصله, كما يقال: صغُر يصغُر صِغَرا, وعاج يعوج عِوَجا.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17653ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً قال: متـحوّلاً.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, بنـحوه.
17654ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: سمعت مخـلد بن الـحسين يقول: وسئل عنها, قال: سمعت بعض أصحاب أنس يقول: قال: «يقول أوّلهم دخولاً إنـما أدخـلنـي الله أوّلهم, لأنه لـيس أحد أفضل منـي, ويقول آخرهم دخولاً: إنـما أخرنـي الله, لأنه لـيس أحد أعطاه الله مثل الذي أعطانـي».

الآية : 109
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قُل لّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَاتِ رَبّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً }.
يقول عز ذُكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا مـحمد: لَوْ كانَ البَحْرُ مِدَادا لِلقلـم الذي يُكتب به كَلِـماتِ رَبّـي لَنَفِدَ ماء البَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنْفَدَ كَلِـماتُ رَبّـي وَلَوْ جِئْنَا بِـمِثْلِهِ مددا يقول: ولو مددنا البحر بـمثل ما فـيه من الـماء مددا, من قول القائل: جئتك مددا لك, وذلك من معنى الزيادة. وقد ذُكر عن بعضهم: ولو جئنا بـمثله مددا, كأن قارىء ذلك كذلك أراد: لنفد البحر قبل أن تنفد كلـمات ربـي, ولو زدنا بـمثل ما فـيه من الـمداد الذي يكتب به مدادا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17655ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى «ح» وحدثنـي الـحارث قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: البَحْرُ مِدَادا لكلـمات ربـي للقلـم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
17656ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: لَوْ كانَ البَحْرُ مِدَادا لكَلِـماتِ رَبّـي يقول: إذا لنفد ماء البحر قبل أن تنفد كلـمات الله وحكمه.
الآية : 110
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا }.
يقول تعالـى ذكره: قل لهؤلاء الـمشركين يا مـحمد: إنـما أنا بشر مثلكم من بنـي آدم لا علـم لـي إلا ما علـمنـي الله وإن الله يوحي إلـيّ أن معبودكم الذي يجب علـيكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا, معبود واحد لا ثانـي له, ولا شريك فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبّهِ يقول: فمن يخاف ربه يوم لقائه, ويراقبه علـى معاصيه, ويرجوا ثوابه علـى طاعته فَلْـيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِـحا يقول: فلـيخـلص له العبـادة, ولـيفرد له الربوبـية. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17657ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن الربـيع بن أبـي راشد, عن سعيد بن جبـير فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبّهِ قال: ثواب ربه.
وقوله: وَلا يُشْرِكْ بِعِبـادَةِ رَبّهِ أحَدا يقول: ولا يجعل له شريكا فـي عبـادته إياه, وإنـما يكون جاعلاً له شريكا بعبـادته إذا راءى بعمله الذي ظاهره أنه لله وهو مريد به غيره. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17658ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عمرو بن عبـيد, عن عطاء, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس وَلا يُشْرِكْ بِعِبـادَةِ رَبّهِ أحَدا.
17659ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان وَلا يُشْرِكْ بِعِبـادَةِ رَبّهِ أحَدا قال: لا يرائي.
17660ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن عبد الكريـم الـجزري, عن طاوس, قال: جاء رجل, فقال: يا نبـيّ الله إنـي أحبّ الـجهاد فـي سبـيـل الله, وأحبّ أن يرى موطنـي ويرى مكانـي, فأنزل الله عزّ وجل: فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبّه فَلْـيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِـحا وَلا يُشْرِكْ بِعِبـادَةِ رَبّهِ أحَدا.
17661ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد ومسلـم بن خالد الزنـجي عن صدقة بن يسار, قال: جاء رجل إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فذكر نـحوه, وزاد فـيه: وإنـي أعمل العمل وأتصدّق وأحبّ أن يراه الناس وسائر الـحديث نـحوه.
17662ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا عيسى بن يونس, عن الأعمش, قال: حدثنا حمزة أبو عمارة مولـى بنـي هاشم, عن شهر بن حوشب, قال: جاء رجل إلـى عُبـادة بن الصامت, فسأله فقال: أنبئنـي عما أسألك عنه, أرأيت رجلاً يصلـي يبتغي وجه الله ويحبّ أن يُحْمَد ويصوم ويبتغي وجه الله ويحبّ أن يُحْمَد, فقال عبـادة: لـيس له شيء, إن الله عزّ وجلّ يقول: أنا خير شريك, فمن كان له معي شريك فهو له كله, لا حاجة لـي فـيه.
17663ـ حدثنا أبو عامر إسماعيـل بن عمرو السّكونـي, قال: حدثنا هشام بن عمار, قال: حدثنا ابن عياش, قال: حدثنا عمرو بن قـيس الكندي, أنه سمع معاوية بن أبـي سفـيان تلا هذه الاَية: فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبهِ فَلْـيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِـحا وَلا يُشْرِكْ بِعِبـادَةِ رَبّهِ أحَدا وقال: إنها آخر آية أنزلت من القرآن.

نهاية تفسير الإمام الطبري لسورة الكهف